الأحد، 11 يونيو 2017

76- التعميم والتمييز2

76-التعميم والتمييز (2)
د/منى زيتون
الخميس 8 يونيو 2017


في حديثه عن يوم الحساب، معبرًا عن دقته في حق كل فرد من بني آدم، قال تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ﴾ [الأنبياء: 47]
فنحن سنُحاسب يوم القيامة فُرادى لا جماعات، قال تعالى: ‏‏‏﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾‏‏ [مريم: 95]؛ ذلك أن كلًا منا مكلف ومسؤول مسؤولية فردية عن أفعاله. قال تعالى: ‏‏‏﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ‏‏﴾‏‏ [الإسراء: 13].
وقد دلّت آية الأنبياء على أنه لدقة ذلك الحساب الفردي لكل نفس فإنه سيوضع لها ميزانًا خاصًا بها، فلكل منا الميزان الذي ستوزن به أعماله ليتميز بها، ثم ليتميز المصلحون من المجرمين ‏‏‏‏‏‏﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ‏‏﴾‏‏ [الأنفال:37] ﴿وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ‏‏﴾‏‏ [يس: 59]، ويفترقوا فرقتين إلى الجنة وإلى النار.

معنى التعميم/ التمييز
الجذر اللغوي لكلمة ميزان هي (م ي ز).
جاء في مختار الصِّحاح (مَازَ) الشيء عزله وفرزه، وكذا (ميّزه تمييزًا فانماز) و (امتاز) و (تميّز) و (استماز) كله بمعنى. يُقال (امتاز) القوم إذا تميّز بعضهم من بعض. وفلان يكاد يتميّز من الغيظ أي يتقطع.
وفقهاؤنا انتبهوا إلى قيمة التمييز من قديم، فيقولون (سن التمييز). جاء في المصباح المنير، (تميّز) الشيء انفصل عن غيره، والفقهاء يقولون (سن التمييز) والمراد سن إذا انتهى إليها عرف مضاره ومنافعه، وكأنه مأخوذ من ميّزت الأشياء إذ فرّقتها بعد المعرفة بها، وبعض الناس يقول: (التمييز) قوة في الدماغ يُستنبط بها المعاني.
وعكس التمييز التعميم، والعام في لغة العرب هو الشامل، خلاف الخاص. وعمّم الشيء: جعله عامًا. وفي المصباح المنير، معنى العموم إذا اقتضاه اللفظ ترك التفصيل إلى الإجمال. ويختلف العموم بحسب المقامات وما يُضاف إليها من قرائن الأحوال، فقولك (من يأتني أُكرمه) وإن كان للعموم، فقد يقتضي المقام التخصيص بزمان أو مكان أو أفراد ونحو ذلك.
والتمييز كمفهوم عقلي وقرآني أقوى دلالة ولا شك من مفهوم التخصيص، فالتمييز هو تفريق للأشياء بعد معرفة بها، ولا يُشترط في التخصيص مثل ذلك، فهو مجرد انفراد بالشيء. أما إن قيل خاصية فهي صفة لا تنفك عن الشيء تميزه عن غيره.
وقبل أن نُمثِّل ليتضح المقام ونعي أهمية إدراك التعميم والتمييز، علينا أولًا أن نتعرف على معناهما في نظريات التعلم ثم نعرج على أصول الفقه.

ما هو التعميم وما هو التمييز كما يتعرفان في ضوء نظريات التعلم؟
في التعلم الشرطي الكلاسيكي هناك قوانين للتعلم، منها قانونا التعميم والتمييز، فالتعميم ببساطة، ودون الإشارة لمصطلحات نفسية، هو قدرتنا على الاستجابة للمواقف تبعًا لدرجة التشابه بينها وبين الموقف الأصلي الذي تم فيه التعلم، وكلما زاد التشابه بين المواقف كان احتمال التعميم وإعطاء نفس الاستجابة كبيرًا، كما أن التعميم قد يكون أوليًا، بمعنى أن الاستجابة المُعمّمة تظهر نتيجة مثيرات مشابهة من نفس النوع في الموقفين، وقد يكون ثانويًا بمعنى أن الاستجابة تظهر نتيجة وجود خاصية أو جزئية أو شكل من أشكال المثير الأصلي.
