الأحد، 11 يونيو 2017

79-قصة جبلين وجزيرتين!

قصة جبلين وجزيرتين!
د/ منى أبو بكر زيتون
الجمعة 16 يونيو 2017


قال تعالى: ﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ [التين: 1: 3].
وفى التوراة، في سفر التثنية، الإصحاح الثالث والثلاثين ﴿أقبَلَ الرّبُّ مِنْ سيناءَ، وأشرَقَ‏ لهُم مِنْ جبَلِ سَعيرَ، وتَجلَّى مِنْ جبَلِ فارانَ [1: 4]


الطور، قصة جبلين!








شواهد القصة

ولكن كنا نعتقد أن الذي انشق كان خليج السويس، ومنه انحرف بنو إسرائيل إلى جنوب سيناء حيث كانت المواعدة عند الجبل نفسه الذي أُعطي سيدنا موسى الوحي عنده عند دخول مصر، ولكن دراسات جيولوجية وأثرية حديثة تشير بقوة إلى أن الذي انشق كان خليج العقبة، وتحديدًا عند منطقة نويبع.
أظهرت تلك الكشوف الحديثة أن عبور بني إسرائيل خروجًا من مصر تم من خليج العقبة وصولًا إلى شمال الحجاز، وليس من خليج السويس وصولًا إلى سيناء.
كانت دراسات قد تمت بعد نشأة دولة إسرائيل قد أظهرت عدم وجود أي آثار للعجلات الحربية لجيش فرعون في خليج السويس، والتي من المفترض أن تتواجد بقاياها في القاع لو كانت حادثة شق البحر قد حدثت بالفعل، ولأنهم لم يجدوها لاحت الفرصة للملاحدة لإنكار حادثة شق البحر وعبور بني إسرائيل وغرق فرعون، لكن الدراسات الأكثر حداثة أواخر القرن العشرين، وتحديدًا عام 1997، أوضحت آثار جيش فرعون وبقايا مركباته الحربية في خليج العقبة وليس خليج السويس، وكانت تلك البقايا قد نمت عليها تكوينات من الشعاب المرجانية صغيرة الحجم غير كثيفة، شكلها وتكوينها يختلف عن شكل الشعاب في باقي الخليج لأنها تكونت على بقايا الأخشاب المتبقية من تكسير العجلات الحربية، وبالتالي أخذت تلك الشعاب أشكالًا أشبه بتكوينات أجزاء العجلات، كما كانت الأشكال متكررة.





وهو ما يتفق والمنطق؛ إذ أنهم بعبورهم خليج العقبة وصولًا إلى شمال الحجاز يكونون فعليًا قد خرجوا من مصر، وسيناء كانت جزءًا لا يتجزأ من مصر في هذا العصر أيضًا.
كما أظهرت الدراسات الجيولوجية أن عمق الجزء من خليج العقبة المطل على نويبع يختلف عن عمق سائر الخليج بسبب تشكيل قشرة الأرض تحت ذلك الجزء ما يشبه الهضبة مسطحة السطح تحت الماء، وعمق الماء فيها حوالي 800 قدم فقط. كما أن عرض المسافة بين شاطييء الخليج من الجهتين أصغر ما يمكن، ولا يتجاوز ثمانية أميال.
وفي شمال الحجاز، على الشاطئ المقابل، أظهرت الدراسات الأثرية والجيولوجية مكان مشهد بجوار جبل اللوز، وآثار رسوم عجل الجاموس على الأحجار، ونصب الأحجار الذي يُعتقد أن بني إسرائيل قد ثبّتوا العجل الذهبي عليه، والحجر الكبير المشقوق إلى نصفين كبيرين ولا يزال منتصبًا، والذي يُعتقد أنه انفجر منه الماء لسقايتهم، وآثار جريان الماء واضحة في الصخر، والأعمدة الاثنا عشر لأسباط بني إسرائيل وكذا المذبح الذي بناه موسى عليه السلام بحجارة غير منحوتة.
قمة جبل اللوز الداكنة



 آثار رسوم لعجل جاموس بقرون طويلة على الأحجار

النصب الذي أقاموا عليه العجل ليعبدوه

الحجر الذي ضربه موسى عليه السلام فانشق ونبع منه الماء، وآثار جريان الماء عليه

﴿فَكَتَبَ مُوسَى جَمِيعَ أَقْوَالِ الرَّبِّ. وَبَكَّرَ فِي الصَّبَاحِ وَبَنَى مَذْبَحًا فِي أَسْفَلِ الْجَبَلِ، وَاثْنَيْ عَشَرَ عَمُودًا لأَسْبَاطِ إِسْرَائِيلَ الاثْنَيْ عَشَرَ﴾ [سفر الخروج 24: 4]

بقايا المذبح الذي بناه موسى بحجارة غير منحوتة

12 عمودًا لأسباط بني إسرائيل

والصور متاحة على هذا الرابط.

