الثلاثاء، 5 يوليو 2016

44-الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر


الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
د/ منى زيتون
الأحد 5 يونيو ‏‏2016‏
الاثنين 3 يونيو 2019

من أكثر الفرق الإسلامية التي شطَّت عقديًا وفقهيًا حتى وصلت إلى تكفير المخالف تلك الفرقة من غلاة الحنابلة التي أصبحت تُطلق على نفسها في العقود الأخيرة اسم السلفية.
تعتبر أول أسباب الإشكالية العقدية بين سائر المسلمين والسلفية، هو رفض الفرقة الأخيرة للتأويل، وتمسكهم بظواهر معاني نصوص الكتاب والسُنة، لتقرير اعتقادهم في الله  عزّ وجلّ، ادعاءً أن هذا ما كان يفعله السلف، وهي إشكالية تنظيرية، لم تكن لتتسبب في إحداث الفتن لولا ارتباطها بإشكالية لها أثرها على المستوى التطبيقي، وهي إيجابهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشقيه الاجتماعي والعقدي باليد وبسلّ السيوف، فلا يكتفون أن يكون بالقلب أو بتقديم النُصح باللسان.
في نهاية القرن الثالث الهجري كانت أول إشارة تاريخية وأول ظهور سياسي يأتي فيه ذكر الحنابلة، أثناء حوادث فتنة خلع المقتدر وولاية ابن المعتز سنة 296هـ. وقد أحدثت تلك الفرقة منذ ظهورها حالة من الذعر في عاصمة الخلافة العباسية بغداد، بحيث لم تكد ‏تمر سنة إلا وسجّل فيها المؤرخون فتنة عظيمة حدثت بسبب ممارستهم لذلك الأصل الهام من أصول ‏عقيدتهم، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والذي لا يرتضونه بغير اليد، حيث نصَّبوا من أنفسهم محتسبين على الفرق الأخرى من المسلمين. وتعتبر تلك الفرقة سببًا من أسباب ضعف الخلافة ‏العباسية بما أضاعوه من هيبتها بكثرة افتعال الفتن في عاصمة الخلافة،‏ وبما أضاعوه من أموال كانت تُصرف من آنٍ لآخر، على إعادة إعمار ما تهدّم واحترق جراء فتنهم التي لا تكاد تنتهي.

اتفاق الأمة على فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على عموم المؤمنين
‏‏‏يقول القرطبي في تفسيره (ج5، ص73): "وفي التنزيل ﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾ ثم قال: ﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [التوبة:67-71]. فجعل تعالى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقًا بين المؤمنين والمنافقين، فدلّ على أن أخص أوصاف المؤمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر".
وقد رُوي في كتاب الإيمان من صحيح مسلم (حديث 4085- 78/49)، قال أبو سعيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكم منكرًا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". وبرواية أخرى عن عبد الله بن مسعود (حديث9602-80/50) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي، إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسُنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلُف من بعدهم خُلوف، يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن. وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل".
وروى الإمام الترمذي في سُننه (حديث 2169) عن حُذيفة بن اليمان، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "والذي نفسي بيده لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، أو ليوشكنّ الله أن يبعث عليكم عقابًا منه، ثم تدعونه فلا يُستجاب لكم". وحديث (2172) قال أبو سعيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من رأى منكرًا فليُنكره بيده، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان". وقد روى ابن ماجه الحديث بلفظ مشابه وسند آخر (1275). وقد كان للإمام أبي بكر بن العربي تعليق على هذا الحديث بأن "في هذا الحديث من غريب ‏الفقه أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ في البيان بالأخير في الفعل، وهو تغيير المنكر باليد، وإنما يُبدأ باللسان ‏والبيان فإن لم يكن فباليد".‏
قال أبو محمد ابن حزم في "الفِصَل" (ج5، ص19): ‏"اتفقت الأمة كلها على وجوب الأمر بالمعروف ‏والنهي عن المنكر بلا خلاف من أحد منها، ثم اختلفوا في كيفيته، فذهب أهل السُنة من القدماء ‏من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم، وهو قول أحمد بن حنبل وغيره، وهو قول سعد بن أبي ‏وقاص، وأسامة بن زيد، وابن عمر، ومحمد بن مسلمة وغيرهم، إلى أن الغرض من ذلك إنما هو ‏بالقلب فقط ولا بد، أو باللسان إن قدر على ذلك. ولا يكون باليد ولا بسل السيوف، ووضع السلاح ‏أصلًا، وهو قول أبي بكر بن كيسان الأصم، وبه قالت الروافض كلهم، ولو قُتلوا كلهم، إلا أنها لم ‏تر ذلك الإمام يُخرج الناطق، فإذا خرج وجب سل السيوف، ولا بد حينئذ معه، وإلا فلا"أهـ.
