الأربعاء، 6 يوليو 2016

46-محنة الإمام الطبري مع الحنابلة


محنة الإمام الطبري مع الحنابلة
د/منى زيتون
الأحد 19 يونيو ‏‏2016‏
الثلاثاء ‏‏21 يونيو2016‏
الخميس أول أغسطس 2019

يحكي لنا المؤرخون عن محنة طويلة استمرت لسنوات، جرت للإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري؛ شيخ المفسرين والمؤرخين والعالم بالقراءات ‏وصاحب الكتب في أصول الفقه وفروعه، مع الحنابلة؛ بسبب موقف الطبري من الإمام أحمد بن حنبل في ‏كتاب اختلاف الفقهاء، وإنكاره ‏لعقيدة الإقعاد –حيث يفسر الحنابلة آية المقام المحمود بأن الله تعالى يقعد النبي صلى الله عليه وسلم على العرش يوم القيامة-،‏ إضافة لتصحيح الطبري لروايات حديث غدير خُم. جرت وقائع المحنة بعد رجوع الطبري ‏لبغداد من طبرستان للمرة الثانية أي بعد سنة 290 هـ، ‏حتى منعوا دفنه في مقابر المسلمين عندما مات ‏سنة 310هـ. ‏
ذكر ابن الأثير في "الكامل في التاريخ" (ج7، ص8-9)‏ عن الطبري قال: "وفي هذه السنة –‏يقصد 310هـ- توفي محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ ببغداد، ومولده سنة أربع وعشرين ومائتين، ‏ودفن ليلًا بداره لأن العامة –يعني الحنابلة- اجتمعت ومنعت من ‏دفنه نهارًا وادعوا عليه الرفض، ثم ‏ادعوا عليه الإلحاد، وكان علي بن عيسى –الوزير- ‏يقول: "والله لو سُئل هؤلاء عن معنى الرفض ‏والإلحاد ما عرفوه  ولا فهموه". هكذا ذكره ‏مسكويه صاحب تجارب الأمم، وحاشى الإمام عن مثل هذه ‏الأشياء، وأما ما ‏ذكره من تعصب العامة فليس الأمر كذلك وإنما بعض الحنابلة تعصبوا عليه ‏ووقعوا ‏فيه فتبعهم غيرهم، ولذلك سبب وهو أن الطبري جمع كتابًا ذكر فيه اختلاف ‏الفقهاء لم يصنَّف مثله، ‏ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فقيل له في ذلك فقال: لم يكن ‏فقيهًا، وإنما كان محدثًا، فاشتد ذلك على ‏الحنابلة، وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد، ‏فشغبوا عليه وقالوا ما أرادوا"‏أهـ‏.‏
وذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج14، ص849) في ترجمة الطبري، قال: "ودُفن في داره؛ ‏لأن بعض الرعاع من عوام الحنابلة منعوا من دفنه نهارًا، ونسبوه إلى الرفض، ومن الجهلة من رماه ‏بالإلحاد، وحاشاه من ‏هذا ومن ذاك أيضًا، بل كان أحد أئمة الإسلام في العلم بكتاب الله وسُنة رسوله، ‏وإنما ‏تقلدوا ذلك عن أبي بكر محمد بن داود، حيث كان يتكلم فيه ويرميه ‏بالعظائم ويرميه بالرفض"‏‏.‏ كما ‏ذكر الخبر ابن الجوزي في "المنتظم"، وثابت بن سنان في "تاريخه"، ومسكويه في "تجارب الأمم"، ‏والذهبي في السير، وغيرهم.‏