وقد صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن موسى عليه السلام قبره في شمال الحجاز بالقرب من فلسطين، وأن رسولنا قال أن موسى عليه السلام دعا ربه قائلًا: "رب أمتني من الأرض المقدسة رمية بحجر"، فأدناه الله منها، وأن سيدنا محمد أخبر أنه مر على موسى عليه السلام وهو يصلي في قبره، ليلة الإسراء، فيكون الأقرب أن قبره عليه السلام في شمال الحجاز قريبًا من فلسطين. والأحاديث كثيرة في هذا الباب، أخرج منها الإمام مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم.
كما أنه من المأثور أن موسى عليه السلام قد تُوفي بعد سيدنا هارون بسنة، وكان قد وُلِد بعده أيضًا بسنة، وكان ذلك في السنوات الأربعين التي قضى فيها بنو إسرائيل عقوبتهم بالتيه في وسط سيناء، ووسط سيناء يُعرف إلى يومنا هذا بالتيه.
وكانوا قد عوقبوا بالتيه ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا ۖ قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَىٰ بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ ۚ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُم مَّا سَأَلْتُمْ﴾ [البقرة: 61]. واختلفوا في المقصود بـ مصر في الآية. قال البعض هي مصر البلد المعروف التي خرجوا منها وذكروا عيشهم فيها، والذين قالوا، فيما روى الطبري: إن الله إنما عنى بقوله جل وعز: ﴿اهْبِطُوا مِصْرًا﴾ مصرَ؛ فإن من حجتهم التي احتجوا بها الآية التي قال فيها: ﴿فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ [الشعراء: 57-59] وقوله: ﴿كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ [الدخان: 25-28]، قالوا: فأخبر الله جل ثناؤه أنه قد ورثهم ذلك وجعلها لهم, فلم يكونوا يرثونها ثم لا ينتفعون بها. قالوا: ولا يكونون منتفعين بها إلا بمصير بعضهم إليها, وإلا فلا وجه للانتفاع بها، إن لم يصيروا، أو يصر بعضهم إليها. قالوا: وأخرى، أنها في قراءة أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود: ﴿اهْبِطُوا مِصْر﴾ بغير ألف. قالوا: ففي ذلك الدلالة البينة أنها "مصر" بعينها.
وقال آخرون المقصود أي مصر من الأمصار ففيها من أنواع الطعام ما طلبوا، والبعض قال: المقصود بالمصر فلسطين، وهو ما أوضحه الله تعالى في آيات أخرى ﴿يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ * قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 21-24]، فلمّا رفضوا دخولها كُتب عليهم التيه.
وسواء كان المقصود بمصر فلسطين أو مصر بعينها، فلا يقطع أي من الرأيين بمكان التيه. المحقق الآن أنهم عسكروا ما يُقارب العام بجوار جبل اللوز شمال الحجاز، ثم أنهم تاهوا، فهل دخلوا شبه جزيرة سيناء بالخطأ، وتاهوا أربعين سنة في وسطها كما هو مأثور، وكلما أرادوا الخروج منها ضلّوا، أو تاهوا في المنطقة شمال الحجاز في طريق فلسطين. لا يُعلم تحديدًا، والاكتشافات الأخيرة المتعلقة بجبل اللوز لا دخل لها منطقيًا بترجيح أي من الاحتمالين، لأنهم ببساطة تاهوا!، والتائه لا يُستنكر أن يكون في أي موضع قريب من المنطقتين؛ التي كان فيها وتلك التي تحرك إليها. واستمر التيه حتى مات الجيل الذي كُتبت عليه العقوبة، ونشأ جيل جديد.