فخلاصة القول في حكم أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد وسلّ السيوف، إن عموم أهل السنة قالت به عدا قلة، منهم أحمد بن حنبل وسعد بن أبي وقاص وأسامة بن زيد وابن عمر. كما أوجبته المعتزلة بالسيف، وإن كانوا أوجبوه بالعقل لا بالشرع، وشذ عنهم أبو بكر بن الأصم المعتزلي فرأى وضع السلاح أصلًا، وأخذت عنه الشيعة الإمامية هذا الرأي، فهم لا يرون سلّ السيوف إلا إن خرج الإمام العادل المنتظر. وأوجبت الشيعة الزيدية على أنفسهم أن يكون باليد وسلّ السيوف، ويكون ذلك لأقصى درجة وصولًا لمقاتلة وتغيير الإمام الجائر. والغريب أن كل الفتن التي أثارها الحنابلة جاءت بسبب تطبيقهم ‏لعقيدتهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد خلافًا لرأي الإمام أحمد بن حنبل وفعله!
وقال الإمام النووي في "المنهاج" (ج2، ص22) في شرحه لحديث "من رأى منكم منكرًا": "وأما قوله صلى الله عليه وسلم "فليغيره" فهو أمر إيجاب بإجماع الأمة، وقد تطابق على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الكتاب والسنة، وإجماع الأمة، وهو أيضًا من النصيحة التي هي الدين، ولم يخالف في ذلك إلا بعض الرافضة، ولا يُعتد بخلافهم. كما قال الإمام أبو المعالي إمام الحرمين: لا يُكترث بخلافهم في هذا، فقد أجمع المسلمون عليه قبل أن ينبغ هؤلاء، ووجوبه بالشرع لا بالعقل خلافًا للمعتزلة"أهـ. ولكن هذا النقل للإمام النووي عن إمام الحرمين الجويني يُعد ناقصًا، فلا يوضح المحاذير التي ضمنّها رأيه في الموضوع حول ما يحتاج إلى اجتهاد وما لا يحتاجه، وكذا الشروط التي ينبغي توفرها في الآمر الناهي، وما ينبغي عليه مراعاته أثناء أدائه عمله، والذي طرحه في كتابه "الإرشاد في أصول الاعتقاد".
وفقًا للأشاعرة، يذكر إمام الحرمين الجويني في "الإرشاد في أصول الاعتقاد" (ص368) أن "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبان بالإجماع على الجملة؛ ولا يُكترث بقول من قال من الروافض: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، موقوفان على ظهور الإمام. فقد أجمع المسلمون قبل أن ينبغ هؤلاء على التواصي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتوبيخ تاركه مع الاقتدار عليه. فإذا ثبت ما قلنا أصلًا، فلا يتخصص بالأمر بالمعروف الولاة، بل ذلك ثابت لآحاد المسلمين. والدليل عليه الإجماع أيضًا. فإن غير الولاة من المسلمين في الصدر الأول، والعصر الذي يليه، كانوا يأمرون الولاة بالمعروف، وينهونهم عن المنكر، مع تقرير المسلمين إياهم، وترك توبيخهم على التشاغل بالأمر بالمعروف من غير تقلد ولاية"أهـ. لكن يُفرِّق الجويني (ص369) في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين ما يحتاج اجتهاد وما لا يحتاجه. يقول: "حكم الشرع ينقسم إلى ما يستوي في إدراكه الخاص والعام، من غير احتياج إلى اجتهاد، وإلى ما يُحتاج فيه إلى اجتهاد. فأما ما لا حاجة فيه إلى الاجتهاد، فللعالم وغير العالم الأمر فيه بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما ما اختص مدركه بالاجتهاد، فليس للعوام فيه أمر ولا نهي، بل الأمر فيه موكول إلى أهل الاجتهاد. ثم ليس للمجتهد أن يتعرض بالردع والزجر على مجتهد آخر في موضع الخلاف، إذ كل مجتهد في الفروع مصيب عندنا، ومن قال إن المصيب واحد فهو غير متعين عنده، فيمتنع زجر أحد المجتهدين الآخر على المذهبين"أهـ.

