الثلاثاء، 5 يوليو 2016

38-لعبة الدين والسياسة

38-لعبة الدين والسياسة
د/منى زيتون
‏19 مارس ‏‏2016‏
مزيد على هافينغتون بوست عربي على ثلاثة أجزاء (4، 11، 18 يونيو 2017)
29 مايو 2019


هناك مبدأ رئيسي في السياسة يقول: (فرّق تسُد). فكيف والفُرقة قائمة أصلًا؟ ولطالما استثمر ‏السياسيون عبر التاريخ الاختلاف العقدي والتمذهب الفقهي في تدعيم دولهم.‏
منذ حدثت الفتنة الكبرى بين المسلمين، وما تلاها وصولًا إلى بغي معاوية بن أبي سفيان على سيدنا عليّ، تصدّعت وحدة المسلمين، وانقسموا إلى حزبين، ثم ظهر الخوارج وافترقوا فرقًا، وظهر تصنيف السُنة والشيعة في مرحلة تالية على خلفية الحوادث السياسية والموقف منها، ثم ظهر أئمة الإسلام وتحلّق الناس حولهم لينتفعوا بعلمهم، وأصبح لكل واحد منهم أتباعًا، ثم دَرست مذاهب بعضهم، وبقيت مذاهب آخرين، وصار البيت الإسلامي ممزقًا إلى فرق، بين كل منها والأخرى درجات من التقارب من حيث العقيدة والفقه تزيد وتقل، ليتحدد من خلالها درجة التطرف المحتملة بين أتباع كل منهما.
وبالحديث عن التطرف، سنجده ينقسم من حيث الفاعلين له، إلى تطرف عوام الناس، وتطرف كبرائهم؛ الذين هم الأمراء والعلماء. وحقيقة الأمر أن العوام لولا هؤلاء الكبراء ما تطرفوا. ولكل مذهب عقدي أو فقهي رأيه في كل مسألة، بل وأحيانًا يختلف العلماء تحت مظلة المذهب الواحد؛ ومن ثم فالتنافر بين العلماء قد يكون مفهومًا، خاصة مع نقص التسامح، وزيادة التحاسد فيما بينهم. أما بالنسبة للسياسيين، فأحيانًا يسلكون مسلك عوام الناس في التعصب لمذاهبهم، والتطرف ضد مخالفيهم، بسبب ما فهموه من مشايخهم، وأحيانًا يستغلون التمذهب لتوطيد ملكهم؛‏ فكثيرًا ما كانت تبرز الخلفيات السياسية وليست الدينية وراء دعم الخلفاء والأمراء لمذهب واضطهاد آخر. كما اختلفت أساليب السياسيين في الترويج لما يرغبون من مذاهب، ما بين أساليب تعليمية تثقيفية بإقامة المدارس وترسيم كبار العلماء لتدريس العقيدة والمذهب الفقهي، وأساليب قمعية بفرض ‏المعتقدات جبرًا، أو موالاة من يدينون بعقيدته أو مذهبه، ورأينا عبر تاريخنا أمثلة على كل أسلوب ‏منها.‏
في عهد الأمويين، اُضطهد أهل العراق باعتبار أغلبهم متشيعين لسيدنا علي –رغم أنه لم يلق منهم نُصرة حقيقية تليق بالمسمى الذي أطلقوه على أنفسهم-، وأرسل إليهم الأمويون المُبير الحجاج الثقفي حاكمًا ليُخرس أي ثورة ظنوا أنها قد تنشب من بينهم. وكانت المذاهب الدينية لم تتشكل بعد، حيث كان مسمى الشيعة مصطلحًا سياسيًا ليس له مدلول ديني. كما حارب الأمويون الخوارج، مثلما فعل كل خلفاء وملوك المسلمين بدءًا من سيدنا علي، وكانت حربهم ضد الخوارج، لتكفير الأخيرين إياهم.
ثم بزغ نجم بني العباس، وملكوا. وكان أساس دعوتهم لأنفسهم أن العم أولى من البنت؛ لذا فهم أحق بالخلافة –والتي لم تكن في حقيقتها سوى ملك-. من ثم، كان من مصلحتهم أن ينتشر علم الأئمة من غير العلويين، كي لا ترتفع أسهم العلويين لدى العامة، وربما كان للعباسيين قدم السبق في تشكيل ونحت وبلورة مفهوميّ (السُنة/الشيعة) ببعديهما الدينيين.
