الأربعاء، 6 يوليو 2016

53-الاعتقاد في صفة الكلام لله عز وجل

الاعتقاد في صفة الكلام لله عز وجل
د/ منى زيتون
مقتطف من كتابي "التطرف الديني"
السبت أول يونيو 2019

لعل أكثر عقيدة اختلف حولها المسلمون، وثارت بسببها الفتن، وجرت من أجلها على الأئمة المحن، هو اعتقادهم في صفة الكلام لله عز وجل.
أتناول في هذا المقال عرضًا مبسطًا لاعتقاد فرق المسلمين في الكلام، ثم أتبعه في مقال تالي بعرض لأهم المحن التي تعرض لها بعض من أكابر علماء المسلمين بسبب اعتقادهم في الكلام بما خالف الاعتقاد السائد في زمانهم.
الكلام عند الأشاعرة
راجع مقال "صفات الله تعالى عند أهل السُنة والجماعة".
فيما يخص صفة الكلام عند الأشاعرة، يقول الشهرستاني في "المِلل والنِحل" (ج1، ص82-83): "والدليل على أنه متكلم بكلام قديم، ومريد بإرادة قديمة. قال: قام الدليل على أنه تعالى ملك، والملك من له الأمر والنهي، فهو آمر ناهٍ، فلا يخلو إما أن يكون آمرًا بأمر قديم أو بأمر محدث، فإن كان محدثًا فلا يخلو إما أن يُحدثه في ذاته، أو في محل أولًا. ويستحيل أن يحدثه في ذاته، لأنه يؤدي إلى أن يكون محلًا للحوادث، وذلك محال، ويستحيل أن يكون في محل لأنه يوجب أن يكون المحل به موصوفًا، ويستحيل أن يحدثه لا في محل، لأن ذلك غير معقول، فتعيّن أنه قديم قائم به صفة له"أهـ.
ويلخص الإمام الغزالي اعتقاد الأشاعرة في الكلام في "الاقتصاد في الاعتقاد" (ص92- 93) قائلًا: "صفة الكلام صفة أزلية قديمة، قائمة بذات الله، غير منفصلة عنه، ويستحيل على الله ضدها. وهذه الصفة لله تعالى ليست بحرف ولا صوت. ونحن –أهل السُنة- لا نثبت لله تعالى إلا كلام النفس". ولقد كانت مسألة إثبات الكلام النفسي فقط سببًا في محنة الإمام أبي الفتوح الإسفرايني مع حنابلة بغداد، وتسافه حنابلة دمشق على الإمام ابن عساكر.
ويميز الأشاعرة بين الكلام النفسي القديم القائم بالذات (المدلول)، وبين الألفاظ التي نلفظه بها (الدلالة)، لتدل على الكلام النفسي القديم، وهي مخلوقة ليست قديمة. يقول الشهرستاني في "المِلل والنِحل" (ج1، ص83) عن اعتقاد الأشاعرة في الكلام: "والعبارات والألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء عليهم السلام دلالات على الكلام الأزلي، والدلالة مخلوقة محدثة، والمدلول قديم أزلي، والفرق بين القراءة والمقروء والتلاوة والمتلو، كالفرق بين الذكر والمذكور، فالذكر محدث والمذكور قديم"أهـ.
وروى السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص224) قول الإمام العز بن عبد السلام في "مُلحة الاعتقاد" "‏﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ‏‏﴾‏‏ [الأنبياء:2]، جعل الآتى محدثًا، فمن زعم أنه قديم فقد رد على الله سبحانه وتعالى، وإنما هذا الحادث دليل على القديم، كما أنّا إذا كتبنا اسم الله تعالى في ورقة لم يكن الرب القديم حالًا في تلك الورقة، فكذلك إذا كُتب الوصف القديم في شىء لم يحل الوصف المكتوب حيث حلت الكتابة. والعجب ممن يقول القرآن مركب من حرف وصوت، ثم يزعم أنه في المصحف، وليس في المصحف إلا حرف مجرد لا صوت معه، إذ ليس فيه حرف مكتوب عن صوت، فإن الحرف اللفظي ليس هو الشكل الكتابى، ولذلك يدرك الحرف اللفظي بالآذان ولا يشاهد بالعيان، ويشاهد الشكل الكتابي بالعيان ولا يسمع بالآذان، ومن توقف في ذلك فلا يعد من العقلاء فضلًا عن العلماء، فلا أكثر الله في المسلمين من أهل البدع والأهواء والإضلال والإغواء"أهـ.