ما المقصود بالطور؟
اختُلف في معنى الطور، ورد في كتب المفسرين أن الطور هو الجبل في كلام العرب, وروي أنه الجبل بالسريانية أو النبطية.‏ وقيل: هو مما عُرِّب من كلام العجم. وعلى هذه الأقوال فالطور اسم لكل جبل. وقد يكون اسم لكل جبل عظيم متجاوز الحد. وقيل: إنه اسم جبل بعينه. وذكر أنه الجبل الذي ناجى الله عليه موسى.
وقيل أن الطور في اللغة هو الجبل كثير النبت والشجر. وهو قول ابن عباس. قال: الطور ما أنبت من الجبال، وما لم ينبت فليس بطور.
ويرى كثير من المفسرين أن الطور في القرآن عَلَمٌ على طُورِ سيناء، أي أنه عندما يذكر في القرآن كلمة الطور فإنما المقصود طور سيناء،




وكان للاعتقاد لدى كثير من المفسرين بأن الجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام هو جبل كثير الشجر ما جعلهم يظنون أن هذا الجبل لا بد وأنه يقع في بلاد الشام، حيث الجبال المنبتة كثيرة الأشجار. وكان هذا هو الخطأ الثاني. حيث تشير الدلائل أن الجبل الأول كان بشبه جزيرة سيناء المصرية، وتحديدًا في الجزء الجنوبي منها؛ إذ أن اسم سيناء مشتق من اسم الإله "سين" إله القمر في بابل القديمة، والذي اشتهرت عبادته في سيناء، فهذا الاسم لسيناء (سينين) قديم غير مستحدث كما يظن من يشككون في أن حادثة التكليم الأولى كانت فيها، بينما الطور الذي شهد إعطاء الألواح يقع في شمال الحجاز، وكلاهما من الجبال النارية عديمة النبت.
فلو أخذنا بالتعاريف التي تُسمي الجبل العظيم طُورًا، لا يلزم أن يكون الطور الأيمن الذي أُعطي موسى عنده الألواح هو طور سيناء الذي أُوحي إليه عنده، وإن كان الطور هو الجبل كثير الشجر فكلا الجبلين –جبل موسى بسيناء وجبل اللوز بالحجاز- ناريين غير منبتين، لكنهما تزينا للمناسبتين الجليلتين، فكانا طورين في وقتهما.
أذكر أنني قرأت وأنا صغيرة أن عمرو بن العاص بعد فتح مصر نظر يومًا إلى جبل المقطم –الذي يقع شرقي القاهرة- وقال للمقوقس عظيم القبط: "ما بال جبلكم هذا أقرع لا نبت فيه وليس كجبال الشام"، فرد عليه المقوقس: "إن الله أوحى للجبال أني مُكلم أحد خلقي على جبل منكم، فليجُد –من الجود وهو السخاء- كل منكم بشيء من نبته وشجره إليه، فجادت جميع جبال الأرض بشيء من شجرها، وجاد المقطم بكل ما فيه من نبت وشجر، ومن يومها لم ينبت عليه شيء، ولكن الله جعله غراسًا لأهل الجنة جزاءً له". وأراد المقوقس أن يشتري سفح جبل المقطم من عمرو بن العاص، فأرسل عمرو بن العاص إلى الخليفة عمر بن الخطاب يخبره بما ذكره له المقوقس وبعرضه شراء سفح جبل المقطم، فرد الخليفة عمر: "غراس أهل الجنة لا يكون سوى للمسلمين، لا تبعه واجعله مقابرًا للمسلمين"، ويُذكر أن جميع الصحابة الذين دخلوا مصر ومنهم عمرو بن العاص مدفونون في سفح جبل المقطم.
وما أستخلصه من هذه القصة –إن صدقت- أن الجبل الذي كلّم الله عليه موسى وإن كان طورًا –أي مزدانًا بالكثير من النبت والشجر- وقت التكليم، إلا أنه لا يجب أن تعم عليه هذه الصفة، ويُتصور أن هذا وصفه على الدوام. كما لا يلزم أن يكون  الجبل نفسه في الحالتين.


الرواية التوراتية والرواية القرآنية
وفقًا للرواية القرآنية فإنه يوجد مشهدان لموقفين، وبفاصل زمني بينهما يصل إلى أعوام. وأنه في كلا الموقفين كان يظهر اسم جبل الطور، إذ أن تكليم الله لسيدنا موسى قد تم مرتين وفقًا للقرآن الكريم.


