الثلاثاء، 5 يوليو 2016

28-اصمت بعدي!!!

اصمت بعدي!!!
د/منى زيتون
الأحد 20 ديسمبر 2015

في مرحلة الدراسات العليا، وأثناء حضوري إحدى حلقات بحث (سيمينار) قسم ‏علم النفس بكلية التربية بالإسماعيلية، إذا بالأساتذة يسخرون من عميد إحدى كليات ‏التربية بجامعة أخرى؛ والذي يحرص على إرسال نشرة دورية بأسماء كل المواضيع التي قام ‏باحثون في كليته بتسجيل رسائلهم في الماجستير والدكتوراة فيها، كي يمنع أي باحث من ‏التسجيل في المواضيع ذاتها، وأن نشرته لم تعد تُقرأ بل يُلقى بالرسالة دون فتحها في سلة ‏المهملات بمجرد وصولها!‏

وبالنسبة لغير المتخصصين وغير العارفين بطبيعة البحث العلمي، سيبدو لهم ‏تصرف العميد المشار إليه تصرفًا طبيعيًا، بينما الباحثون سيفهمون أنه يظهر درجة عالية من ‏فرط النرجسية والزهو والإعجاب بالذات؛ ذاك أن ما يرمي إليه من تكميم أفواه أي شخص ‏عدا تلاميذه، ومنعه من الخوض في المواضيع العلمية ذاتها، والتي سمح لتلاميذه أن ‏يخوضوا فيها، وقد سبقهم غيرهم –وقائمة المراجع تشهد- هو محاولة منه لإغلاق باب ‏الاجتهاد في العلم -وكأنه لا يكفينا إغلاق باب الاجتهاد في الدين، وما جرّه علينا من تجميد ‏العقول- ورغبةً في منع الباحثين الآخرين من التأمل والبحث والتدقيق في المواضيع ذاتها، ‏وتأصيلًا لما توصل إليه هو وتلاميذه وجعله الصراط المستقيم الذي لا يجوز الحياد عنه!‏

ومنذ سنوات مرّت عليّ أخبار زميلة تدعي أن أستاذًا كبيرًا في كلية ما قد نشر بحثًا ‏يكاد يكون منقولًا من رسالتها للدكتوراة، وأنها ستشكوه وتقاضيه، ثم انتهي الموضوع ‏بعدها، وعندما سألت لأتحرى عن الأمر علمت أن من اطلعوا على البحث المذكور وجدوا ‏فيه اختلافات جوهرية عن رسالة الزميلة بدءًا من الهدف ومرورًا بالتساؤلات المطروحة ‏والمنهج والأدوات والعينة والبرنامج المطبق، والأمر لا يعدو أن يكون قد بحث فقط في ‏الموضوع الذي تطرقت إليه في رسالتها! ظانة أنها قد أتت بما لم يأت به الأوائل، وعليه ‏فيجب على الأستاذ وعلى غيره أن يصمت للأبد ولا ينبس أحدهم ببنت شفة بعد قولها ‏الفصل، وأن يوقف الباحثون في مصر والعالم العربي وربما في العالم بأسره البحث في ذاك ‏الموضوع!‏

وأتساءل، هل يمكن أن تحدث مثل تلك الأمور من باحث في جامعة أجنبية؟ ‏فمن المفترض أن طالب الدراسات العليا قد درس مناهج البحث العلمي وتنمية مهارات ‏التفكير، وأنه قادر على التحليل والمقارنة بين كل طرح يُساق في موضوع معين، ويميز ‏بينها على تعددها ولو بلغت الآلاف، ويعلم أن تراكمية البناء هي جزء من طبيعة الفكر ‏الإنساني، وأن كل فكر جديد إنما ينبني على ما خلّفه الأولون، ولو كان كل جيل يهدم ما ‏قدّمه الجيل السابق عليه ويبدأ من نقطة الصفر لما بُنيت وشُيدت الحضارة الإنسانية.‏