وفي العصر العباسي الذهبي توالى ظهور المذاهب الإسلامية السُنية والشيعية، كما عرف المسلمون عقائد المعتزلة والأشعرية والماتريدية والحنابلة وغيرها. وقد ظهر أئمة السُنة أصحاب المذاهب المتبوعة تباعًا في عهود خلفاء بني العباس الأوائل، فكان الأخيرون يطلبونهم، ويراسلونهم، ولم يكن التقليد قد فشا بين المسلمين ليُقال أنهم تمذهبوا بمذاهبهم.
وكانت لاعتقادات الخلفاء والأمراء والوزراء أثرها على العوام؛ فعندما اعتنق الخلفاء المأمون والمعتصم والواثق بعض عقائد المعتزلة، وأهمها اعتقادهم بخلق القرآن، وامتلأ بلاطهم بحاشية معتزلية، أرادوا فرض معتقدهم ذاك على عموم المسلمين؛ علمائهم قبل عوامهم. ولم يكونوا بِدعًا من الخلفاء، عندما فرضوا ما يعتقدون.
وبعد تولي المتوكل، وانقشاع محنة خلق القرآن، ساد التسنن، ودعمه خلفاء بني العباس، ثم نشأ بعد ذلك سبب آخر لدى العباسيين ليدعموا التسنن، وهو قيام كثير من الدول الشيعية حولهم، وأهمها دولة الفاطميين (296- 567ه‍)، والتي رأي فيها العباسيون أكبر خطر محدق بهم من بين كل الدول التي كانت قد بدأت تتشكل في أرض الخلافة. وقد قابلها العباسيون بعدة طرق؛ منها الطعن في نسب الفاطميين، والتشديد على شيعة بغداد، وإطلاق يد الحنابلة فيهم لترويعهم، والذي جعل بغداد مسرحًا متجددًا للفتن بدءًا من القرن الرابع الهجري.
في العصر العباسي الثاني، كانت قد ضعُفت الدولة العباسية، وأصبح منصب الخليفة منصبًا شرفيًا، حيث ظهرت دول ببعض المناطق التابعة لسلطان العباسيين، استقل بها أصحابها تحت مظلة ورعاية شرعية الخلافة، وكان لأمراء تلك الدول –بل ووزرائهم- الأمر والنهي بعاصمة الخلافة، رغم وجود الخليفة. وكان من بين ما يتحكمون فيه هو مذاهب الرعية.
لم تعرف الشيعة في القرن الرابع الهجري الاضطهاد سوى في بغداد، وكان اضطهادهم من جانب الحنابلة. أما في خارج بغداد فكانوا في أحسن حال، بالرغم من ذلك كان العداء باديًا بين صنوف الشيعة عندما سادت دولهم في القرن الرابع. وإذا أردنا تتبع القصة من أولها، فإنه في نهاية القرن الثالث الهجري ظهرت الدولة الحمدانية في حلب والموصل، تحديدًا سنة 293هـ، وكان بنو حمدان من الشيعة الإمامية، ثم تبعتها الدولة الفاطمية سنة 296هـ، حيث ظهرت في المغرب العربي، وكانوا شيعة إسماعيلية، وكان أمر القرامطة الخوارج، الذين أقاموا دولتهم في البحرين، قد بلغ من الفسق مبلغه، حتى أنهم نزعوا الحجر الأسود من مكانه، وأخذوه إلى بلادهم سنة 317هـ، وهؤلاء القرامطة كانوا قد انشقوا عن الفاطميين الإسماعيلية، وفي سنة 321هـ علا شأن بني بويه في بلاد فارس، وكانوا شيعة إمامية وفيهم اعتزال، ودخلوا بغداد سنة 334هـ، ولانشغال البويهيين بمعارك على جبهتهم الشرقية لم يتمكنوا من توسيع نفوذهم ودخول الشام، وإذا بالفاطميين سنة 358هـ يملكون مصر، ثم بعدها بعامين يملكون الشام. ولم يحدث بين هذه الدول الشيعية الأربع تحالف وتآزر، وإلا لكانوا قضوا على الخلافة العباسية، بل على العكس تناحروا، بسبب المصالح السياسية أولًا، ولأنهم لم يروا أنفسهم فريقًا واحدًا بسبب الاختلاف بينهم على الإمامة.