وهناك اختلاف–على غير المشهور- بين الآباء الكنسيين في تحديد هل سيناء وحوريب جبل واحد، كذلك اختلاف حول مكان كل منهما. لكن المشهور عندهم أنهما جبل واحد يعرفونه باسم جبل سيناء Mount Sinai. ذلك أنه هناك آيات في المقابل تذكر أن إعطاء الألواح كان فوق جبل سيناء. وأرى أن أغلب الآيات، وفي أسفار مختلفة كما نقلنا، تحدد أن إعطاء الشريعة وعبادة العجل كانت في حوريب، وربما كان الأمر خلطًا من الرواة لظنهم أن الجبلين واحد، وأن جبل حوريب اسم لجبل سيناء، فوقع الخلط في آيات أخرى. من أمثلتها:
﴿فَنَحَتَ لَوْحَيْنِ مِنْ حَجَرٍ كَالأَوَّلَيْنِ. وَبَكَّرَ مُوسَى فِي الصَّبَاحِ وَصَعِدَ إِلَى جَبَلِ سِينَاءَ كَمَا أَمَرَهُ الرَّبُّ، وَأَخَذَ فِي يَدِهِ لَوْحَيِ الْحَجَرِ [سفر الخروج 34: 4]



طور سيناء والطور الأيمن!

يبدو أن القصة التوراتية، وتوحيد أهل الكتاب بين الجبلين وجعلهما جبلًا واحدًا، بنسبتهم الجبل الذي تمت عليه حادثة التكليم الأولى إلى مشهد التكليم الثاني، قد أثّرت على تأويلنا وتدبرنا لآيات القرآن الكريم لنفهم القصة على وجهها دون خلط. ولنتدبر الآيات القرآنية التي ذُكِر فيها الطور لمزيد من الفهم.

يقول تعالى: ‏﴿‏ فَلَمَّا قَضَىٰ مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا﴾ [القصص: 29]
وفي سورة القصص أيضًا، وفي آيتين متتابعتين يلفتنا الله سبحانه وتعالى إلى أنهما جبلان مختلفان حدث عليهما حدثان خطيران في تاريخ البشرية ﴿وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَىٰ مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [القصص: 44] وبعدها بآيتين يقول تعالى:﴿وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا﴾ [القصص: 46].
ويقول تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾ [مريم: 52]
ويوضح تعالى أن الطور الأيمن هو الجبل الذي تجمعوا عنده بعد نجاتهم من فرعون ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَىٰ﴾ [طه: 80]






وربما كان في انتقاله عليه السلام من مدين في الشرق إلى الجبل الذي أُعطي عنده الألواح، والذي يقع في الغرب من مدين وخليج العقبة، تفسير لوصف القرآن لذلك الجبل بـ ﴿الْغَرْبِيِّ﴾. ولو وضعنا الخريطة أمامنا، فالجبل الذي في شمال الحجاز هو الأيمن، وسُمي الأيمن من التيمن، ولم يُسم الشرقي. والآخر الذي في سيناء هو الغربي، ولم يرد الله أن يسميه الأيسر، فالعرب لا تتفاءل سوى باليمين، والقرآن نزل بلسان العرب.
العجيب أيضًا أن يُشار إلى كثير مما يخص مصر بالغرب، ففي التوراة يُسمى النيل بالبحر الغربي، وفي الحديث الشريف جند مصر هو الجند الغربي المقصود بالحديث في صحيح مسلم.

ولم يغب عن مفسرينا الإشارة القرآنية مرة بالأيمن ومرة بالغربي، وإن كانوا لم يتوقفوا عندها كثيرًا، ومروا عليها عابرين، وفسروها أنها اختلاف الجبل نفسه بالنسبة لجهة قدوم موسى عليه السلام عليه، مع أن اللفظ القرآني واضح ﴿مِن جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ﴾ فإما أن الطور موصوف بأنه الأيمن أو أن الجبل له يمين، ولأن الجبل لا يمين له ولا شمال، فقالوا: اليمين، يمين موسى. والأصح أن الأيمن هنا صفة للطور الذي تجمعوا عنده بعد الخروج من مصر.
وكذا قال تعالى: ﴿بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ﴾ وليس بالجانب الغربي، فالأدق أن ﴿الْغَرْبِيِّ﴾ في الآية صفة للجبل، أي بجانب الجبل الغربي، وليس بجانب غربيّ الجبل كما فُسرت الآية. والوحيد الذي التفت إلى غرابة التركيب اللغوي للآية على تفسيرهم كان الفخر الرازي في "مفاتيح الغيب"؛ إذ أنه على قولهم فالجانب موصوف، والغربي صفة، فكيف أضاف الموصوف إلى الصفة، وإضافة الموصوف إلى الصفة تقتضي إضافة الشيء إلى نفسه؟!، ولكنه قال أن ذلك جائز بشروط. وذكر أن التأويل فيه: جانب المكان الغربي، ثم المضاف إليه ليس هو النعت، بل المنعوت، إلا أنه حذف المنعوت وأقيم النعت مقامه. ووفقًا لكلام الرازي فالجبل ذاته هو الموصوف بالغربي، والغربي صفة للجبل، ولكن الجبل هنا وهو الموصوف محذوف.
ربما لا نفهم يقينًا سبب الوصف بأن ذلك الجبل هو الأيمن، والآخر هو الغربي، ولكن من الواضح أنهما جبلان، كل منهما وُصف بناءً على موضعه وصفًا يخالف الآخر، ولا يتفق تأويلٌ غيره مع سياق القصة القرآنية، والمكتشفات الأثرية بأن عبور بني إسرائيل كان إلى شمال الحجاز.