ولقد كانت مسألة التلفظ بالقرآن سبب محنة الإمامين البخاري والعز بن عبد السلام، بسبب دسائس الحنابلة، حيث لم يخالف الأشاعرة المعتزلة بذلك الاعتقاد فقط، بل خالفوا الحنابلة السلفية أيضًا. فالسلفية –خاصة القدماء منهم- تارة يثبتون ضرورة التوقف عن الخوض في مسألة التلفظ بالقرآن، وعدم التصريح بكونه مخلوقًا أو غير مخلوق، وتارة يُصرِّون على عدم انفصال المتلو عن التلاوة، ومن ثم فكما أن القرآن غير مخلوق، فاللفظ بالقرآن غير مخلوق! فحكموا بأن كليهما قديم!؛ حيث خلطوا بين فعل الله وأفعال العباد، وقالوا كلام الله حرف وصوت، ومن ثم تكون الحروف والكلمات التي يُتلى ويُكتب بها القرآن قديمة!
يوضح الشهرستاني "وخالف الأشعري بهذا التدقيق جماعة من الحشوية؛ إذ قضوا بكون الحروف والكلمات قديمة، والكلام عند الأشعري معنى قائم بالنفس سوى العبارة، بل العبارة دلالة عليه من الإنسان"أهـ. يقول الجويني في "العقيدة النظامية" (ص27-29): "معتقد أهل الحق أن كلام الله تعالى ليس بحروف منتظمة، ولا أصوات منقطعة، وإنما هو صفة قائمة بذاته تعالى يدل عليها قراءة القرآن. إن كلام الله الأزلي لا يفارق الذات ولا يزايلها، ومن شد طرفًا من قضايا العقول لم يسترب في أن التحول والانتقال والزوال من صفات الأجسام، ومن الغوائل التي بُلي الخلق بها".
الكلام عند المعتزلة (ووافقتهم فيه الشيعة)
يتفق المعتزلة مع السُنة من الأشاعرة والماتريدية في ‏تقرير الصفات السبع لله تعالى (العلم– القدرة– الإرادة– الحياة– ‏السمع– البصر– الكلام)، لكن يعتقد المعتزلة أن صفاته تعالى هي عين ذاته وليست قائمة بذاته كما يعتقد الأشاعرة، فقرروا وحدة الذات الإلهية وصفاتها، وقرروا نفي الصفات ‏الزائدة عن الذات، فهو عالم بذاته قادر بذاته حي بذاته، لا بعلم وقدرة وحياة، فالصفة هي الوصف نفسه. وكان ذلك تفاديًا للشرك بزعمهم، حتى لا يقولوا بأكثر من قديم، لأنها لو شاركته في القدم لشاركته في الإلهية. ويصفهم السلفية ‏بالمُعطِّلة والجهمية بدعوى أنهم ينفون الصفات تمامًا عن الله، والحقيقة أنهم ما ينفون الصفات وإنما ينفون الأزلية عن الصفات، وينفونها قائمة بالذات، وينفون انفصالها عن الذات، فدمجوها مع ذات الله وقالوا هي عين ذاته.