والأمر لا يقتصر على البحث العلمي الرسمي فقط في الجامعات العربية، ولنأخذ مثالًا ‏مشابهًا عن البحث العلمي غير الرسمي، فمنذ أعوام ثارت ثائرة الشباب على الفيسبوك من ‏أتباع واحد ممن يوصفون بالمفكرين الإسلاميين المعاصرين بسبب دعوى أقامها أحد ‏المعتزلة الجدد زاعمًا أن الأول قدم خطبة كاملة عن المعجزات استنادًا لما طرحه ذاك الأخ ‏المعتزلي فيما أسماه بحثًا علميًا له منشور على شبكة الانترنت.‏

وببساطة فقد قمت وقتها بعمل تحليل محتوى لذلك المقال الذي كتبه الباحث ‏المعتزلي، والمنشور بالفعل بتاريخ أقدم من تاريخ خطبة أخينا الأول، وكذا تحليل محتوى ‏الخطبة، لأخرج باستنتاج بسيط أن رأي الأول لا يعادل رأي الثاني، والفروق كثيرة وكبيرة، ‏بل الأدهى أن أيهما لم يأت بأفكار أصيلة تمامًا في الموضوع، والأفكار التي طرحاها في ‏تفسير المعجزات قد سُبقا إليها جزئيًا، طبعًا مع إسهام كل منهما في وضع تصوره الخاص ‏وإضافاته.‏

ثم نشرت تحليل المحتوى المقارن الذي أعددته في مقال على إحدى الصفحات ‏المختصة رغم علمي أن كلا الطرفين تقتله النرجسية والغرور، وأثق عن معرفة بالأول أن ‏مقال الثاني لو كان نُشر بعد خطبته لتوهم مثل ما توهمه الثاني من أنه قد سرق أفكاره ‏السنية غير عابئ بالفروق الكبيرة بينهما، فهو لا يقل نرجسية عن صاحبه، ولكنها كلمة رأيتها ‏حقًا فقلتها رغم أن المنتفع منها لا أراه يستحق الدفاع عنه في هذا الباب بالذات.‏

ولو كان الثاني عاقلًا لفهم أن البحث عن الإيحاء والإلهام شيء عادي، وأنه حتى لو ‏كان أخونا الخطيب قد قرأ مقالته فأوحت له بأن يتحدث في موضوع "المعجزات" فلا بأس ‏ولا ضير في ذلك، والأمر ليس سرقة، وكل كاتب يأخذ أفكار الموضوعات التي يكتب فيها ‏من كلمة أو نقاش فُتح أمامه أو رغبة منه في التعليق على حوادث يسمعها. وأعرف واحدًا ‏ممن يعرفون بالمفكرين العرب يمر على صفحات ومجموعات الفيسبوك يقرأ باحثًا عن ‏الإلهام، ولو كانت الأصالة أن يطرق المرء موضوعًا غير مطروق فما ترك الأولون للآخرين ‏شيئًا، وسيصمت الجميع إذن وتجمد عقولنا، ونتوقف عن إبداء الرأي والتعبير عما يجول ‏في خواطرنا إزاء ما نقرأ ونسمع.‏

وإن كان الأمر يمثل مشكلة كبيرة للباحثين في مجال الرأي والفكر الإنساني فإنه ‏أعوص وأوسع ضررًا في مجال إبداء الرأي في المسائل والقضايا الدينية، فكثيرًا ما سمعنا ‏نقدًا لإغلاق باب الاجتهاد الديني، ومنذ كنا صغارًا أُطلقت أمامنا تلك المقولة وذلك النقد ‏عمن تراه قال إن رأيي لا يحل لأحد أن يجتهد فيه بعدي، وهل يوجد أحد قال ذلك؟! ‏ولكنها تبقى مقولة ودعوى فارغة لا ننفك فيها عن ترديد كلام ينزع للمثالية لكوننا لسنا ‏ماهرين في التطبيق، فالقول كما ذكرنا، أما لسان حالنا الناطق فيقول: "لا ينبغي لأحد أن ‏يجتهد ويكون له رأي بعدي".‏