فكانت بداية محنة الإمام معهم هو ما افتراه عليه أبو بكر محمد بن داود الظاهري. وكان الطبري قد ‏تلقى فقه الظاهرية مدة على يد أبيه داود بن علي الأصبهاني رئيس أهل الظاهر ببغداد، ثم تخلف عنه ‏وعقد لنفسه مجلسًا. ذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج13، ص100). ثم جرت بين داود الظاهري ‏وبين الإمام الطبري مناظرة كبيرة، وصنَّف الطبري كتابًا أسماه "الرد على ذي الأسفار" يعني داود ‏الظاهري، نتج عنه أن صــنّف أبو بكر محمد بن داود كتابًا في الــرد على الطــبري أسماه "الانتصار من ‏محمد بن جرير الطبري"، ذكره الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج13، ص110). وذكر ياقوت الحموي ‏في "معجم الأدباء" (ج6، ص2460-2461) الواقعة بحذافيرها. قال: "ومن كتب الطبري المسمى "كتاب الرد على ذي ‏الأسفار" يرد فيه على داود بن علي الأصبهاني، وكان سبب تصنيف هذا الكتاب أن أبا جعفر كان قد ‏لزم داود بن علي مدة، وكتب من كتبه كثيرًا، وكان داود بن علي قد أخذ من النظر ومن الحديث ومن ‏الاختلاف ومن السُنن حظًا ليس بالمتسع، وكان بسط اللسان حسن الكلام متمكنًا من نفسه، وله ‏أصحاب فيهم دعابة قد تمكنت منهم حتى صارت لبعضهم خلقًا يستعمله في النظر لقطع مخالفيه، ‏وكان ربما ناظر داود بن علي الأثبات في المسألة في الفقه فيراه مقصرًا في الحديث فينقله إليه، أو ‏يكلمه في الحديث فينقله إلى الفقه، أو إلى الجدل إذا كان خصمه مقصرًا فيهما، وكان هو مقصرًا في ‏النحو واللغة وإن كان عارفًا بقطعة منه، وكان أبو جعفر مليًا بما نهض فيه من أي علم كان، وكان ‏متوقفًا عن الأخلاق التي لا تليق بأهل العلم ولا يؤثرها إلى أن مات، وكان يحب الجد في جميع أحواله، ‏وجرت مسألة يومًا بين داود بن علي وبين أبي جعفر، فوقف الكلام على داود بن علي، فشق ذلك على ‏أصحابه، وكلَّم رجل من أصحاب داود بن علي أبا جعفر بكلمة مضة، فقام من المجلس وعمل هذا ‏الكتاب، وأخرج منه شيئًا بعد شيء، إلى أن أخرج منه قطعة نحو مائة ورقة، ثم قطع ذلك بعد ما مات ‏داود بن علي. ثم تعرض محمد بن داود بن علي للرد على أبي جعفر فيما ردَّه على أبيه، فتعسَّف الكلام ‏على ثلاث مسائل خاصة، وأخذ في سب أبي جعفر، وهو كتابه المنسوب إلى الرد على أبي جعفر ابن ‏جرير. قال أبو الحسن بن المغلس، قال لي أبو بكر ابن داود بن علي: كان في نفسي مما تكلم به ابن ‏جرير على أبي، فدخلت يومًا على أبي بكر ابن أبي حامد، وعنده أبو جعفر، فقال له أبو بكر: هذا أبو ‏بكر محمد بن داود بن علي الأصبهاني، فلما رآني أبو جعفر وعرف مكاني رحَّب بي وأخذ يثني على أبي ‏ويمدحه، ويصفني بما قطعني عن كلامه"أهـ. ‏
وإذا عرفنا أنه فوق هذا اللقاء بين الرجلين، أن أبا بكر بن داود بن علي الأصبهاني قد مات سنة ‏‏297هــ، أي قبل الإمام الطبري بثلاث عشرة سنة سندرك وجود سبب آخر لبدء ثم استمرار محنة ‏الطبري مع الحنابلة؛ ذلك أنه كان هناك أبو بكر ثانٍ بينه وبين الطبري منازعات، ‏وهو أبو بكر –واسمه عبد الله- بن أبي داود السجستاني الحنبلي، وأبوه الإمام أبو داود السجستاني ‏صاحب السُنن وهو تلميذ الإمام أحمد. قال السبكي في "طبقات الشافعية" (ج2، ص294) عن أبي ‏داود "أحمد شيخه، ويقال إنه عرض عليه كتاب السُنن فاستحسنه"، مما يفسر غضب ابنه لعدم ذكر ‏الطبري لأحمد بن حنبل في كتاب "اختلاف الفقهاء" – وإن كان أبوه نفسه محدثًا كأستاذه الإمام أحمد ‏وليس فقيهًا-.