كانت بين البويهيين والحمدانيين صراعات، فلمَّا دخل الفاطميون دمشق في صفر سنة 360هـ، اصطلح أبو تغلب ابن حمدان مع بختيار عز الدولة البويهي، وعقد على ابنته وعمرها ثلاث سنين!! في الشهر نفسه، ثم حدثت بين الفاطميين والخوارج القرامطة حروب، واللافت هو ما حكاه ابن كثير من مساعدة البويهيين للقرامطة ليأخذوا الشام ومصر من الفاطميين أواخر سنة 360هـ. قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج15، ص327) "وكان رئيس القرامطة وأميرهم الحسين بن أحمد بن بهرام، وقد أمده عز الدولة –البويهي- من بغداد بسلاح وعُدد كثيرة". وذكر ابن كثير في البداية والنهاية (ج15، ص405) أنه في سنة 371هـ "قد سُرق شيء ‏نفيس لعضد الدولة البويهي، ولم يُعرف من أخذه. ويُقال أن صاحب مصر –الفاطمي- بعث من ‏فعل هذا!!".
ووصل العداء إلى حد الاستنجاد بالروم على بعضهم البعض. يذكر محمد جمال الدين سرور في "تاريخ الدولة الفاطمية" (ص372) أن "أبا الفضائل ابن حمدان، لمّا علِم بتوغل الفاطميين في بلاد الشام، استنجد بإمبراطور الروم باسيل الثاني؛ فأمدّه الإمبراطور بحملة"، ثم أنه بعد أن انتصر الفاطميون على حملة البيزنطيين سنة 381هـ، ثم حاصر الفاطميون حلب، "اضطر أميرها إلى الاستنجاد بالإمبراطور البيزنطي مرة ثانية".
وكان حكام كل دولة من تلك الدول الشيعية ينشرون مذهبهم بين رعيتهم، ويحاربون ما عداه، كما بدأ الشيعة أواخر القرن الثالث الهجري إنشاء مدارس للعمل على نشر علوم مذهبهم، وغيرها من العلوم. أورد ابن الجوزي في "المنتظم" (ج14، ص366) أنه في سنة 383هـ "ابتاع أبو نصر سابور بن أردشير دارًا في الكرخ –محلة للشيعة ببغداد- بين السورين، وعمرها وبيَّضها وسمَّاها: دار العلم، ووقفها على أهله –يعني الشيعة-، ونقل إليها كتبًا كثيرة ابتاعها وجمعها وعمل لها فهرستًا"أهـ. كما ذكر من ترجموا للشريف الرضى أنه قد أنشأ مدرسة لطلبة العلم ببغداد. وكذا نشر الفاطميون التشيع بمصر من خلال إسناد المناصب العليا والقضاء للشيعة، ونشر دعاة المذهب في سائر ربوع مصر، كما ذكر المقريزي في "الخطط" (ج2، ص342) أنه في سنة 395هـ "فُتِحت دار الحكمة بالقاهرة، وجلس فيها القرّاء، وجُلب الكتب إليها من خزائن القصور، ودخل الناس إليها، وجلس فيها القرّاء والفقهاء والمنجمون والنحاة وأصحاب اللغة والأطباء، وحصل فيها من الكتب في سائر العلوم ما لم يُر مثله مجتمعًا، وأُجرِي على من فيها من الخدّام والفقهاء الأرزاق السنية"أهـ. وكانت تلك طريقتهم السلمية في نشر التشيع، وإن كان لم يخل الأمر من فتن وطرق غير سلمية. وسيكون لهذه الأساليب التعليمية أثرها في نشر التشيع، وسيقابلها السُنة بعد ذلك في منتصف القرن الخامس بمشروع مضاد لنشر التسنن، بإنشاء النظاميات وما تلاها من مدارس سُنية.