‏﴿‏وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ‏﴾‏
في الآيات التي تحدثت عن غضب الله عز وجل على بني إسرائيل بعد أن منّ عليهم بشق البحر والخروج من مصر، بعد أن عاد إليهم سيدنا موسى بعد مواعدة الله ليجدهم قد عبدوا العجل، جاء ذكر الطور مرة أخرى لأن الله تعالى أخبر أنه رفعه فوق رؤوسهم تخويفًا لهم ليأخذوا الميثاق بقوة.
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة: 63]
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا ۖ قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ ۚ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُم بِهِ إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: 93]
﴿وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 154]
﴿وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ﴾ [الأعراف: 171]
والأرجح فيما رواه المفسرون، وبما يوافق باقي الآيات القرآنية التي قصّت القصة، أنهم لم يأخذوا الألواح لمّا رجع إليهم موسى عليه السلام بعد مواعدة الله تعالى، وطلبوا أن يروا الله جهرةً ليكلفهم بما فيها، فصُعقوا ثم بُعثوا، وأمر الله الملائكة بأن تنتق الطور فوق رؤوسهم تخويفًا لهم، فأخذوا الألواح بالميثاق لمّا خافوا أن يُطبق عليهم.
ولكن هل الجبل الذي رفعته الملائكة هو الطور الأيمن "جبل حوريب" "جبل اللوز"، والذي كان بجانبهم، وعنده حدثت المواعدة بعد الخروج من مصر، أو طور سيناء "الجبل الغربي"، وكان بعيدًا عنهم أو أي طور؟
قال الفخر الرازي في "مفاتيح الغيب" "أما الخليل –يقصد الفراهيدي- فقال في كتابه –يعني العين-: إن الطور اسم جبل معلوم. وهذا هو أقرب لأن لام التعريف فيه تقتضي حمله على جبل معهود عُرف كونه مسمى بهذا الاسم، والمعهود هو الجبل الذي وقعت المناجاة عليه. وقد يجوز أن ينقله الله تعالى إلى حيث هم فيجعله فوقهم، وإن كان بعيدًا منهم؛ لأن القادر أن يسكن الجبل في الهواء قادر أيضًا على أن يقلعه وينقله إليهم من المكان البعيد، وقال ابن عباس: أمر تعالى جبلًا من جبال فلسطين فانقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظلة، وكان المعسكر فرسخًا في فرسخ، فأوحى الله إليهم أن اقبلوا التوراة وإلا رميت الجبل عليكم، فلمّا رأوا أن لا مهرب قبلوا التوراة بما فيها، وسجدوا للفزع سجودًا يلاحظون الجبل، فلذلك سجدت اليهود على أنصاف وجوههم"أهـ.
وكما نرى فحتى مفسرينا، الذين لم يظنوا أن الجبل في كلا حادثتيّ التكليم مختلف، لم يروا بأسًا أن يكون الطور الذي حملته الملائكة فوق رؤوسهم قُلِع من مكان بعيد عنهم، ونلاحظ أن التصور بأن الطور لا بد أن يكون جبل كثير النبت قد حمل ابن عباس على الظن بأن هذا الجبل كان من جبال فلسطين.