والتمييز على عكس التعميم، هو القدرة على التفريق بين المثيرات المختلفة والمتشابهة، وبالتالي إصدار الاستجابة لمثير دون آخر.
والتعميم والتمييز كلاهما متعلم، والمتفق عليه من خلال تجارب التعلم على الحيوانات والأطفال الصغار أن تعلم التعميم يسبق تعلم التمييز، فالطفل الصغير يطلق لفظ "بابا" على كل رجل عندما يبدأ الكلام، ثم يتوقف عن ذلك، ويبدأ في التمييز ولا يُنادي بالكلمة غير أبيه؛ ذلك أن التعميم والتمييز عمليتان عقليتان، ولكن التمييز يحتاج بذل جهد عقلي أكبر، وبالتالي يحدث في مرحلة تالية للتعميم، فالحيوانات المخبرية لا تتعلم التمييز بين المثيرات البسيطة إلا بعد جهد وتدريب طويلين، والإنسان لا يميز بدقة بين المثيرات إلا في مرحلة متقدمة من نموه العقلي.
وتعتبر عمليتا التعميم والتمييز من العمليات الهامة المتصلة بفهم كثير من مظاهر التعلم الإنساني؛ لأن التعلم بجميع أشكاله يقتضي التمييز بين المفاهيم والحقائق ومعرفة أوجه الشبه والاختلاف بينها، لكن ليس الأطفال الصغار فقط من يفتقدون للقدرة على التمييز، بل هناك من الكبار عمرًا من لا يستطيعون تحديد أوجه التشابه والاختلاف بين موقفين، ويميلون إلى إطلاق استجابة متشابهة لموقفين مختلفين!. وتقول العامة عندنا في مصر عن الغبي أنه لا يميز!!.
في مقال لي العام الماضي تناولت التعميم والتمييز على هامش قضية التنازل المخزي عن جزيرتيّ تيران وصنافير، حيث لفتني افتقاد المدافعين عن سعودية الجزيرتين من المصريين القدرة على التمييز، فجعلوا التفريط في الأرض للأخ أمرًا مقبولًا، وعابوا على من استنكروه. كما استنكر بعض المؤيدين على بعض الشباب العامل في السعودية رفضهم التنازل عن الجزيرتين، وكأنه من الواجب على الشاب المغترب أن يتنازل عن أرضه التي هي عرضه لمن شاء الله أن يجعل رزقه في بلادهم!!.
قلت وقتها أن كلا التشنيعتين مثالان صارخان للفشل الذريع في التمييز بين المواقف وإطلاق تعميمات على موقفين مختلفين لا تليق سوى بأطفال صغار، بينما يُفترض أن يؤدي اختلاف الموقفين في كل حالة بالعقلاء إلى استجابات مختلفة. ولضعف القدرة على التمييز كما سبق وأسلفت دلالة قوية على انحدار المستوى العقلي لمن أطلق هذه التعميمات المتساهلة إن كان حقًا مقتنعًا بها.
وفي هذا المقال أتناول التعميم والتمييز في جانب آخر، ديني وليس اجتماعي.

علم أصول الفقه وتأصيل التعميم والتمييز (التخصيص)
يُعرَّف علم أصول الفقه على أنه: العلم بالقواعد التي وُضِعت للوصول إلی استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية. فهو منهج استدلال عقلي إسلامي قائم على الاستنباط وليس الاستقراء، حيث يُستنبط الحكم من دليله. ولأن الأدلة الشرعية جاءت بلسان العرب فاللغة العربية من الأسس التي يبنى عليها علم أصول الفقه.