منذ وطئت أقدام البويهيين الشيعة بغداد سنة 334هـ، معلنين نهاية العصر الذهبي لبني العباس، استقوى بهم شيعة بغداد أمام الحنابلة الذين كانوا قد أفرطوا غاية الإفراط في تطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقًا لمفهومهم بما حوّله إلى غوغاء وفوضى. ظهر هذا الاستقواء في أجلى حالاته خاصة في السنوات الأولى للبويهيين قبل وفاة معز الدولة البويهي، وكذا في سنوات حكم عضد الدولة البويهي. وبدأت في عهد البويهيين طقوس الشيعة في النواح بعاشوراء والاحتفال بالغدير، واستمر حكمهم في العراق وما يتصل به من بلاد فارس حتى سنة 447هـ، ولكن قواهم قد ضعُفت من أواخر القرن الرابع، وكان لهذا الضعف أثره على مسرح الحوادث.
وقد غلب على الخلفاء العباسيين في العصور المتأخرة لبني العباس، الميل إلى الحنابلة، فدعموهم، وربما كان هذا من أسباب إطلاق أيدي الحنابلة على الشيعة، ولم يكن هذا اقتناعًا فقط من أغلب الخلفاء بالمعتقد بل كان أيضًا تحقيقًا لمصالح سياسية؛ بسبب تربص الفاطميين للانقضاض على الخلافة، فرأى الخلفاء العباسيون ضرورة قمع الشيعة كي لا يتواطؤوا معهم. وقد رأينا مثالًا بما حدث في فتنة البساسيري منتصف القرن الخامس الهجري؛ ومحاولة تسليم بغداد للفاطميين، ومؤازرة الشيعة لهذا التحرك. كما أن البويهيين الشيعة المائلين للاعتزال، عندما دخلوا بغداد أهانوا مقام الخلافة بما لم يحدث له نظير من قبل ومن بعد، ووصل الأمر لخلع وسجن الخلفاء –وإن كان السلاجقة السُنة أيضًا قد حدثت منهم خطوب تسببت في مقتل الخليفة المسترشد وابنه الراشد، وغيرها-؛ لذا وبناء على هذه المقدمات، فقد تعدى الأمر من مجرد الدعم الخفي من الخلفاء للحنابلة إلى أن صرّح الخليفة القادر بالله بأنه على عقيدة الحنابلة، واستقوى على البويهيين بالغزنويين من بيت سُبكتكين الذين برزوا في بلاد فارس، وكانوا سُنة كرّامية ذوي عقيدة تجسيمية، كما كتب القادر بالله محضرًا بالطعن في نسب الفاطميين سنة 402هـ، وأشهد عليه الأشراف. كذا استتاب ‏القادر بالله المعتزلة والشيعة‏ من عقائدهم، ومنعهم من تدريسها سنة 408هـ، ثم ‏كتب كتابًا عُرف باسم "العقيدة ‏القادرية"، يوافق عقيدة الحنابلة، ألزم فيه الرعية بأن هذا هو ‏اعتقاد المسلمين الصحيح. وكان ابنه القائم ‏بالله أيضًا حنبليًا، ‏وقد جاوزت مدة خلافتهما معًا خمسًا وثمانين سنة؛ وربما كانت شدة القادر والقائم على الشيعة، سببًا أساسيًا في تمرد الشيعة ومؤازرة البساسيري في فتنته، والتي استهدفت خلع القائم بالله، ومبايعة الخليفة الفاطمي.
وقد شكّلت وفاة القائم بالله خسارة كبيرة للحنابلة، خاصة في الوقت الذي دعم فيه وزير السلاجقة نظام الملك العقيدة الأشعرية. وقد دارت الأيام بعد ذلك، حتى حلّ وقت زمن سقوط بغداد في أيدي التتار، في القرن السابع الهجري، وأظهر التتر فيه التشيع بالعراق، فأمروا الخطباء أن لا يأتوا على سيرة أحد من ‏الصحابة إلا علي بن أبي طالب وولديه رضي الله عنهم، واضطروا بذلك الخطباء والفقهاء الحنابلة ‏ببغداد أن يفعلوا ما كانوا يقيمون الدنيا على الشيعة لأجله!