معنى القسم في قوله تعالى: ﴿وَاْلطُّورِ﴾
يقول تعالى: ﴿وَالطُّورِ* وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ* فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ* وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ* وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ* وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ* إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾ [الطور: 1-7]
والقسم في بدء سورة الطور بقوله تعالى: ﴿وَاْلطُّورِ﴾ قد يُحمل على عدة أوجه، أولها: أنه تعالى يقسم بطور سيناء وهو الجبل الذي اختاره الله سبحانه وتعالى ليشهد إعطاء الوحي إلى موسى عليه السلام دون واسطة كما ظن مفسرونا، وثانيها، أنه تعالى يقسم بالطور أي الجبل الصلد الضخم أو كثير النبت والشجر كأحد مخلوقاته العظيمة الدالة على قدرته، مثلما أقسم بالكثير من خلقه كالشمس والقمر والبحر والعاديات وغيرها. وثالثها أنه تعالى يُقسم بالطور الأيمن الذي أُعطي سيدنا موسى عنده الألواح.

ولأنني أرى أنه لا مبرر لأن يُقسم الله تعالى بأحد مخلوقاته مرتين في كتابه، إذن فهو ليس طور سيناء الذي أقسم به تعالى في سورة التين، وكنت أرى بالرأي الثاني، أي أنه قسم بالجبل الصلد الكبير الذي يُعتبر أكبر مخلوقاته على ظهر الأرض، إلا أن خاطرًا جاءني وجعلني أتوقف أثناء قراءتي سورة الطور، فانتبهت إلى كل ما أقسم به الله تعالى به بعد الطور، خاصة ﴿وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ﴾، وقد ظن مفسرونا أنه القرآن، ولكن ربما كان الأقرب أنه التوراة التي أنزلها الله على هذا الجبل، ثم نظرت إلى جواب القسم ﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ﴾، واسترجعت الصورة القرآنية لتخويف بني إسرائيل بإيقاع الطور فوق رؤوسهم بعد أن رفعته الملائكة تخويفًا لهم ليأخذوا التوراة بالميثاق، فجاء في خاطري أنه ربما كان الأدق أن الذي أقسم الله تعالى به في سورة الطور، والذي رُفع فوق رؤوسهم كان الطور الأيمن الذي أُخذوا العهد على التوراة عنده، وأُمروا أن يأخذوها بحقها. والله تعالى أعلى وأعلم.

ما علاقة الجبلين بجزيرتيّ تيران وصنافير؟
خريطة إسرائيل الكبرى
لقد ترتب على الاكتشافات الأثرية الخاصة بجبل اللوز، ونظرًا لظن أهل الكتاب أن هناك جبل واحد مقدس أن لم تعد سيناء في نظر إسرائيل تلك الأرض ذات الأهمية القصوى والأولوية بالنسبة لها، وصارت هناك أرض أخرى أولى بالاهتمام، دينيًا ثم اقتصاديًا.
أوضحنا في بداية المقال أنه رغم مرور أكثر من عقدين من الزمان على هذه الاكتشافات، ورغم اختراق المنطقة التي تحيطها السلطات السعودية بالسياج، وتصوير العديد من الأفلام الوثائقية والصور عنها، فلم تظهر لإسرائيل أي ردة فعل حولها، وكأن الأمر لم يبلغهم!، بينما ظهر مشروع تبادل الأراضي، والمزمع تنفيذه، والذي سيعطي الفلسطينيين الساحل الشرقي من شبه جزيرة سيناء من رفح إلى العريش، والأهم والذي يعد حدث الساعة الآن أن النظام المصري قد عرض -من تلقاء نفسه- على النظام السعودي أن يضم جزيرتيّ تيران وصنافير، وتجاهل أحكام القضاء، وفعل الأفاعيل لتمرير اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين.
والعواقب على هذا الضم أبعد أثرًا من تدويل مضيق تيران، وبناء قناة جديدة موازية لقناة السويس في إسرائيل، أو خط سكك حديدية يصل إلى أشدود على البحر المتوسط، فشمال الحجاز الآن، والذي يقابل الجزيرتين، أصبح في مرمى الضم للدولة العبرية، وهو بالفعل جزء من خريطة إسرائيل الكبرى، لأن به أهم آثارهم وأماكنهم المقدسة، ومن الواضح أن السعودية ماضية نحو التطبيع مع إسرائيل إرضاءً لأمريكا، وكل شيء أصبح محتملًا من الأنظمة التي تحكمنا، ولو حدث ما هو متوقع أن تضم إسرائيل شمال الحجاز، فضم الأراضي القارية يستتبع ضم الجزر التابعة لها، والجزيرتان عندها ستصبحان إسرائيليتين.

هذا ما يخططون له، لكن هل سيقضي الله له أن يكون؟! قطعًا لا أحد يعلم. ولا عزاء للخونة.