فهل يلزم الأمر والنهي على آحاد الرعية بشهر السلاح، وعلى من ظن وقوع الأذى عليه؟
ما يُفهَم من نص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم في الأمر والنهي أنه بدأ بالأصعب كي يقرنه بالاستطاعة، ولم يوجبه على الإطلاق حتى يتأذى من يؤديه من ورائه أو تثور الفتن.
يقول القرطبي في تفسيره (ج5، ص74-75): "أجمع المسلمون فيما ذكر ابن عبد البر –في التمهيد- أن المنكر واجب تغييره على كل من قدر عليه، وأنه إذا لم يلحقه بتغييره إلا اللوم الذي لا يتعدى إلى الأذى، فإن ذلك لا يجب أن يمنعه من تغييره بيده، فإن لم يقدر فبلسانه، فإن لم يقدر فبقلبه، ليس عليه أكثر من ذلك. وإذا أنكر بقلبه فقد أدّى ما عليه إذا لم يستطع سوى ذلك. قال: والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم في تأكيد الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كثيرة جدًا، ولكنها مقيدة بالاستطاعة. قال الحسن: إنما يُكلم مؤمن يُرجى، أو جاهل يُعلَّم، فأما من وضع سيفه أو سوطه وقال: اتقني اتقني، فما لك وله؟! وقال ابن مسعود: بحسب المرء إذا رأى منكرًا لا يستطيع تغييره أن يعلم الله من قلبه أنه له كاره. وروى ابن لهيعة عن الأعرج، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمؤمن أن يذل نفسه". قالوا: يا رسول الله، وما إذلاله نفسه؟ قال: "يتعرض من البلاء لما لا يقوم له". قلتُ –أي القرطبي-: وخرَّجه ابن ماجه عن علي بن زيد بن جُدعان، عن الحسن، عن جُندب، عن حُذيفة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكلاهما قد تُكلم فيه. ورُوي عن بعض الصحابة أنه قال: إن الرجل إذا رأى منكرًا لا يستطيع النكير عليه فليقل ثلاث مرات: اللهم إن هذا منكر، فإذا قال ذلك، فقد فعل ما عليه. وزعم ابن العربي أن من رجا زواله، وخاف على نفسه من تغييره الضرب أو القتل، جاز له عند أكثر العلماء الاقتحام عند هذا الغرر، وإن لم يرج زواله فأى فائدة عنده. قال: والذي عندي أن النية إذا خلصت فليقتحم كيف ما كان ولا يُبالي. قلتُ –أي القرطبي-: هذا خلاف ما ذكره أبو عمر –يعني ابن عبد البر- من الإجماع. وهذه الآية تدل على جواز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع خوف القتل. وقال تعالى: ﴿وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ﴾ [لقمان:17]. وهذا إشارة إلى الإذاية".
وكان للإمام الغزالي في "الإحياء" (ج2، ص233) رأي مشابه للرأي الأخير عند عرض مراتب الحسبة، فهو يرى أن المحتسب المحق –فيما لا يحتاج إلى اجتهاد- إن قُتِل مظلومًا فهو شهيد، فيجوز له تغيير المنكر بشهر السلاح وجمع الأعوان، كما أنه لا يلزمه استئذان الإمام قبل محاولة التغيير. ويخلص الغزالي إلى أن "كل من قدر على دفع منكر فله أن يدفع ذلك بيده وسلاحه وبنفسه وبأعوانه"أهـ. وهذه الطريقة التي قررها الغزالي رأينا آثارها عندما اعتمدها حنابلة بغداد كأسلوب للأمر والنهي –ليس عن رأي الغزالي، بل قبله بقرون-، وكم حكى التاريخ لنا عن فتن.