لذا أدعي أن هؤلاء ممن يريدون منع الناس من إبداء الرأي في مواضيع سبق أن ‏اجتهدوا فيها نرجسيون وعقولهم خربة تفتقد القدرة على التفكير السليم، وكلما كان الطرح ‏الآخر جديدًا وبعيد الصلة عما سبق وطرحوه دل على مزيد من خراب عقولهم وفساد ‏تفكيرهم، أما تلاميذهم –في حال كان لهم تلاميذ- فهم متعصبون إلى أشد درجات ‏التعصب. وسأفصل لأجل التوضيح.‏

فالنرجسية تعني حب النفس، وهي اضطراب في الشخصية يجعلها تتميز بالغرور ‏والتعالي والشعور الزائد المتضخم بالأهمية، والمستويات العالية من النرجسية تجعل ‏الشخص يميل لإعطاء قيمة عالية لأفعاله وآرائه ظانًا منه أن كل ما يصدر عنه عظيم التأثير ‏في كل من يتعرض له. ولدى النرجسي حاجة شديدة للشعور بإعجاب من حوله، مع إظهار ‏عدم مبالاته بهذا الإعجاب! وقد يُظن أن من هذا حاله لديه ثقة عالية بالنفس، ولكنه في ‏الحقيقة يفتقد الثقة بشدة، ما يجعله لا يتحمل أقل درجات النقد. وعندما تصل به النرجسية ‏إلى تصور أن كل من ينقده يظلمه ولا يتحرى فيه العدل فهذا يعني أن الحالة قد ‏أصبحت ‏ميؤوسًا منها.‏

وغالبًا ما يكون ذلك النرجسي من نوعية "أبي العُريف" الذي يدعي أنه خبير في ‏أشياء كثيرة، بينما هو ليس أكثر من فقاعة هواء تقرأ وتتقيأ ما قرأته توًا، ولا قدرة له على دمج ‏مصادر عديدة من المعلومات والخروج برؤية خاصة، فهو لا يستلهم الموضوعات التي يختار ‏إبداء رأيه فيها وحسب، وإنما يبغبغ بأفكار غيره دون إضافات، ثم يلصق الاتهام بمن يتوهم ‏تأثرهم به! ‏

فالأدهى والأشد نكاية ليست فيمن يطلب من غيره الصمت بعده عن طرح رأيه في ‏موضوعات سبق وأن تطرق لها، وإنما فيمن ينقل ويستنسخ أفكار آخر في الموضوع دون أن ‏يكون لديه جديد، وربما توسع في تلك الأفكار بإضافة مزيد من النقول أو المراجع، وهذه ‏هي الإضافة الوحيدة التي قد يقوم بها، ثم يحاول إيهام تلاميذه أن غيره ممن سبقه إلى ‏الحديث في موضوع ما هو الذي استلهمه منه ونقل أفكاره، وأنه سبق وتكلم فيه منذ زمن! ‏وقد رأيت وسمعت هذه الحالة بنفسي مرارًا.‏

ومن خلال متابعتي للعديد منهم اتضح لي أن إدعاءاتهم ما هي إلا حيلة إسقاط ‏دفاعية، وأن اتهامهم الكاذب للآخرين بسرقة أفكارهم هو تغطية وتعمية عما يفعلونه بأفكار ‏من سبقوهم التي ينقلونها غالبًا دون إضافة حقيقية، والسبب ببساطة أن النرجسي لديه ‏دائمًا مشاكل في التمييز بين ذاته وبين الآخرين، ويرى في نفسه تشابهًا –قد يكون متوهمًا- ‏بينه وبين من يعجبه منهم، ومن ثم فأفكارهم هي أفكاره الأصيلة، ولا يستشعر أنه يسرقها ‏دون أن ينسبها لهم على المستوى الشعوري، لكن على المستوى اللاشعوري يشعر بالعار ‏ويلجأ للإسقاط على الآخرين لمداراة فعلته. فكل من أتى بجديد أو بتحليل عميق لما سبق ‏أن ذكره هو عرضًا في سياق سطحي تافه هو السارق! ولو كان دليل سرقته عنوانًا أو كلمة ‏عرضية! ومهما اختلف المحتوى فهو سارق لأفكاره السنية! لأن النرجسي غير قادر على تمييز ‏رأيه عن رأيهم كما أسلفت.‏