ويبدو أنه كان أيضًا من أهم أسباب الخلاف بين الطبري وابن أبي داود السجستاني هو ‏تفسير الطبري للمقام المحمود بالشفاعة، بينما كان أبو داود السجستاني من مروجيّ عقيدة الإقعاد، ‏ويظهر اسمه ضمن رواة أحاديثها في كتاب السُنة لأبي بكر الخلال. روى ياقوت الحموي في "معجم ‏الأدباء" (ج6، ص2450) عن محنة الطبري مع الحنابلة "وقصده الحنابلة –أي الطبري- فسألوه عن ‏أحمد بن حنبل في الجامع يوم الجمعة، وعن حديث الجلوس على العرش، فقال أبو جعفر: أما أحمد ‏بن حنبل فلا يُعدّ خلافه، فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الاختلاف، فقال: ما رأيته رُوي عنه، ولا رأيتُ له ‏أصحابًا يُعوَّل عليهم، وأما حديث الجلوس على العرش فمحال"أهـ.‏
إضافة لذلك كانت هناك عداوة شخصية بين الطبري وأبو بكر السجستاني -الذي كان مشهورًا ‏بالنصب وبغض الإمام علي- بسبب تصحيح الطبري لحديث خُم والذي كان ابن أبي داود يكذبه في ‏مجالسه ببغداد نكاية في الشيعة، بل ويكتب الأشعار في ذلك، وفقًا لرواية ياقوت في "معجم الأدباء" ‏‏(ج6، ص2464). ذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج14، ص274) في ترجمة الطبري نقلًا عن ‏أبي محمد الفرغاني تلميذ الطبري "ولمّا بلغه –أي الطبري- أن أبا بكر بن أبي داود تكلم في حديث غدير ‏خُم، عمل كتاب "الفضائل" فبدأ بفضل أبي بكر، ثم عمر، وتكلم على تصحيح حديث غدير خُم، واحتجّ ‏لتصحيحه، ولم يُتم الكتاب". قال الذهبي (ج14، ص277)  "جمع –أي الطبري- طرق حديث غدير ‏خُم في أربعة أجزاء، رأيت شطره، فبهرني سعة رواياته، وجزمت بوقوع ذلك. وقيل لابن جرير: إن أبا ‏بكر بن أبي داود يُملي في مناقب علي. فقال: تكبيرة من حارس. قال الذهبي: وقد وقع بين ابن جرير ‏وبين ابن أبي داود، وكان كل منهما لا يُنصف الآخر، وكانت الحنابلة حزب أبي بكر بن أبي داود، ‏فكثّروا وشغّبوا على ابن جرير، وناله أذى، ولزم بيته، نعوذ بالله من الهوى"أهـ. وأعاد الذهبي القصة ‏بتفصيلات في ترجمة أبي بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني (ج13، ص230): "قلتُ –أي ‏الذهبي-: كان –يعني ابن أبي داود- شهمًا، قوي النفس، وقع بينه وبين ابن جرير، وبين ابن صاعد، ‏وبين الوزير ابن عيسى الذي قرّبه. قال محمد بن عبد الله القطّان: كنتُ عند ابن جرير، فقيل: ابن أبي ‏داود يقرأ على الناس فضائل الإمام علي. فقال ابن جرير: تكبيرة من حارس. قلتُ –أي الذهبي-: لا ‏يُسمع هذا من ابن جرير للعداوة الواقعة بين الشيخين"أهـ.‏
