الثلاثاء، 5 يوليو 2016

43-متعلم على سبيل النجاة

43-متعلم على سبيل النجاة
د/منى زيتون
26 مايو 2016


جاء في "جامع بيان العلم وفضله" لابن عبد البر (ج2، ص984) (رقم 1878) قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرّم وجهه لكميل بن زياد النخعي: "الناس ثلاثة: فعالم رباني، ومتعلم على سبيل النجاة، وهمج رعاع أتباع كل ناعق، لم يستضيئوا بنور العلم، ولم يلجأوا إلى ركن وثيق"أهـ.
ويمكن لمن يقرأ عن عصور الصحوة الإسلامية أن يتبين بوضوح الثلاثة أصناف، فكان لدينا أئمة عظام لم يعد يجود الدهر علينا بأمثالهم، وكان الخلفاء والأمراء والوزراء وكافة كبراء الدولة يحرصون أن يكونوا من الفئة الثانية، طالما فاتهم أن يكونوا من الصنف الأول، فكانوا يقرّبون العلماء ويحضرون مجالسهم، بل ويبنون لهم المدارس ليتمكنوا من التوسع في نشر علومهم بين العوام. كان المتعلمون يستضيئون بنور العلم ما استطاعوا إلى ذلك سبيلًا، وكان ذلك مما يُسعد العلماء، ولا يزعجهم. أما الهمج الرعاع أتباع كل ناعق فمكانهم محفوظ في كل زمان ومكان، فهم بلاء البشرية الذي لا شفاء منه.
ودارت الأيام، حتى وصل مستوى بعض من يُسمون علماء في عصرنا، وأغلب خريجيّ المؤسسات الدينية إلى مستوى أقل من مستوى من قصدهم سيدنا علي بالمتعلمين على سبيل النجاة، حتى يكاد يكون الفارق قد تلاشى بين الصنفين؛ العلماء والمتعلمين، وأصبح التمييز بينهما صعبًا، مع عدم إغفال وجود متحذلقين كثيرين، يفتقدون حتى الإلمام بالحد الأدنى من إتقان العربية الذي يمكنهم من الانتساب إلى الصنف الثاني، وليس التطاول لمستوى العلماء. هؤلاء يدعون العلم الديني، ويتكلمون فيما لا يُحسنون، ويخرجون علينا ببلاهات وعجائب تجعلنا نشك أن العربية هي لغتهم الأولى.
ولا يعنيني هنا الحديث عن المتحذلقين، ولكن ما ألحظه بوضوح أن تقازم قامة علماء زماننا، وخريجيّ المؤسسات الدينية، جعلت كثيرين من هؤلاء الأقزام ينفرون ويكرهون الصنف الثاني من المتعلمين على سبيل النجاة لأن قامتهم قد تطاولت وقاربت مستواهم، فكأن ذنبهم أنك قزم وحُسبت في عداد العلماء والمنتسبين للمؤسسات الدينية خطأً، ومثلك كان يتم تجريسه في عصور الصحوة قبل أن يصبح نيل الشهادات العلمية من قبيل شهادة الزور.
والأدهى أن الهمج الرعاع هم أيضًا يكرهون المتعلمين على سبيل النجاة في عصرنا، حيث يُلاحظ في أي نقاش مهما كان بسيطًا واضحًا بالنسبة للمتعلمين، فليس من غوامض الموضوعات، أن الرعاع يتطاولون عليهم بأنهم ليسوا أعلم من رجال الدين، وكأنه لا يكفي هؤلاء أنهم جهلة، بل يريدون أن يصموا غيرهم بجهلهم كحيلة دفاعية واضحة بإسقاط ما ابتلوا به على الآخرين.
بدا هذا واضحًا في النقاش حول صحة حج أحد رؤساء الوزارات، وكل من له دراية بفقه الحج والمسافات بين كل منطقة وأخرى له الحق أن يتشكك فيه، مهما تبجح بعض من يتسمون بالعلماء بالدفاع عن صحته. فكيف بات في مزدلفة ليلة العيد حتى مضى أكثر من نصف الليل، ثم توجه إلى منى لرمي الجمرات، ومنها إلى الحرم لطواف الإفاضة، وربما للسعي أيضًا، ثم إلى جدة، ومن مطار جدة إلى مطار القاهرة، ومن مطار القاهرة إلى منزله أو حتى مباشرة إلى مصلى العيد بصحبة كبار رجال الدولة ليجلس في الصف الأول، ولو استعان في كل تلك التنقلات بالطائرات لما وسعه الوقت، ناهيك عن رجمه وطوافه قبل الضحى من يوم العيد باعتبار أنه من الضعفاء، وهو أمر مشكوك في تقديره، وتركه باقي واجبات الحج من المبيت بمنى في أيام التشريق، والرجم فيها، وطواف الوداع، بغير وجود مبرر حقيقي لذلك التقصير المفرط، والتفويت للمناسك، ثم يتبجح أحد الناعقين بأن الحج عرفة!
وكمثال آخر، بعيدًا عن الدين، في أزمة التنازل المخزي عن جزيرتيّ تيران وصنافير، كان من أسوأ ما فيها تطاول الرعاع على كل من يذكر معلومات موثقة تثبت مصرية الجزيرتين، على أساس أنه من المفترض أن يكون جاهلًا مثلهم، وكيف يفهم هذه الأمور؟!
باختصار، لقد دارت الأيام حتى لم يعد هناك علماء إلا ما رحم ربي، وكثر الرعاع الناعقين وزادوا عن كل حد، أما المتعلمون على سبيل النجاة فقد أصبحوا صنفًا مكروهًا أجمع على كراهيته الصنفان الآخران، وعلامة من علامات القيامة تتحقق أمام ناظرينا؛ فقد فشا الجهل.
جعلني الله وإياكم من المتعلمين على سبيل النجاة، وأبعدنا عن أن نكون من جملة الهمج الرِعاع.