ويعتقد المعتزلة كذلك أن الكلام صفة للفعل وليس من ‏صفات الذات، وأنه محدث غير قديم، مما تسبب في قولهم بخلق القرآن، فيعتقدون أن كلام الله مخلوق أو حادث ‏أي أنه وُجد بعد أن لم يكن موجودًا، وتكلم الله به بعد أن لم يكن متكلمًا، وأن كلامه تعالى حرف وصوت.
يذكر محمد صُبيح في مقدمة تحقيق كتاب "فتوح مصر وأخبارها" (ص5) عن محنة خلق القرآن التي تسببت فيها عقيدة المعتزلة "هي فكرة جدلية ملأت على الخليفة المأمون أقطار نفسه، وغلبت على ما عداها من فكر، وهزّت هزًا عنيفًا كل ما عُرف عنه من رجاحة الرأي وسعة الصدر. قال –أي المأمون- يشرح الأمر في الكتاب الذي بعث به إلى واليه بمصر: "قال الله تعالى: ‏﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏‏﴾‏‏ [الزخرف: 3]. وكل ما قد جعله فقد خلقه. كما قال تعالى: ‏﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ‏‏﴾‏‏ [الأنعام: 1]. وقال تعالى: ‏﴿كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ‏‏﴾‏‏ [طه: 99]‏‏، فأخبر أنه قصص لأمور أُحدثت بعدها. وقال عزّ وجلّ: ‏﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾‏‏ [هود: 1]. والله تعالى محكم كتابه، ثم مفصله، فهو خالقه ومبدعه". وقصد المأمون بهذا أن القرآن كلام الله، خلقه وأبدعه، وأنه ليس جزءًا غير منفصل عن الذات الإلهية –من صفاته فهو عين ذاته-، وذلك تنزيهًا للتوحيد، ومن لم يؤمن بأن القرآن مخلوق فقد عمي عن رشده، وابتعد عن الإيمان بالتوحيد، وكان أكذب الناس لأنه كذب على الله ووحيه، ولم يعرف الله حق معرفته"أهـ.
ومثل ذلك تقريبًا كان في الكتاب الذي بعث به المأمون إلى واليه على العراق إسحاق بن إبراهيم يأمره بامتحان الناس، وذكره الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" (ج8، ص632). وكُتب المأمون تلك تُلخص الأسباب العقلية المستقاة من فهمهم للقرآن، التي أدت بالمعتزلة للقول بخلق القرآن.
ومثلها ما أورده القاضي عبد الجبار في "الأصول الخمسة" –المنسوب إليه- (ص86-87)، يقولون: "الله قد أنعم على العباد بأن كلّفنا وأمرنا ونهانا، وأن الكلام فعله، كما خلقهم ثم أحسن إليهم، فكما أن الإحسان محدث فكذلك كلامه محدث. وقد قال عز وجل: ‏﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ‏‏﴾‏‏ [الأنبياء:2]، والذكر هو القرآن، لقوله تعالى: ‏‏﴿وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ‏‏﴾‏‏ [الأنبياء:50]، وقوله: ‏﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ‏‏﴾ ‏‏[يس:69]، وقال عز وجل: ‏﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا‏‏﴾‏‏ [الأحزاب:37]، والأمر هو القرآن. وقال الله تعالى: ‏﴿نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا‏‏﴾ [الزمر:23]. والحديث لا يكون إلا محدثًا. وقال تعالى: ‏﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ‏‏﴾‏‏  [هود:1]، وهذه علامة المُحدث. وقال: ‏﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً‏‏﴾‏‏ [الأحقاف:12]، وقبله غيره لا يكون إلا مُحدثًا. على أن القرآن سوره كثيرة، وهو عربي، ويُنصّف، ويُتلى، ويُستمع، ولا خلاف بين الأمة أن كل ما سوى الله فهو مُحدث. فيجب أن يكون القرآن كلام الله مُحدثًا، ومُحدِثه الله عزّ وجلّ، فإن أحدًا غيره لا يقدر على مثله، كما قال عزّ وجلّ: ‏﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏‏﴾ [الإسراء:88]"أهـ.