دخل السلاجقة بغداد سنة 447هـ، وكانوا سُنة أحناف، ولكن كان وزير السلطان ألب أرسلان، والذي وزر من بعده لابنه السلطان ملكشاه هو الوزير نظام الملك الأشعري الشافعي، واستمر بالوزارة 29سنة متصلة، لم يُنكب فيها. أنشأ في مدة وزارته المدارس النظامية ببغداد ونيسابور وبلخ وهراة وأصفهان والبصرة والموصل ومرو وطبرستان، وأجرى الرواتب على الفقهاء وطلاب العلم، وكانت تلك المدارس مخصصة لتدريس العقيدة الأشعرية والمذهب الشافعي، ورغم أن أغلب المالكية أشاعرة إلا أنه كان يُشترط لتعيين مدرس في مدرسة نظامية أن يكون شافعيًا، ثم وزر من بعده الوزير تاج الملك أبو ‏الغنائم، والذي كان قد أنشأ المدرسة التاجية أيضًا لتدريس المذهب الشافعي، فكان على نهج نظام الملك فيما يخص المذاهب رغم كونه من خصومه السياسيين –وإن كان لم تطل مدته في الوزارة فمات بعد نظام الملك والسلطان ملكشاه بشهور-، فارتفع نجم الأشاعرة ومعها المذهب الشافعي ببلاد فارس والعراق. وسبحان مغير الأحوال، لأنه قبلها بعشر سنوات، عندما وزر عميد المُلك الكندري المعتزلي للسلطان طُغرلبك السلجوقي لُعن الأشاعرة على المنابر بنيسابور وسائر بلاد فارس!
وقد أثرّت المدارس التي أنشأها الخلفاء والأمراء والوزراء في نشر بعض المذاهب، خاصة الشافعي، حيث لم يكن يتعلم بأي مدرسة إلا من أراد التمذهب بمذهب علمائها، أصولًا وفروعًا. كانت النظاميات جزءًا أساسيًا من مشروع نظام المُلك لنشر التسنن في مقابل التشيع الذي كان قد ساد بمذاهبه المختلفة في أواخر القرن الثالث وطوال القرن الرابع الهجريين. وقد أدرك حنابلة بغداد بعد فترة أنه قد نشأ لهم معارض جديد من جنسهم، فالنظاميات تنشر العقيدة الأشعرية التي تختلف اختلافًا كبيرًا عن عقيدتهم التجسيمية، وإن كانوا سُنة. وسنرى أنه عندما حدثت الخلافات بين الخلفاء العباسيين والسلاجقة، واستقوى العباسيون، ولّى الخليفة المقتفي لأمر الله الوزارة الوزير الحنبلي ابن هُبيرة، والذي حدثت في عهده الكثير من المضايقات لعلماء المدرسة النظامية ببغداد الأشاعرة.
وقد سار الزنكيون، وكانوا عمال السلاجقة في الشام على هديهم، فبنى نور الدين محمود زنكي، أكبر دار للحديث في دمشق في القرن السادس الهجري، وولّاها للحافظ الأشعري ابن عساكر، كما بنى نور الدين محمود المدارس الكثيرة للحنفية والشافعية، وبعض المدارس للمالكية والحنابلة. كما شرع نور الدين محمود في إنشاء مدرسة كبيرة للشافعية بدمشق ‏‏سنة 568هـ، فأدركه الأجل قبل ذلك، وهي العادلية الكبيرة التي عمرها بعده الملك العادل أبو ‏‏بكر بن أيوب.