وأقول: بل يكفي أبو بكر عبد الله بن أبي داود السجستاني، الذي شنَّع على الإمام الطبري، أن أباه الإمام أبا ‏داود قال عنه إنه كذاب، وليس بعجيب أن ينتمي إلى هذه العصابة، ويسيء إلى شيخ المفسرين وشيخ ‏المؤرخين والفقيه والعالم بالقراءات، الطبري. روى الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج13، ص227-‏‏228) في ترجمته "وقد ذكره أبو أحمد بن عدي في "كامله" -الكامل في الجرح والتعديل-، وقال : لولا ‏أنا شرطنا أن كل من تُكلم فيه ذكرناه لما ذكرت ابن أبي داود. قال: وقد تكلم فيه أبوه، وإبراهيم بن ‏أورمة –وهو صديق أبيه-، ويُنسب في الابتداء إلى شيء من النصب. ونفاه ابن الفرات من بغداد إلى ‏واسط، ثم رده الوزير علي بن عيسى، فحدّث، وأظهر فضائل علي رضي الله عنه، ثم تحنبل فصار ‏شيخًا فيهم، وهو مقبول عند أصحاب الحديث. وأما كلام أبيه فيه، فلا أدري أيش تبين له منه؟ وسمعت ‏عبدان يقول: سمعت أبا داود يقول: من البلاء أن عبد الله يطلب القضاء. قال ابن عدي: أنبأنا علي بن ‏عبد الله الداهري، سمعت أحمد بن محمد بن عمرو كُركُرة، سمعت علي بن الحسين بن الجُنيد، سمعت أبا ‏داود يقول: ابني عبد الله كذاب. قال ابن صاعد: كفانا ما قال فيه أبوه. قال ابن عدي: سمعت موسى ‏بن القاسم الأشيب يقول: حدثني أبو بكر، سمعت إبراهيم الأصبهاني -ابن أورمة- يقول: أبو بكر ابن ‏أبي داود كذاب"أهـ. ثم يكفي ابن أبي داود فوق ذلك البهتان الذي رمى به سيدنا علي بن أبي طالب، وافترى نسبته إلى الزُهري، ‏وكاد يقتله لأجله أمير أصبهان بعد أن شهد عليه الشهود، ثم قولته الشهيرة الفاجرة: إن صح حديث ‏الطير –وهو في فضائل علي- فنبوة النبي صلى الله عليه وسلم باطلة! ونبوة محمد صحيحة صحّ الحديث أو لم يصح. ‏روى القصتان الذهبي في ترجمته في "السير" (ج13، ص229- 232).‏
‏ والحنابلة المحدثون يتحايلون لتبرئة أسلافهم، بالادعاء أنهم قد خلطوا بين الإمام ابن جرير ‏الطبري وبين طبري آخر من أئمة الشيعة، وكأن ابن جرير الطبري هذا كان نكرة لا يُعرف، بل هو من ‏أكابر أئمة المسلمين في وقته وفي كل وقت، ثم إن دخوله بغداد المرة الثانية التي استقر بها فيها إلى ‏أن مات كان سنة 290هـ، ووفاته بعدها بعشرين سنة في 310هـ على أرجح الأقوال، وقيل بعد ذلك، ‏فهل بقي أمره مخلطًا على أكابر الحنابلة حتى يغروا به سفهاءهم عشرين سنة؟! وأيًا كانت الأسباب، ‏فهذا لا يمنع من تحقق سوء رأي الطبري فيمن يسمون أنفسهم بالحنابلة بدءًا من أواخر القرن الثالث ‏وأوائل القرن الرابع ويدّعون انتسابهم لأحمد، مع حسن رأيه في الإمام أحمد رغم تصنيفه له كمحدث ‏وليس كفقيه. ذكر ابن الجوزي في "المنتظم" (ج13، ص217) في ترجمة الإمام أبي جعفر الطبري ‏قوله –أي الطبري- عن الحنابلة: "لا عصابة في الإسلام كهذه ‏العصابة الخسيسة". ‏وعلّق ابن الجوزي ‏‏–وهو حنبلي- بقوله: "وهذا قبيح منه، لأنه كان ينبغي أن يخاصم من خاصمه، وأما أن يذم طائفته ‏جميعًا، وهو يدري إلى من ينتسب فغاية في القبح"أهـ. وأقول، إن في تعليق الإمام ابن الجوزي تغافل ‏عما فعلته تلك العصابة بتمامها –وليس واحد منها- ضد الإمام ابن جرير الطبري. ‏