وأقول: إن تصور المعتزلة عن الكلام كصفة فعل وليس صفة ذات، جعلهم يفصلونها عن ذات الله، ومن ثم لزمهم أن كل ما سوى الله محدث، ثم تصورهم عن القرآن ككلام الله المنزل على فترات، والذي يقص علينا قصص أمم مما كانت قبلنا، بل ويقص بعض ما حدث للرسول مثل وجود الرسول في الغار وقت الهجرة إلى المدينة، وبعض ما حدث في الغزوات، وما حدث من الصحابة والمنافقين، وغيرها من حوادث، إضافة لعدم تمييزهم بين المدلول القديم والدلالة المحدثة (التنزيل، التلاوة، الكتابة،...)، هو سبب قطعهم بكون القرآن محدثًا مخلوقًا، وهذا فرع من تصورهم الإجمالي المختزل لصفات الله تعالى المغاير لمعتقد أهل السُنة، فتصورهم القاصر للكلام يرتبط بتصورهم المختزل عن علم الله، فالأشاعرة على النقيض من المعتزلة يقطعون بأن علم الله واحد، يتعلق بجميع المعلومات، المستحيل والجائز والواجب، والموجود والمعدوم، ويتفرع عن ذلك العلم بالمعدوم الغيبي أن كلام الله قديم حتى ولو دلّ على ما حدث للأمم من قبلنا أو للرسول أو للصحابة، وهم محدثون وليسوا أزليين.
والمعتزلة الجُدد يجادلون حول اعتقاد أسلافهم بأزلية صفات الذات، وأهمها العلم. يقول أحدهم: "يثبت المعتزلة لله كونه عالمًا منذ الأزل، وإنما الخلاف في كون العلم تابعًا للذات كما يقول المعتزلة، أو في كونه عرضًا على الذات كما يقول الأشاعرة. التعدد الذي حذر المعتزلة من الوقوع فيه ليس هو تعدد التماثل، بل تعدد قدم الأشياء وإن كانت غير متماثلة، فالقول بأن العلم عرض يلزم منه، وجود جوهر له؛ وبذلك يصير عندنا جوهر وعرض متساويان في القدم". وخلاصة الكلام أنهم يريدون أن يصوروا لنا أن سبب تشنيع المعتزلة على الأشاعرة بأنهم يقولون بأكثر من قديم، هو أن الأشاعرة يعتقدون صفات الذات قائمة بالذات، وليست عين الذات، وهو ما لا يمكن الاعتداد به والركون إليه. إن من يقرأ ما يدفع به أسلافهم حول اعتقادهم خلق القرآن لا يتلمح من خلال تلك الدفوع اعتقادًا بأزلية علم الله مثلما يعتقد أهل السُنة أشاعرة وماتريدية، بل وسلفية، فطالما تؤمنون أن العلم قديم؛ لماذا رفضتم أن الكلام قديم، والدلالة عليه فقط المحدثة؟! وجادلتم وحاججتم بأن الكلام ذاته محدث لأنه  يدل على (أخبار محدثة)، والمفترض لمن يعتقد بأزلية العلم أن يعي أن تلك الأخبار محدثة لنا، غير غائبة عن علم الله القديم، ولا يَستبعد أن يكون الله قد تكلم بها في الأزل.
ورأي أهل السنة من الأشاعرة والماتريدية في المسألة مجمل في كتاب "الفقه الأكبر" المنسوب إلى الإمام أبي حنيفة بأن: "القرآن كلام الله تعالى في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي عليه الصلاة والسلام منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق، وكتابتنا له مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة، والقرآن غير مخلوق، وما ذكر الله تعالى في القرآن حكاية عن موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعن فرعون وإبليس فإن ذلك كله إخبار عنهم، وكلام الله تعالى غير مخلوق، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق. والقرآن كلام الله تعالى فهو قديم لا ككلامهم"أهـ.