ويقرر ابن حزم في "الفِصل" (ج5، ص20) أن أغلب أهل السُنة والمعتزلة والزيدية على وجوب التغيير بشهر السلاح إن عظم المنكر ولم يمكن دفعه إلا بهذا. يقول: "وذهبت طوائف من أهل السُنة، وجميع المعتزلة، وجميع الخوارج، والزيدية إلى أن سلّ السيوف في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب إذا لم يمكن دفع المنكر إلا بذلك. قالوا: فإذا كان أهل الحق في عصابة يمكنهم الدفع، ولم ييأسوا من الظفر، ففرض عليهم ذلك. وإن كانوا في عدد لا يرجون لقلتهم وضعفهم بظفر كانوا في سعة من ترك التغيير باليد. وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكل من معه من الصحابة، وقول ........."أهـ. وعدّ ابن حزم كثيرين يرون هذا الرأي.
وأرى أن الأمر في أوله وآخرة يتعلق بتقدير المحتسب للمصالح الحاصلة من أمره ونهيه والمفاسد الناتجة عنه، وما إن كان مع المجازفة إمكانية للتغيير أم لا فائدة تُرجى من ورائها.
بينما يميز القرطبي في كيفية تطبيق الأمر والنهي بطرقه الثلاث، موضحًا انتفاء تطبيقه باليد على غير السلاطين. قال في تفسيره (ج5، ص75): "قال العلماء: الأمر بالمعروف باليد على الأمراء، وباللسان على العلماء، وبالقلب على الضعفاء، يعني لعوام الناس". ويوضح (ج5، ص73) "ثم إن الأمر بالمعروف لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطان؛ إذ كانت إقامة الحدود إليه، والتعزير موكل إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب، فينصب في كل بلدة رجلًا صالحًا قويًا عالمًا أمينًا ويأمره بذلك، ويُمضي الحدود على وجهها من غير زيادة. قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ﴾ [الحج:41]". ويضيف في تفسير آية الأمر والنهي [آل عمران:104] (ج5، ص253): "﴿‏‏مِنْ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ في قوله: ﴿‏‏مِنْكُمْ﴾ للتبعيض، ومعناه أن الآمرين يجب أن يكونوا علماء، وليس كل الناس علماء، وقيل: لبيان الجنس، والمعنى: لتكونوا كلكم كذلك. قلتُ –أي القرطبي-: القول الأول أصح؛ فإنه يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرضٌ على الكفاية، وقد عيَّنهم الله تعالى بقوله: ﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ﴾ [الحج:41]، وليس كل الناس مُكنوا"أهـ. ويوافقه الجويني في "الإرشاد في أصول الاعتقاد" (ص370) إذ يقول: "ثم الأمر بالمعروف فرض على الكفاية؛ فإذا قام به في كل صقع من فيه غناء سقط الفرض عن الباقين. وللآمر بالمعروف أن يصد مرتكب الكبيرة بفعله، إن لم يندفع عنها بقوله، ويسوغ لآحاد الرعية ذلك، ما لم ينته الأمر إلى نصب قتال وشهر سلاح؛ فإذا انتهى الأمر إلى ذلك رُبط ذلك الأمر بالسلطان، فاُستغني به"أهـ. وقرر الغزالي في "إحياء علوم الدين" (ج2، ص307) مثلهما أنه فرض كفاية لا فرض عين، مع ‏اختلافه عنهما في تجويزه لآحاد الرعية –كما أسلفنا- الاحتساب باليد وشهر السلاح.‏
ولا يجيز السلفية الخروج على الحاكم الظالم على عكس المعتزلة، والزيدية، وعلى عكس بعض الأشاعرة. يذكر الجويني في "الإرشاد في أصول الاعتقاد" (ص370) عن اعتقاد الأشاعرة "وإذا جار والي الوقت، وظهر ظلمه وغشمه، ولم يرعو عما زجر عن سوء صنيعه بالقول، فلأهل الحل والعقد التواطؤ على درئه، ولو بشهر الأسلحة ونصب الحروب"أهـ. ولكن للسلفية توجهات في العصر الحديث نحو إباحة الخروج على الحكام الذين لا يحكمون بشرع الله وفقًا لتصوراتهم التقليدية عن طبيعة الدولة.