وعندما ملك السلطان صلاح الدين يوسف الأيوبي مصر، كان من خدامه: عماد الدين الأصفهاني وبهاء الدين شداد الذين كانا ممن تتلمذوا في المدرسة النظامية ببغداد. وفي سنة 566هـ، عزل صلاح الدين قُضاة مصر؛ لأنهم كانوا ‏‏شيعة، وولّى القضاء بها لصدر الدين عبد الملك بن درباس الماراني الشافعي، واستناب ‏‏في سائر الأعمال الشافعية، وبنى مدرسة للشافعية، وأخرى للمالكية. واشترى ابن أخيه تقي ‏‏الدين عمر بن شاهنشاه دارًا كانت تُعرف بمنازل العز، وجعلها مدرسة للشافعية، وأوقف عليها ‏‏الروضة وغيرها. كما أمر الناصر صلاح الدين ببناء مدرسة للشافعية على قبر الإمام الشافعي ‏‏بمصر سنة 572هـ. ذكر الأخبار ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج16، ص447-519).‏ وتتابع بناء المدارس الشافعية بمصر في العصر الأيوبي حتى بلغ عددها 14 مدرسة، وبهذا وجدت العقيدة الأشعرية والمذهب الشافعي فرصة ذهبية للانتشار بين العامة في مصر والشام. كما خُصصت عشر مدارس للمالكية، وهم أيضًا أشاعرة، ومدرسة تدرس كلا المذهبين الشافعي والمالكي، وست مدارس للحنفية، وفي نهاية العصر الأيوبي بنى الملك الصالح نجم الدين أيوب المدرسة الصالحية، وهي أول مدرسة تُدرِّس المذاهب الأربعة.
وعلى ذكر مصر، يُقال إنه لم يُعرف الحنابلة بمصر إلا في عهد الأيوبيين، لأن العقيدة والمذهب الحنبليين لم يبدآ في الانتشار خارج بغداد إلا في القرن الرابع الهجري، وكانت مصر وقتها تحت الحكم الفاطمي، وإن لم ينتشر المذهب بها إلا عندما ولي القضاء للحنابلة موفق الدين عبد الله الحجاوي لما يزيد عن الثلاثين عامًا (738-769هـ)، وكان ذلك في دولة المماليك.
وكان من تلاميذ المدرسة النظامية ببغداد أيضًا عبد الله بن تومرت مؤسس دولة الموحدين، والذي عمل على نشر العقيدة الأشعرية بطرابلس الغرب وما تلاها من بلاد المغرب العربي. فسادت بها لكن مع المذهب المالكي؛ ذلك أن المعز بن باديس لمّا خلع طاعة الفاطميين في القرن الخامس الهجري، أنهى الوجود الشيعي في شمال أفريقيا، ولم يكتف بذلك، بل أصرّ على إعادة الناس إلى مذهب الإمام مالك تحديدًا من بين مذاهب أهل السُنة، وكان المذهب المالكي الأكثر شيوعًا في الشمال الأفريقي قبل ظهور الفاطميين، كما كان أغلب الأحناف بالمغرب العربي معتزلة، وهو متحول للتبعية للخليفة العباسي القائم بأمر الله الحنبلي، ابن الخليفة القادر بالله، والمذهب الحنفي لا يستقيم وهذا التغيير السياسي الذي أحدثه، فاختار مذهب مالك. يقول الذهبي في ترجمته بـ "السير" (ج18، ص140) "وكان مذهب الإمام أبي حنيفة قد كثُر بإفريقية، فحمل أهل بلاده على مذهب مالك حسمًا لمادة الخلاف"أهـ.
وعودة للعقائد فنقول: إن نظام الملك قد تسبب ببنائه النظاميات في نشر العقيدة الأشعرية من أقاصي بلاد فارس شرقًا وحتى بلاد المغرب بالعلم وليس بحد السيف، كما تسبب في نشر المذهب الشافعي، وتحول كثير من العلماء والفقهاء إليه ليحظوا بفرصة التدريس بالمدارس النظامية. ولكن هذا لا ينفي أنه قد انتشرت مدارس كثيرة لتدريس باقي المذاهب السُنية بخلاف الشافعي.
ثم بأمر السلطان الظاهر بيبرس انحصرت المذاهب الفقهية السُنية المتبوعة في المذاهب الأربعة المعروفة لنا الآن فقط. وصار لأهل كل مذهب قاض، وقد يصل التعصب بينهم لحد الافتراق في الصلاة، فتُصلى الجماعة أربع مرات في المسجد الواحد، واستمر الحال إلى زماننا. وكان لحصر مذاهب أهل السُنة في تلك المذاهب قصة، تدور في جزء كبير منها حول السياسة.