وجاء في "طبقات الشافعية" (ج3، ص417) عن اعتقاد الأشعري في الكلام في مقابل اعتقاد المعتزلة "ومذهبه أن الله تعالى أفرد موسى فى وقته، بأن أسمعه كلام نفسه بغير واسطة، ولا على لسان رسول، وإنما لا يصح هذا على أصول القدرية –يعني المعتزلة-، الذين يقولون إن كلام الله مخلوق فى الشجرة، وموسى عليه السلام يسمع كلامه، وقال الأشعرى: لو كان كلامه سبحانه فى الشجرة لكان المتكلم بذلك الكلام الشجرة، فالقدرية قالوا: إن موسى عليه السلام سمع كلامًا من الشجرة، فلزمهم أن يقولوا إنه سمع كلام الشجرة لا كلام الله"أهـ. فالمتكلم عنده من قام بالكلام، وعند المعتزلة من فعل الكلام؛ لأن الكلام عند المعتزلة فعل، والفِعل يُنسب لفاعله، وليس لمن قام به، وبما أنهم يرونه صفة فعل وليس صفة ذات، فهم يعتقدون أنه حادث مخلوق، والله تعالى قديم، وذاته لا تقوم بها الحوادث، فقولهم بخلق القرآن هو نهاية سلسلة من الاعتقادات المترتبة على بعضها، وأصلها أن الكلام من صفات الفعل، وأن صفاته التي هي عين ذاته –على اعتقادهم-، كالعلم والإرادة، حادثة!
ومن أكثر ما يُسيئوني استخدام ما يُسمى "التشنيع بإساءة الحكاية" عند شرح كثيرين لعقيدة المعتزلة في خلق القرآن، فيشنِّعون بأن المعتزلة قالوا إن القرآن الذي هو كلام الله مخلوق كالمخلوقات! أو أن المعتزلة ادَّعوا أن القرآن هو عمل بشري من أعمال النبي صلى الله عليه وسلم! في حين أنه يمكن مجادلتهم بالعقل لنثبت لهم ما نراه من خطأ اعتقادهم.
هذه المناظرة التخيلية وضعتها بين أشعري ومعتزلي لإبطال عقيدة المعتزلة في الكلام أنه صفة فعل غير قائمة بذات الله القديم، وأنه مُحدث، والتي قادتهم للقول بخلق القرآن.
الأشعري: هل أمره سبحانه قبل خلقه، أم خلقه قبل أمره؟
المعتزلي: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾‏ [يس: 82]
الأشعري: فكيف يأمر ربنا وينهى؟
المعتزلي: يأمر ربنا بكلام.
الأشعري: فكيف يكون الكلام مُحدثًا وقد سبق الخلق؟
المعتزلي: الكلام فعل فعله الله قبل الخلق.
الأشعري: فذاته تعالى غير محل للحوادث، وأفعال الله يحدثها في مخلوقاته، فلو كان كما تقول أن الكلام صفة فعل، لا بد من خلق يُحدث فيه فعل الكلام، وأمره قبل خلقه، فكيف يكون الكلام صفة فعل؟
فانقطع المعتزلي.
الكلام عند السلفية
أما السلفية، فيعتقدون أن الله تعالى يتكلم بحرف وصوت، وغالبًا لا يقولون عن القرآن سوى أنه كلام الله، فيرفضون قول المعتزلة بأن القرآن مخلوق (مُحدث)، كما يرفضون تمييز الأشاعرة بين القرآن الذي هو كلام الله القديم غير المخلوق، وبين التلفظ به الذي هو مُحدث، كونه من أفعال العباد. وللإمام الذهبي توضيح بخصوص القول بأن اللفظ بالقرآن غير مخلوق الذي أنكره أيضًا الإمام أحمد بن حنبل، فرفض أن يُقال إنه غير مخلوق (قديم أزلي) كما رفض أن يُقال إنه مخلوق (مُحدث)، وأقول: إن هذا مما اُعتيد عليه من توقف الإمام أحمد.