فهل هناك اشتراطات تلزم أن تُوجد فيمن يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
اختلف أئمة المسلمين في ضرورة وجود اشتراطات فيمن يقوم بالأمر والنهي، رغم أن الشائع والمفترض منطقيًا في الآمر الناهي أن يكون ‏عالمًا بما يأمر وينهى، وأن يعمل بما يعلم، وأن يلزم الإخلاص مع الله فيما يقول ويفعل، ويكون ‏صاحب أمانة، وأن يكون صبورًا  يتحمل أذى الناس، رفيقًا لينًا واسع الصدر.
ومن الحكم المأثورة لدى الشيعة الإمامية –الذين لا يرون الأمر والنهي باليد-، عن الإمام جعفر الصادق: إنما يُؤمر بالمعروف ويُنهى عن المنكر، مؤمن فيتعظ أو جاهل فيتعلم، فأما صاحب سوط وسيف فلا. ومن الحكم المأثورة عنه أيضًا: إنما يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، من كانت فيه ثلاث خصال، عالم بما يأمر، عالم بما ينهى، عادل فيما يأمر، عادل فيما ينهى، رفيق بما يأمر، رفيق بما ينهى. وهي الاشتراطات الرئيسية للإمام الصادق فيمن يقوم بالأمر والنهي وتتمثل في: العلم- العدالة- حُسن الخلق.
ويوافق الإمام الصادق في ذلك الصفات ذاتها التي أكّد عليها علماء السُنة. يحدد الغزالي في ‏‏"إحياء علوم الدين" (ج2، ص333) ثلاث صفات في المحتسب: العلم، والورع، وحُسن الخُلق. ‏يقول: "فهذه الصفات الثلاث بها تصير الحسبة من القُربات، وبها تندفع المنكرات، وإن فُقِدت لم ‏يندفع المنكر"أهـ.‏
لكن يذكر الجويني في "الإرشاد في أصول الاعتقاد" (ص369) أن "الذي يتعاطى الأمر ‏بالمعروف لو لم يكن ورعًا، لم ينحسم عنه الأمر بالمعروف؛ إذ ما يتعين عليه في نفسه فرض ‏متميز عما يتعين عليه الأمر به في غيره، ولا تعلق لأحد الفرضين بالآخر". ويقول القرطبي في ‏ تفسيره (ج5، ص74): "وليس من شرط الناهي أن يكون عدلًا عند أهل السنة، خلافًا للمبتدعة –كما أسماهم- حيث تقول: لا يغيره إلا عدل. وهذا ساقط، فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عامٌ في جميع الناس. فإن تشبثوا بقوله تعالى: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ﴾ [البقرة:44]، وقوله: ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾ [الصف:3] ونحوه، قيل لهم: إنما وقع الذم ها هنا على ارتكاب ما نهي عنه لا على نهيه عن المنكر. ولا شك في أن النهي عنه ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه، ولذلك يدور في جهنم كما يدور الحمار بالرحى"أهـ. وهذا قول يبدو شاذًا، ولكن قد يفسره ما أوضحه الغزالي في "الإحياء" (ج2، ص234) أنه بعد أن ‏اشترط شروطًا في المحتسب قال: "لسنا نعني أن الأمر بالمعروف يصير ممنوعًا بالفسق، ولكن ‏يسقط أثره عن القلوب بظهور فسقه للناس"أهـ. وقد أفاض الغزالي في شرح هذا الرأي، وبيّن ‏‏(ص312) أن من يرون بأن ليس للفاسق أن يحتسب ربما استدلوا عليه بالنكير الوارد في الآيات ‏والأحاديث على من يأمر بما لا يفعله، وربما استدلوا من طريق القياس "بأن هداية الغير فرع ‏للاهتداء، وكذلك تقويم الغير فرع للاستقامة، والإصلاح زكاة عن نصاب الصلاح، فمن ليس ‏بصالح في نفسه فكيف يُصلح غيره؟، ومتى يستقيم الظل والعود أعوج؟"، لكن الغزالي رفض هذا ‏الرأي، وكان من أهم ما دفع به لنقضه أن لا أحد معصوم من المعاصي كلها، وسيكون في شرط ‏العدالة إن وُضِع حسمًا لباب الاحتساب.‏
وما أفهمه من عدم انحسام الأمر والنهي عمن يقترف المعصية ذاتها أن كثيرًا من الناس قد يأتيها ضعفًا، معترفًا ومقرًا بذنبه، وربما يكون نصحه لغيره أعظم أثرًا من نصح المعافين منها؛ كمن ينهى ولده عن معاقرة الخمر أو التدخين، مخبرًا إياه أنه لو عاد به الزمن ما أخطأ هذا الخطأ في حق نفسه، وأنه يتمنى أن يعافيه الله مما ابتلي هو به. فإن كان هذا هو المقصود فرأي الغزالي لا غبار عليه.