روى الإمام السبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص215) في ترجمة سلطان العلماء الإمام العز بن عبد السلام "ولمّا مرت جنازة الشيخ عز الدين تحت القلعة، وشاهد الملك الظاهر بيبرس كثرة الخلق الذين معها، قال لبعض خواصه: اليوم استقر أمري في الملك، لأن هذا الشيخ لو كان يقول للناس اخرجوا عليه لانتزع الملك مني".
كانت وفاة سلطان العلماء العز بن عبد السلام عام 660 هـ. وبعد وفاته بأقل من أربع سنوات، حصر الظاهر بيبرس مناصب القضاء في قضاة المذاهب السُنية الأربعة المعروفة لنا الآن، واقتصر التدريس بالمدارس على تلك المذاهب، وأبطل ما سواها. حدث هذا بمصر أواخر سنة 663هـ، ومثله حدث بالشام سنة 664هـ. قال ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج17، ص464): "ثم دخلت سنة أربع وستين وستمائة، استهلّت والخليفة: الحاكم العباسي، والسلطان: الملك الظاهر، وقضاة مصر أربعة. وفيها جُعل بدمشق أربعة قضاة، من كل مذهب قاض، كما فُعل في العام الماضي في ديار مصر".
وكان هذا تغييرًا سياسيًا أكثر منه دينيًا؛ إذ أنه منذ عزل صلاح الدين الأيوبي قضاة مصر الشيعة، صار من يتولى منصب القضاء في مصر في عهد الأيوبيين قاض واحد على المذهب الشافعي، وله أن يعين من ينوب عنه في الأقاليم، وكان الأيوبيون يستنيبون الشافعية في كل الأعمال، بينما وبعد قرار بيبرس لم يعد علماء الشافعية يستأثرون بأمور السلطة، ولا مقابلة العوام. وكان الغرض ألا يعلو نجم عالم من العلماء بين عموم الناس فيصير في مرتبة العز بن عبد السلام. كان هذا أول استغلال من بيبرس للتمذهب لتفريق المسلمين السُنة. سنّه بيبرس، واستخدمه من بعده مئات من رجال السياسة.
وحتى اختيار المذهب الحنبلي ليكون رابع تلك المذاهب تدخلت فيه السياسة؛ فالمذاهب الحنفية والمالكية والشافعية كانت أشهر مذاهب أهل السُنة، وأغلب الناس عليها، لكن الحنبلي اُختير معها بسبب فتاوى الحنابلة القوية فيما يخص الجهاد ومعاملة الأسرى، وكان خطر التتار لا زال قائمًا.
ثم آل الأمر للعثمانيين، واستحسن الأتراك المذهب الحنفي، حتى أصبح المذهب الرسمي للدولة العثمانية؛ والسبب هو فتوى الإمام أبي حنيفة التي أجاز فيها الخلافة لغير قريش. بل وصل الأمر إلى أن فرض العثمانيون قراءة حفص عن عاصم، لأن أبا حنيفة كان يقرأ بها. ونظرًا لطول فترة حكم الدولة العثمانية، والتي استمرت من سنة 699: 1342ه- 1299: 1924م، ولما يزيد عن ستة قرون، أصبح المذهب الحنفي هو الأكثر انتشارًا بين المسلمين.
وفي جزيرة العرب، فرض الوهابيون مذهبهم على سائر المناطق التي حكموها واستخلصوها بالسيف، ولأول مرة في تاريخ الإسلام ينفرد أهل مذهب بعينه بالإمامة والتدريس في الحرمين. وأصبحت آراء ابن تيمية وابن عبد الوهاب الفقهية دستورهم، وما عداها من علوم سائر علماء المسلمين غير ذات أهمية، فتعصبوا لهما بأكثر مما تعصب الشيعة الإمامية لأئمتهم.
في حين نشأت جمهوريات إسلامية في إيران، وباكستان، وأفغانستان، وموريتانيا، وجامبيا. وهذا عجيب لأن الجمهورية تقوم على أساس مبدأ سيادة الشعب بصرف النظر عن أي اعتبارات دينية أو أيدولوجية، بينما هذه الدول قائمة على التمييز المذهبي بين المواطنين. في إيران على سبيل المثال، يُشترط في رئيس الدولة أن يكون مسلمًا شيعيًا إماميًا. إضافة إلى أن منصبه فخريًا، والمرشد الأعلى للثورة هو رئيس الدولة الفعلي، وهو شخصية دينية اُختيرت من قبل مجلس الخبراء، وليس باقتراع الشعب؛ لذا لا نتعجب من تآكل السُنة ببلاد فارس، وأن يكون 90% من المسلمين بها من الشيعة الإمامية، خاصة بعد مجازر الصفويين من قبلهم في حق السُنة.