في موسوعته الفقهية "الأم" للإمام الشافعي، في الكتاب الأول منها "الرسالة"، وضع الإمام الشافعي أول مباديء التعميم والتخصيص في الفقه الإسلامي، فلفت المسلمين إلى أبواب مثل: ما نزل من الكتاب عامًا يُراد به العام ويدخله الخصوص، وما نزل من القرآن عام الظاهر وهو يجمع العام والخصوص، وما نزل من الكتاب عام الظاهر يُراد به كله الخاص، والصنف الذي يبين سياقه معناه، والصنف الذي يدل لفظه على باطنه دون ظاهره، وما نزل عامًا فدّلت السنة خاصة على أنه يُراد به الخاص.
وورد عن الإمام أحمد بن حنبل قوله: "لم نكن نعرف الخصوص والعموم حتى ورد الشافعي". يقصد وروده بغدادًا.
وبعد الشافعي، ولقرون، أسهم كثير من علماء المسلمين في تقعيد قواعد هذا العلم وتأصيلها، والتي كان من أهمها دراسة دلالات الألفاظ من عموم وخصوص؛ ليكون أيسر على الباحث التفريق بين العام والخاص، هذا التفريق الذي يؤثر بشكل واضح في استنباط الأحكام. وما الفقه إلا فهم لأوجه التشابه والاختلاف بين المواقف، وعلى أساسها تُبنى الأحكام.

لماذا هذه الأهمية للتمييز؟
يقول تعالى: ﴿ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا ۗ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة: 275]. يظهر من سياق الآية الكريمة أن المشركين كانوا قد قالوا أن البيع نظير الربا، أي: هذا مثل هذا، فلِم قد أحل الله هذا وحرم هذا؟!؛ بالتالي فإن أصل الإشكالية أن المشركين لم يميزوا وجود فروق بين حالتيّ البيع والربا، والتي على أساسها كان تفريق الله عزّ وجلّ بينهما في الحكم الشرعي، مما أدى إلى اعتراضهم على حكم الله.
ومثله، ما يشيعه الملاحدة في عصرنا الحديث من أن الزواج مثل العلاقات غير الشرعية، فلِم يقبل المجتمع الشرقي –المتخلف كما يرونه- الزواج ويرفض ما عداه؟
وهذان من أشهر أمثلة التعميم وعدم القدرة على التمييز في المسائل الشرعية، أو لنكون أدق نقول أنها أشهر وأبسط أمثلة يمكن لضعاف العقول من المسلمين تحديدًا أن يفهموها، ولكن أمثلة أخرى للتمييز نراهم يسقطون فيها.

المنهج القرآني منهج تمييز؛ ‏﴿‏ لَيْسُوا سَوَاءً﴾‏
لأستاذنا الدكتور محمد عمارة كلمة شهيرة عن أن المنهج القرآني هو منهج ‏﴿لَيْسُوا سَوَاءً﴾‏؛ ففي القرآن الكريم كثيرًا ما يلفتنا الحق سبحانه وتعالى إلى عدم استواء حال البشر بناءً على أفعالهم وما يقترفون. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
‏﴿‏لَّا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ‏﴾‏ [النساء: 95]
‏﴿‏قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ‏﴾‏ [المائدة: 100]
‏﴿‏قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ‏﴾‏ [الأنعام: 50] و [الرعد: 16]
‏﴿‏هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ‏﴾‏ [الزمر: 9]
‏﴿‏لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ‏﴾‏ [الحشر: 20]
وكلما اقتربنا من التمييز كلما اقتربنا من مراد الله بنا كبشر نعقل، وكلما عمّمنا ما ليس في حقه التعميم كلما شابهنا قطعان الأنعام.
وعن أهل الكتاب يقول الله تعالى: ‏﴿‏لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ ءَايَاتِ اللَّهِ ءَانَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ ۝ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ ‏وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏۝ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 113: 115]
ولم يخل الأمر من تنطعات تفسيرية من جانبنا كمسلمين بتأويل أن المقصود بـ ‏﴿‏لَيْسُوا سَوَاءً‏ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾، ليس كما هو ظاهر الآية؛ أي فريقا أهل الكتاب، أهل الإيمان منهم والكفر، الذين أخبرنا الله عنهم مرارًا في كثير من الآيات، بل المقصود وفقًا لبعض المفسرين أنه لا يستوي أهل الكتاب وأمة محمد صلى الله عليه وسلم!، أو أن المقصود بالفئة المؤمنة من أهل الكتاب من أسلموا منهم على عهد الرسول!