والسلفية المعاصرون يستحسنون هذا الرأي الأخير من الغزالي أيما استحسان، ويُدرِّسونه لدعاتهم ‏أكثر مما يفعل الأشاعرة أنفسهم، والغزالي أشعري. وقد رأينا عاقبة هذا الرأي عندما أسيء تطبيقه؛ فأخذ به السلفيون في تعيين ‏خريجيّ السجون في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وليس هذا بغريب، فطوال تاريخ السلفية ومنذ سمع بهم المسلمون في القرن الرابع الهجري، كان من يقوم منهم بالأمر والنهي أبعد الناس عن صفات الورع والحلم، وأكثرهم تنفيرًا للناس في التزام شرع الله، وأكثرهم إثارة للفتن.
ويؤكد الجويني في "الإرشاد في أصول الاعتقاد" (ص370) على أنه "ليس للآمر بالمعروف البحث والتنقير والتجسيس واقتحام الدور بالظنون، بل إن عثر على منكر غيَّره جهده"أهـ. بينما سنرى عند مراجعة أمهات كتب التاريخ الإسلامي كيف كان السلفية يكبسون الدور وينتهكون حرماتها.
ولعل المشاكل الناجمة عن السلفية ليست في ‏اشتراطات علمائهم فيمن يقوم بالأمر والنهي، بقدر ما تكمن في أن عوامهم يسارعون في تطبيق الأمر ‏والنهي باليد، والذي يتعاضد مع وجود اعتقادات كثيرة لديهم تُخالف اعتقادات باقي فرق المسلمين، ‏مما يجعل الأمر على المستوى التطبيقي أكثر اشتعالًا بدرجة لا يمكن مقارنتها بأصحاب أي ‏عقيدة إسلامية أخرى. فالأهم من صفات القائم ‏بالأمر والنهي، واشتراط أن يكون عدلًا أو لا، أن الثابت عن علماء مذاهب السُنة الباقية بوجه عام، سواء ‏شافعية أو مالكية أو حنفية، وكذلك علماء الشيعة، عدم ميلهم إلى العنف، وعدم تجريئهم العوام على تغيير المنكر بالمقاتلة وشهر ‏السلاح، وأن يُترك صاحب هذا المنكر الغليظ إلى السلطان منعًا للفتن، مما أسهم في تقليل الفتن ‏التي حدثت بفعل عوامهم عبر التاريخ مقارنة بعوام السلفية.
كما أن جانبًا آخر من إشكالية جموع المسلمين مع الحنابلة، هو اختلاف مواطن الأمر والنهي ‏المعني بها تطبيقه باليد، فأنا كأشعرية أفهم أن يكون الأمر والنهي باليد للعامة عندما لا تكون وسيلة ‏لدفع الأذى إلا به، لأنه لو اُنتظِر تدخل السلطان لحدث المنكر، كأن يهم أرباب العصابات بقتل ‏نفس أو خطف طفل أو فتاة أو سرقة أموال شخص، فيجب على من يرى ذلك من المسلمين أن ‏يمنعه جهده، وبكل ما يمكنه من وسائل، حتى لو ناله الأذى في سبيل دفع هذا، لكن الحنابلة ‏مشغولون بشيعي يلطم وجهه في عاشوراء، أو صوفية يُنشدون، بينما يُسأل أحد مشايخهم عن رجل ‏تُختطف امرأته من بين يديه لتُغتصب، فيجيب السائل بأن عليه أن يتركها دفعًا للأذى عن نفسه!