والأمثلة كثيرة، وصدق من قال: "الناس على دين ملوكهم". وتدخل السياسة في الدين لا يقتصر على الدول، فقد ظهرت جماعات أُسست على أساس ديني، ولكن بدا أن الغرض من ورائها تحقيق أهداف سياسية.
كانت أولى تلك الجماعات هي: جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وقد نشأت في ‏نهاية العشرينات من القرن العشرين على يد الشيخ حسن البنا، وكانت أول أمرها جماعة دينية ‏يمكن أن توصف بالوسطية، فهي لا تعادي المجتمع ولا تهدف لتغيير قيمه ولا تهجره أو تتبرأ ‏منه وتكفره، وكانت لها أنشطة اجتماعية لا زالت بقاياها في مدينة الإسماعيلية بمصر إلى يومنا هذا، ‏وكانت تكتفي بممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالحسنى، ولكن حدث تحول في ‏أفكار الجماعة بدءًا من أربعينات القرن الماضي؛ فتطرفت حتى دخلت في صراع مع المجتمع؛ ‏إذ لجأت إلى العنف والاغتيالات السياسية، ثم حدث تطرف مضاد ضدها في نهاية عهد الملك ‏فاروق وطوال عهد عبد الناصر أدى إلى مزيد من العنف من قبل جماعة الإخوان والجماعات ‏الإسلامية التي خرجت من رحمها، وقد أدت النكسة إلى سقوط زعامة عبد الناصر في عيون ‏كثير من الشباب، ومن ثم وجدوا العزاء في الانضمام للجماعات الدينية، كجماعة التكفير والهجرة، وقاموا بتكفير الحاكم ‏والمجتمع ككل واعتبروه جاهليًا، ودعوا -كما دعت الخوارج قديمًا- إلى تحكيم شرع الله، ووصل ‏الأمر إلى ذروته باغتيال الرئيس السادات رحمه الله.‏
وبهذا التغيير والتحول إلى التكفير أصبح توجه الإخوان مشابهًا لتوجه الوهابية، وإعلانًا ‏لتسلف الفكر الإخواني، وإن جاهدوا لإخفاء هذا التوجه وإظهار وسطية زائفة ساهمت الحوادث ‏في السنوات الأخيرة في مصر على إبرازه.‏
وبعد انتشار السلفية، وانتشار التطرف معها، وُلدت القاعدة، وتبعها ظهور خوارج زماننا المسمون بأصحاب الدولة الإسلامية (داعش)، وكما تلقت القاعدة دعمًا من المخابرات الأمريكية، فإن داعش، ولا شك تتلقى كافة أشكال الدعم لتبقى؛ ولا يعجبنّ أحد أن يقبل هؤلاء دعمًا ممن يحكمون قطعًا بكفرهم. إنها السياسة تُطل علينا برأسها دائمًا. ولا يربح في تلك اللعبة غالبًا المتدينون بل الدجّالون؛ فينبغي أن نتذكر أنه في لعبة السياسة تكون للمصالح اليد العليا دائمًا وليس المباديء والاعتقادات، ولا مكان للتفكير في أمر المذاهب إن اقتضى الأمر التحالف مع المخالف مذهبيًا، أو اقتضى الصراع مع المتفق في المذهب، فكما ذكرنا كان هناك صراع بين البويهيين ببغداد والحمدانيين بالموصل والفاطميين بمصر، رغم كون أمراء الدول الثلاث من الشيعة. والحال ذاته بالنسبة للسُنة، فكانت الحروب على أشدها بين الغزنويين والسلاجقة.

وخلاصة القول إننا عندما نتحدث عن التطرف الديني، لا بد أن ندرك أنه قبل كل أمر، ومعه، يكون أثر السياسة ظاهرًا.‏