فهل بقيوا أهل كتاب بعد أن دخلوا في شريعة محمد عليه الصلاة والسلام حتى يخاطبوا هذا الخطاب، أم عزّ علينا تمييز الحق سبحانه الظاهر في غير آية بين فئتين من أهل الكتاب، وآثرنا عليه تعميمنا بكفرهم جميعًا، ذلك التعميم الأخرق المناقض لآيات القرآن وقواعد أصول الفقه في دلالات ألفاظ التعميم والتخصيص؟!! فهل هذا رد من المتطرفين على الله؟، وقد عدّ الله من هذه صفتهم من أهل الكتاب في عداد الصالحين، ووعدهم ألّا يضيع أجر ما عملوه. ﴿‏وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ‏۝ وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ﴾.
في مقالي "تكفير أهل الكتاب" سبق أن لفتت إلى تمييز الحق سبحانه وتعالى بين طائفتين كبيرتين من أهل الكتاب، لا يمكن تجاوز إحداها والتعميم بأي من حكميّ الإيمان أو الكفر على الأخرى. ‏فلا يجوز إطلاق تعميم الكفر على أهل الكتاب، كما لا يجوز تعميم الإيمان. هم "أهل كتاب"، ‏‏﴿مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ‏‏﴾  [المائدة: 66]، فهناك أمة مقتصدة في الاعتقاد في المسيح، بلا إفراط أو تفريط، ويقابلها كثير أساءوا الاعتقاد. وليس لأحد منا أن ‏يحاول الكشف عن حقيقة اعتقاد أحد منهم لتعرّف في أي جماعة هو ولا أن نجادله إلا إن ‏كان من الذين ظلموا منهم.‏ ﴿وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ۖ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَٰهُنَا وَإِلَٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ‏‏﴾ [العنكبوت: 46].
لكن الأدهى أن المتطرفين من بيننا الذين فشلوا في تمييز ما ينبغي للعقلاء تمييزه، فعمّموا الآيات الخاصة بكفر فريق من أهل الكتاب فجعلوها فيهم جميعًا، قد خصصوا الآيات التي تتحدث عن مغفرة الله، وأشهرها الآية العامة الجامعة ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا [النساء: 48] ومثيلتها في نفس السورة ‏﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا﴾ [النساء: 116]. وأدخلوا أسبابًا أخرى غير التوحيد، مقطوع بها ولا أمل في النجاة بغيرها بزعمهم، وتقتصر على المسلمين فقط، مع أن الآية أكثر من واضحة، وعامة لا تقبل تمييزًا لفئة، ولا تخصيصًا بزمان أو مكان، فكل من لم يشرك به سبحانه هو في خطر المشيئة، وكما قال العارفون بالله: مفتاح الجنة كلمة؛ وهي كلمة التوحيد.
ومن أراد أن يستزيد في القراءة حول أصل الإيمان وفروعه، يمكنه قراءة مقالي "كيف يزيد الإيمان وينقص؟!"

التعصب يقف وراء عدم التمييز
وعند الحديث عن التكفير تحديدًا كأعظم أشكال التطرف أثرًا، لا يمكن أن ننسى الطائفة المسماة بالسلفية. والسلفية كما هو مشهود أكثر طوائف الأمة التي تفتقد التمييز وتميل للتعميم في استنباط الأحكام من آيات الكتاب العزيز. وإطلاقهم التعميمات الساذجة هو السبب الرئيسي لاتهام بعض المتحذلقين والملحدين للقرآن الكريم بالتناقض، فلا هم ولا المتحذلقين يميزون من المخاطَب في كل آية، وتعميماتهم تأتي على الإسلام بالوبال.