وقد كان لتطبيق السلفية عبر تاريخهم للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر جانبان: جانب اجتماعي فنشأت جماعات المطوعة التي تراقب الناس والأسواق للتأكد من انضباط الآداب العامة، وجانب عقدي/فقهي لكنه عُني بفرض اعتقاداتهم وما يرونه حلالًا وحرامًا بالقوة، وكانوا يطبقونه –ولا زالوا- في الإنكار على عقائد الفرق الأخرى، باعتبارهم ممثلو الإسلام الصحيح، مما أدى لمصادمات عديدة بينهم وبين غيرهم من الشيعة –خاصة-، والمعتزلة، ثم الأشاعرة بعد ذلك، وكذا غير المسلمين.
وكانت ممارساتهم طوال الفترات التي استقووا فيها عبر التاريخ أشبه بممارسات أرباب العصابات وقُطَّاع الطرق، وحكى لنا التاريخ عن جماعات المطوعة التي نشأت أول مرة ببغداد، وكان من أشهرها جماعة عبد الصمد. وكان لأبي محمد الحسين بن علي بن خلف البربهاري الحنبلي، وهو تلميذ أبي بكر المروذي –تلميذ الإمام أحمد-، والذي كان قائد الحنابلة بدءًا من سنة 296هـ وحتى وفاته سنة 329هـ، دور في فتن كثيرة رغم شهادة المؤرخين له بحسن الديانة. كان البربهاري أول من طبّق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على عقائد الفرق الأخرى بتلك الطريقة الهمجية التي لا تقرب من قريب أو بعيد لنهج الإمام أحمد بن حنبل، والذي كان من أبعد الناس عن العنف وإثارة الفتن رغم كل ما مر به من محنة طويلة. وبسبب البربهاري وجماعات المطوعة حدثت فتن كثيرة ببغداد خاصة في القرنين الرابع والخامس الهجريين، فبمراجعة كتب التاريخ الإسلامي في هذين القرنين تحديدًا نجدها مليئة بذكر أخبار الملوك والحروب في كل بلاد الإسلام، إضافة إلى ذكر الفتن ببغداد بين الحنابلة والشيعة، وكأنه لا فتن بين العوام على ظهر الأرض إلا ببغداد. وسير الفتن التي نبشوا وراءها ‏وتسببوا فيها تملأ أمهات كتب التاريخ الإسلامي، ويمكن العودة للكامل والبداية والنهاية والمنتظم، حتى لا يُقال إن ما ندعيه عليهم هو ادعاء باطل لا أصل له.‏
ولم يكن البربهاري وحيد عصره. يذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج 18، ص546-548) في ترجمته لأحد أعلام الحنابلة وهو الشريف أبو جعفر عبدالخالق بن أبي موسى عيسى العباسي ‏الهاشمي، المولود سنة إحدى عشر وأربع مائة، وهو أكبر تلامذة القاضي أبي يعلى: "وقال أبو الحسين بن الفراء: لزمته خمس سنين، وكان إذا بلغه منكر عظم عليه جدًا، وكان شديدًا على المبتدعة، لم تزل كلمته عالية عليهم، وأصحابه يقمعونهم، ولا يردهم أحد"، وقال ابن النجار: "كان منقطعًا إلى العبادة ‏وخشونة العيش والصلابة في مذهبه، حتى أفضى ذلك إلى مسارعة العوام إلى ‏إيذاء الناس، وإقامة الفتنة، وسفك الدماء، وسب العلماء فحُبس"أهـ. وأقول، وتراجم الحنابلة مليئة بمثل هذا النموذج، ونذكر منهم على سبيل المثال: محمود بن عثمان بن مكارم النعال البغدادي الأزجي، وإسحاق بن أحمد بن محمد بن غانم العلثي، والحافظ عبد الغني المقدسي.
نسبت هذه الفرقة نفسها إلى الإمام أحمد بن حنبل، وجعلوه في عين من لم يعرفه شخصًا ذا عقيدة مشوهة، وفقه متشدد، ومصدرًا للعنف والإرهاب؛ فهل أحمد بن حنبل هو أبو الإرهاب الإسلامي؟! نجيب على هذا السؤال في مقال آخر.
*رابط مقال "هل أحمد بن حنبل هو أبو الإرهاب الإسلامي؟!"
https://amantbeallah.blogspot.com/2018/01/133.html