يقول الذهبي في "تاريخ الإسلام" (ج5، ص1027) "قلتُ: الملفوظ كلام الله، وهو غير مخلوق، والتلفظ مخلوق لأن التلفظ من كسب القارئ، وهو الحركة والصوت وإخراج الحروف، فإن ذلك مما أحدثه القارئ، ولم يُحدث حروف القرآن ولا معانيه، وإنما أحدث نطقه به. فاللفظ قدر مشترك بين هذا وهذا، ولذلك لم يُجوِّز الإمام أحمد: لفظي بالقرآن مخلوق ولا غير مخلوق؛ إذ كل واحد من الإطلاقين مُوهم. والله أعلم"أهـ.
كما قرأت للذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج13، ص101) "القرآن العظيم، حروفه ومعانيه وألفاظه كلام رب العالمين، غير مخلوق، وتلفظنا به وأصواتنا به من أعمالنا المخلوقة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "زيِّنوا القرآن بأصواتكم". ولكن لمّا كان الملفوظ لا يستقل إلا بتلفظنا، والمكتوب لا ينفك عن كتابة، والمتلو لا يُسمع إلا بتلاوة تالٍ، صعب فهم المسألة، وعسر إفراز اللفظ الذي هو الملفوظ من اللفظ الذي يُعنى به التلفظ، فالذهن يعلم الفرق بين هذا وبين هذا، والخوض في هذا خطر. نسأل الله السلامة في الدين. وفي المسألة بحوث طويلة، الكف عنها أولى"أهـ.
ومضمون كلام الذهبي –وهو حنبلي العقيدة- يتفق مع اعتقاد الأشاعرة، رغم إيثاره للتوقف مشابهة منه للإمام أحمد، وفقًا لما صحّ لديه عنه، وإن كانت الأخبار عنه في هذه المسألة متضاربة، كما سيتبين عند عرض محنة الإمام البخاري. لكن الأدهى ليس في التوقف، بل الداهية الصلعاء أن السلفية كثيرًا ما يخلطون بين فعل الله وأفعال العباد؛ فقالوا كلام الله حرف وصوت، ومن ثم فالحروف والكلمات التي يُتلى ويُكتب بها القرآن قديمة! ومنهم من يخلط في مسألة اللفظ خلطًا شنيعًا، فلا يُفرِّق بين عبارة صحيحة كـ "لفظي بالقرآن مخلوق"، وعبارة خاطئة تهدف إلى إثبات عقيدة المعتزلة في خلق القرآن كـقول بعضهم "القرآن بلفظي مخلوق"، فالقرآن كلام الله قديم، ولا يكون بلفظي ولا بغيره مخلوقًا.

ووفقًا لابن تيمية في "الفتاوى الكبرى"، فهو يتهم الأشاعرة بالاضطراب في مسألة القرآن. ويبدو أنه لم يفهم كيف يكون اعتقادهم بأن القرآن غير مخلوق، بينما لفظنا به مخلوق، وهو أمر حتى أكثر السلفية المعاصرين يخلطون فيه ولا يفهمونه. وكانت للإمام البخاري محنة كبيرة مع حنابلة زمانه بسبب خلطهم هذا وعدم تمييزهم، نعرض ‏لها لاحقًا.‏
***********************

أشهر المحن التي جرت على كبار العلماء بسبب الكلام
محنة خلق القرآن "هل المعتزلة أبرياء من محنة خلق القرآن؟"
محنة الإمام البخاري
محنة الحافظ أبي نُعيم الأصبهاني
محنة الإمام أبي الفتوح الإسفراييني + محنة الإمام العز بن عبد السلام + الحنابلة والحافظ ابن عساكر
ابن تيمية واعتقاده الشاذ في قيام الحوادث بذات الله والكلام