ومما يظهر أيضًا افتقاد هؤلاء النرجسيين لمهارات التفكير البسيطة -ولن أقول مهارات ‏التفكير المركبة-، فمن يعتقد أن غيره ليس أصيلًا في أفكاره لأنه تحدث في موضوع سبق أن ‏تحدث هو فيه، أو حتى ألمح إليه جزئيًا في سياق موضوع آخر، مع عدم ملاحظته تقديم ‏ذلك الشخص الآخر فكرًا يختلف عما طرحه هو، إنما يفتقد حتى المهارات البسيطة كالتحليل ‏والمقارنة، وإلا لأمكنه فهم الفروق بين الأطروحات.‏

ومما يزيد الطين بلة أن يكون لهؤلاء النرجسيون أحيانًا تلاميذ يتعصبون لهم، ‏فالمتعصبون يعز عليهم أن يروا أستاذهم يُنقد أو يؤتى برأي أعمق من رأيه ومما ساقه من ‏أفكار، فيلجأون إلى الكذب بشأن قيمة ما يعرضه المفكرون الآخرون ولا مانع من الإدعاء ‏بأنهم سارقون من أستاذهم بغض النظر عن قوة الدليل الذي يقدمونه أو ضعفه للاحتجاج ‏على دعاواهم، بينما حين ينعكس الوضع ويُتهم أستاذهم بسرقة أفكار غيره والبناء عليها ‏يصابون فجأة بانفتاح فكري ويكونون أكثر الناس نعيقًا بخصوص فساحة الثقافة الإنسانية ‏وحرية الرأي والاختلافات الفكرية التي تثري الإنسانية.‏

أحدهم أعد منذ سنوات سلسلة حلقات فيديو كاملة في موضوع معين سبق أن ‏طرحه مفكر غيره في كتاب، ثم غضب من ذاك المفكر لأنه لم ينفِ للناس أن صاحب ‏السلسلة قد تأثر به رغم أنه من الواضح تمامًا أنه فعلًا قد تأثر به! والأنكى أن صاحب ‏السلسلة عاد بعدها بسنوات وانتقى موضوعه في رسالة الدكتوراة ليكون الموضوع نفسه ‏الذي تناوله أخونا المفكر الثاني في أحد كتبه، ودفع صاحب الرسالة عن نفسه عندما سُئل ‏عن الأمر بأن رسالته بها أبواب أكثر وتتناول موضوعات فرعية أكثر فهي أعقد وأشمل وأنه ‏عاد إلى مراجع كثيرة للغاية لم يرجع إليها المفكر الثاني في كتابه، وعن نفسي فقد راجعت ما ‏ذكر صاحب الرسالة ووجدته محقًا فيه، وقطعًا يحق له ولغيره أن يبحث في أي موضوع ‏طالما يأتي بجديد، لكن يبقى السؤال الهام: لماذا تتوهم أيها النرجسي أن غيرك يأخذ منك ‏أفكاره حتى لو كانت تلك الفكرة مجرد شيء عرضي ذكره كاتب آخر معلقًا عليه وذاكرًا وجهة ‏نظره، بينما تتجاهل تأثير غيرك في سلاسلك بل وفي رسالتك للدكتوراة؟!‏

وأخيرًا، فليست دعوتي إلى الانفتاح العقلي في مقالتي هذه هي دعوى إلى الفوضى أو ‏السماح بالسرقة والنقل والتقليد، بل هي دعوى للنرجسيين للتخفيف من نرجسيتهم، وأن ‏يتوقفوا عن توهم قيمة أكبر من قيمتهم وقيمة آرائهم وما يطرحونه، والتخفيف من النظر ‏لطروحات الآخرين بتعالي وعجرفة، والتعامي عما فيها من طرح جديد يختلف بل قد يكون ‏أعلى قيمة من طروحاتهم، التي علمتني التجارب أن كثيرًا منها تكون منقولة.‏