وليس هذا وجه التشابه الوحيد بين السلفية والمتحذلقين والملاحدة. كانت لي فرصة للتواجد في مجموعة أنشأها السلفية للرد على الملحدين. ومنذ شهر بدأت مناظرة بين مؤسس مجموعتهم وأحد الملحدين العرب، وكانت ساحة السجال مجموعة أخرى للمتكلمين لتكون أرضًا محايدة. ولأنني لست مهتمة إطلاقًا بمجادلة الملحدين لم أتابع المناظرة، ولكن ما تابعته ووجدته يستحق التوقف هو تعليقات متناثرة لبعض السلفية هنا وهناك تتساءل عن كثرة أعداد الملحدين في مجموعة المتكلمين التي كانت حلبة سجال المناظرة، وقد أزعجهم أنهم يضعون كثيرًا من علامات الإعجاب على تعليقات الملحد. وأنا أعلم حقيقة أن هذا أحد أساليب الملحدين الشهيرة، ولكنه لم يكن أسلوب الملحدين وحدهم للحق، فهو أيضًا أسلوب السلفية!، الذين لم يتابعوا المناظرة للاستفادة وفحص الأدلة بل للتشجيع!، فالعبرة كما يقول علم النفس باتجاه التعصب وليس محتواه.
ولو أردنا تحديد السبب الأخفى الذي يقف وراء كثرة إطلاق المتطرفين المكفرين للتعميمات، سنجد أنه سيظل دائمًا وأبدًا ينبع من جهلهم باللغة وقواعد أصول الفقه، وأخيرًا أنهم يساوون بين ‏الآيات وفهومهم.‏ وهم في هذا ينقلون بعض الآيات مساوين بينها وبين فهمهم لها!‏، غير مستوعبين ما يلفتهم الآخر إليه في الآية من معنى ودلالة ألفاظ، لأنهم لا يميزون!
في نقاشي معهم حول موضوع تكفير أهل الكتاب على سبيل المثال، كانوا مُصرِّين على تعميم الآيات الواضحة التخصيص بفريق من أهل الكتاب، هكذا دون حتى محاولة الاستدلال على عموم الآيات، ربما لأنهم أصلًا لا يميزون العام من الخاص.‏ وبدا كأنهم يعرضون آراءهم هكذا دون حجة!، وهذه علامة أخرى على عدم التمييز، فالقرآن الكريم ليس رواية تُبدى الرأي في آياته هكذا، فتصر على تعميم المُخصّص برأسك!
والأمر لا يختص بإطلاق التعميمات التي تتفق مع تطرفهم وفقًا لفهومهم من آيات القرآن، وادّعاء نسخ أي آية أخرى تخالف المعنى الذي عمّموه، فهم أيضًا الأكثر إعطاءً للتعميمات تجاه الأشخاص والمواقف في تاريخنا الإسلامي، بل وفي حاضرنا، ولديهم شخصيات تُعامل بتقديس يفوق تقديس الأنبياء، وكل من دخل في زمرة المقدسين عندهم لا يجوز انتقاده!، فهم يعطون تعميمًا تجاه الأشخاص أقرب لأن يكون ذا قطبين (ملاك/شيطان)، والملاك لا يُقال له أخطأ، والشيطان لا يُقبل منه أي كلمة ولو كانت حقًا. بينما منهج الإسلام كما أوضحنا هو منهج تمييزي؛ تمييزي في فهم آيات الله لنعرف من المخاطب وما حاله وما المقصود، وتمييزي تجاه الأشخاص والمواقف يدور مع الحق حيثما دار ولا يقدس أشخاصًا غير معصومين.

تجربتي مع السلفية، هل كل سلفي مكفِّر؟!
        هذا السؤال شغلني كثيرًا الفترة الماضية، وشغلتني الإجابة عليه، حتى أنني أجلت نشر المقال حتى تتضح لي الرؤية، والتي كانت في أشد حالات الالتباس.