وقد ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج14، ص 818) في أحداث سنة 309هـ "وفي ذي ‏القعدة أُحضر أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله إلى دار الوزير علي بن عيسى لمناظرة الحنابلة ‏في أشياء نقموها عليه، فلم يحضروا ولا واحد منهم"أهـ.‏
وذكر المؤرخون أنهم كانوا يترصدون بجوار بيته يتكلمون في حقه ليمنعوا طلبة العلم من الدخول ‏عليه. ذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج14، ص 847) ‏"وروى الخطيب عن إمام الأئمة أبي بكر ‏محمد بن إسحاق بن خزيمة أنه طالع "التفسير" لابن جرير في سنين من أوله إلى آخره، ثم قال: ما أعلم ‏على أديم الأرض أعلم من ابن جرير، ولقد ظلمته الحنابلة. وقال لرجل رحل إلى بغداد يكتب الحديث ‏عن المشايخ -ولم يتفق له سماع من ابن جرير؛ لأن الحنابلة كانوا يمنعون أن يجتمع به أحد- فقال: ‏لو كتبت عنه لكان خيرًا لك من كل من كتبت عنه"أهـ.‏
والخبر ذكره الذهبي في ترجمة الطبري في "السير" (ج14، ص272) بشخوصه، فحدد أن طالب ‏العلم هو حسينك بن علي. وكذا أورده السبكي، لكن للسبكي رأي آخر في القصة أورده في ترجمة ‏الطبري في "طبقات الشافعية" (ج3، ص124-125) "قال حسينك بن على النيسابورى: أول ما سألنى ‏ابن خزيمة، قال: كتبتَ عن محمد بن جرير؟، قلتُ: لا، قال: ولِم؟، قلت: لأنه كان لا يظهر، وكانت ‏الحنابلة تمنع من الدخول عليه، فقال: بئس ما فعلت، ليتك لم تكتب عن كل من كتبت عنهم وسمعت ‏منه. قلتُ –أي السبكي-: لم يكن عدم ظهوره ناشئًا من أنه مُنع، ولا كانت للحنابلة شوكة تقتضى ذلك، ‏وكان مقدار ابن جرير أرفع من أن يقدروا على منعه، وإنما ابن جرير نفسه كان قد جمع نفسه عن مثل ‏الأراذل المتعرضين إلى عرضه، فلم يكن يأذن فى الاجتماع به إلا لمن يختاره، ويعرف أنه على السنة، ‏وكان الوارد من البلاد مثل حسينك وغيره لا يُدرى حقيقة حاله، فربما أصغى إلى كلام من يتكلم فيه ‏لجهله بأمره فامتنع عن الاجتماع به. ومما يدلك على أنه لم يُمنع قول ابن خزيمة لحسينك: ليتك ‏سمعت منه، فإن فيه دلالة أن سماعه منه كان ممكنًا، ولو كان ممنوعًا لم يقل له ذلك. وهذا أوضح من ‏أن ننبه عليه، وأمر الحنابلة فى ذلك العصر كان أقل من ذلك"أهـ.
وأقول: إن رأي السُبكي أكثر ‏مقبولية، خاصة وقد كان الوزير علي بن عيسى الجراح يُجل الإمام الطبري، ويحميه، وكذلك الخليفة المقتدر، وإن كان المقتدر مسارع لسماع الوشايات في وزرائه، وينكبهم لأقل وشاية، ثم يعود ليخلع عليهم، وقد نكب علي بن عيسى مرات، ربما تأذى الطبري في أوقاتها. ولكن، على كل حال، ما من شك ‏أن الإمام لم يكن ليمتنع عن الناس بعد أن علا سنه ولم يعد يحتمل المهاترات، إلا من كثرة تشنيعهم عليه، ‏وهذه إساءة ليست بالهينة.‏ ولم تكن أول ولا آخر فتنهم، فأينما حلّوا وكثروا عم بهم البلاء.