        ذكرنا في مقال سابق أن  التعصب كسمة نفسية يرتبط بسمة عقلية هي الجمود العقلي، فهو يعمي ويصم ويشوه إدراك ‏الواقع، لأنه يقتضي رفض مناقشة أو تعديل الأحكام، أو التعميم غير المصحوب بدليل تجاه فكرة ‏أو جماعة. ولا يقوم على سند‎ ‎منطقي أو معرفة كافية بالموضوع المتعصب له، وإن‎ ‎كنا نحاول أن ‏نبرره، ويستخدم التعصب كستار لإخفاء ضعف الحكم العقلي بالصحة على الموقف المتعصب له.‏
        فهل يصح أن أعمّم الحكم على جماعة السلفية بأنهم مُكفِّرون استدلالًا عن طريق الاستقراء للملاحظات المنضبطة التي جمعتها؟ وإلا سأكون قد سقطت في فخ التعصب ضدهم؟!
بدايةً فإنه عند الحديث عن التعميم والتمييز، يجب أن نُميز أولًا بين فكرة أو عقيدة هي أساس للجماعة كلها، وبالتالي من الحمق عدم التعميم عليهم، وبين عقيدة قد لا يتفقون حولها.
نحن مثلًا لا يمكن ألّا نعمم أن كل من هو على شريعة الإسلام يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإلا لا معنى لإسلامه. هذه الحالة هي مثال لتعميم صادق على جماعة المسلمين لا يلزم فيه تمييز.
لكن ماذا عن السلفية؟ هل التكفير هي عقيدة تحكم الجماعة ككل؟
هناك انطباع قوي قائم لدى أغلب المثقفين أن السلفية جميعهم مكفرون. بالتالي لا يرحب كثيرون بصداقتهم، لذا يبقون مجتمعًا منعزلًا له أفكاره، ويمثل جزيرة يشعر أفرادها بالتميز عن باقي البشر.
ولعل المشكلة الأكبر أننا برفض التقارب معهم نسهم في مزيد من عزلهم وغلبة الأوهام عليهم بأنهم أفضل جماعات المسلمين، غير واعين مطلقًا أن نسبة كبيرة من الموحدين لا يكادون يطيقون سيرتهم. وربما لو تم الاستفتاء على مستوى العالم على أكثر جماعة دينية مكروهة لاكتسحوا بجدارة.
في بداية عام 2016، ولرغبة مني في كسر هذا التعميم بأنهم مكفرين أمام نفسي، اعتقادًا مني أنه خطأ، وأنه علامة على تعصب مني ضدهم كجماعة، ولا يجوز إطلاقه، قررت أن أبدأ في متابعة أحد شيوخ السلفية الذين رأيت فيهم اعتدالًا. أحد أصدقائي من جنسيته قالها لي واضحة لمّا رآني أتابعه: "الفرق بين هذا الشيخ وباقي مشائخهم، كالفرق بين المطربة فلانة قبل وبعد عمليات التجميل. أعرفه معرفة شخصية، وصدقيني لا فرق!".
صراحةً، كنت مستبشرة خيرًا بالشيخ حتى لم أعبأ نهائيًا بتنبيه الصديق، وآثرت التجربة بنفسي، وظننت أنها ستكون ناجحة، وبعد شهور اكتشفت أن ما قاله الصديق صحيح، بسبب موقف الشيخ من أحد المفكرين ومحاولة استدراجه للرمي بالكفر، فوعيت عندها أنه حقًا لا فرق.
ومنذ شهور اقترح عليّ أحدهم المشاركة في تحرير موسوعة علمية، وقبلت، ثم اكتشفت أن كل من يعمل فيها سلفيون، واستمريت في العمل معهم فترة، إضافة إلى تواجدي في تلك المجموعة التي يحاورون فيها الملحدين، مما أتاح لي الفرصة أكثر لفهم كيفية تفكيرهم.
وأقولها آسفة أنني مما رأيته ورصدته بعيني حتى الآن في جماعة كبيرة منهم للتحقق أن الأمر ليس حالة فردية، فإني أجد أن تعميمًا من نوعية "كل سلفي مُكفِّر"، وإن لم أختبر جميع السلفية لبيان صدقه، تعميمًا غير متساهل؛ فالعينة الواسعة التي تعاملت معها على اختلاف مستوياتهم الثقافية -وأغلبهم للأسف مثقفون- يمكن الاستنتاج من حالهم أنهم جميعًا، وبنسبة 100%، مُكفِّرون لغيرهم. فالتكفير عقيدة أساسية من عقيدة الدعوة المسماة زورًا بالسلفية، من الواضح أنها تعمهم، كما يعمّ الإيمان جميع المسلمين. وأنا في هذا الاستنتاج مدينة لحبهم وضع علامات الإعجاب وكتابة التعليقات من باب التشجيع مما مكنني من التأكد من دقة النتائج.
وإن أردنا التفصيل يمكننا القول أن المنتمين إلى الدعوة السلفية يُكفِّرون طوائف أخرى تؤمن بالله، ويظنون أنفسهم أعلم من غيرهم من المسلمين غير المُكفِّرين، وأن هؤلاء الغير مخطئون بعدم التكفير مثلهم، ويجب مجادلتهم –مجادلة سمجة- يفرضونها عليهم حتى يقروا لهم، ثم هم بعد ذلك لا يفهمون سبب نفور هذا الغير منهم وربما احتقاره لهم. وهم فوق ذلك، لا يسألون من يرفض التكفير إن كان يريد محاورتهم أم لا، فالحوار مفروض عليه لأنهم يريدونه، وهو ضال ويجب أن يستسلم ليد الجراح في محاولة إصلاحه!!، حتى لو كان الحوار على صفحته!!
فقط هناك اختلاف في مستويات التكفير بينهم، فهناك منهم من يُكفِّر غيره من المسلمين حتى من السلفية، وقد رأيت بعيني أمثلة عجيبة على ذلك، ولا أقصد فصائلهم المتناحرة في سوريا بهذا، فهؤلاء كبار الخوارج فيهم، بل أعني بعض صغار سفهائهم، والذي يُكفّر في منشوره الأخير شيخهم المغامسي!!
وهناك منهم من يُكفِّر المسلمين من أصحاب العقائد الأخرى، وهناك منهم من لا يعلنها صريحة أنه يُكفِّر المسلمين، ولكنه يُصر على تعميم آيات الكفر المخصصة التي وردت في فئة كبيرة من أهل الكتاب، بينما يضع غلافًا لصفحته على الفيسبوك عليه الآية الكريمة ‏﴿‏لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ‏﴾‏ [الكافرون: 6]، ولكنه يقصد حقيقة، ومن خلال نقاشي معه، "لكم دينكم ولي دين يا مشركين يا مسيحيين، يا من لن يرد أحدًا منكم على جنة، حتى المقتصدين في المسيح"!. فعندما يتعلق الأمر برحمة الله، فالسلفية أقرب للتصور ‏﴿‏نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ﴾ [المائدة: 18]، نحن المؤمنون حقًا، نحن على ما كان عليه السلف، وشتّان بينهم وبين السلف لمن يعرف ويقرأ!
لكن رغمًا عن ذلك، فلا زال البحث جاريًا بالنسبة لي عن سلفي غير مُكفِّر. أحاول أن أكسر به هذا التعميم عندي حول تلك الجماعة!، ووالله إنني أحاول جاهدة أن أميز بينهم، لكنهم أكثر تشابهًا وأصعب تمييزًا عمّن عداهم، وربما كان بعض العامة منهم أقرب للصلاح، وأبعد عن التكفير، وفيه أمل عن مثقفيهم!
ولا يفوتني في نهاية المقال أن أشكر عينة السلفيين الأخيرة التي عززت ردودهم في حواري الأخير معهم استنتاجات التجربة الطبيعية التي أجريتها عليهم.

أخيرًا أقول: ستبقى خالدة أبد الدهر تلك الكلمة الفطرية للمصري البسيط تعبيرًا عن استنكاره الغباء "أنت ما بتميزش"؟!