الأحد، 11 يونيو 2017

84-مرجئة آخر الزمان

مُرجئة آخر الزمان
د/منى زيتون
‏يقول الله تعالى: ﴿فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ [الكهف:110].
هذا وتعتبر مسألة موضع العمل من الإيمان من أهم مباحث الخلاف العقائدي ‏بين طوائف الأمة، وجميع الفرق في تاريخ الإسلام التي قالت بأن العمل من أصل الإيمان وحقيقته ‏وليس فرعًا وكمالًا له وقعت في تكفير المسلمين أو تفسيقهم.
في مقال "كيف يزيد الإيمان وينقص؟" ناقشنا رأي أهل السُنة الأشاعرة في أمر المؤمن العاصي في الدنيا والآخرة، وهل العمل ركن من الإيمان أم لا.
كذلك في مقال "هل يجوز تكفير الخوارج؟! (1)" ذكرنا أنه كانت أهم عقائد الخوارج أن الإيمان لا ينفصل عن العمل، فهو ما وقر في القلب وصدّقته ‏الجوارح والعمل، وقد قادتهم تلك المقدمة إلى نتيجة خطيرة جعلتهم أول فرقة متطرفة في تاريخ ‏الإسلام، وهي أن الفاسق غير مؤمن، فمرتكب الكبيرة هو كافر بزعمهم، فكفّروا المسلمين ‏ووقعوا في دمائهم.

ظهور المُرجئة كرد فعل للخوارج، وظهور القدرية والمعتزلة في مقابل المُرجئة
يذكر علي سامي النشار في "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" (ج1، ص233) "وجد ‏الإمام الحسن بن محمد بن الحنفية، أن الذين قاتلوا جده –يعني الخوارج الذين قاتلوا سيدنا عليّ- مستندين إلى أصل ظاهره الصدق ‏وباطنه الإفك، هو (الحكم لله لا لعليّ)، ينشرون أصلًا آخر خطير لقتل المسلمين، وهو أن لا ‏عقد بدون عمل، فنفر لمجادلتهم، وأعلن أنه لا يضر مع الإيمان معصية، وكان يكتب الكتب ‏إلى الأمصار ويعلنها للناس، بأن الطاعات وترك المعاصي ليست من أصل الإيمان حتى ‏يزول الإيمان بزوالها"أهـ. وقطعًا لم يُرد الإمام الحسن بن الحنفية بقوله الإرجاء التام، وإنما إرجاء السُنة الذي سنتكلم عنه بعد قليل، قاصدًا اللفت إلى حقيقة الإيمان، وهي التصديق.
وجاء القدرية في مقابل المُرجئة. كان أول القدرية، على ما روى لنا المؤرخون، معبد الجهني. كان معبد الجهني؛ قدريًا، يؤكد على الحرية الإنسانية، ويرفض جبرية الأمويين.
يذكر النشار في مقدمة تحقيقه لـ "الشامل في أصول الدين" للجويني (ص34-35) "كانت مسألة القدر قد ظهرت على يد معبد بن خالد الجهني. كان يعيش في عصر متقدم تمامًا بالبصرة، وكان يلحظ بعينه تطور المجتمع الإسلامي، وفي البصرة ملتقى الناس جميعًا بدأت المعاصي تُرتكب علانية وخفية، ورأى ثمة انهيارًا في إقامة التكاليف، والناس يتعلّلون في المعصية بالقدر، فقام يناهض هذا فأعلن: "لا قدر والأمر أنف". إنه كان يريد أن ينكر أن القدر سالب الاختيار وأن يدافع عن شرعية التكاليف وأن يقيمها ثانية. وسرعان ما انتشر مذهبه أشد انتشار. وقد ورد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه تبرأ من معبد الجهني في نفيه القدر، كما أن عمر بن عبد العزيز له رسالة في الرد على القدرية، ثم زيد بن علي زين العابدين وله كتاب في الرد على القدرية، ثم الشعبي، ثم الزهري، وكذا الإمام جعفر بن محمد الصادق له كتاب في الرد على القدرية، ثم الإمام الشافعي وتلاميذه من بعده الذين جمعوا بين علم الفقه والكلام، بالذات أبا العباس بن سريح، ثم ظهر الإمام أبو الحسن الأشعري الذي صار شجًا في حلوق القدرية"أهـ.
كما وقد قيل في نشأة المعتزلة أقوال، أشهرها، أنها ظهرت لمّا اعتزل واصل بن عطاء مجلس الحسن البصري بسبب قوله بأن ‏مرتكب الكبيرة هو في منزلة بين منزلتيّ المؤمن والكافر. ذكر الشهرستاني في "الملل والنِحل" ‏‏(ج1، ص42) "القول بالمنزلة بين المنزلتين، السبب فيه أنه دخل واحد على الحسن البصري ‏فقال: يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يُكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر ‏يُخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يُرجون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا ‏تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركنًا من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، ‏كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مُرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادًا؟، فتفكّر الحسن ‏في ذلك، وقبل أن يُجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق، ولا ‏كافر مطلق، بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى إسطوانة من ‏إسطوانات المسجد، يُقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنا ‏واصل، فسُمي هو وأصحابه معتزلة"أهـ.

فمن هم مُرجئة الأمة هؤلاء الذين كانوا على الطرف النقيض تمامًا من الخوارج؟
جاء في مختار الصحاح، في مادة (ر ج أ)، (أَرْجَأَهُ) أَخَّره. وقوله تعالى: ﴿وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ[التوبة: 106]. أي مُؤَخَّرُونَ حَتَّى يُنْزِل فيهم ما يُريد. ومنه (المُرْجِئة) كالمُرْجِعة. ويُقال أيضًا (المُرْجِيَّة) بالتشديد لأن بعض العرب يقول: (أرْجَيْت) وأَخْطَيْت وتَوَضَّيْت، فلا يَهمِز.
والمُرجئة هم طائفة من المسلمين، حكموا بنجاة كل ‏من نطق بالشهادتين؛ فكل مؤمن بالله عندهم سيدخل الجنة؛ فمن شهد شهادة الحق، دخل الجنة وإن عمل أي عمل. وكما لا ينفع مع الشرك حسنة كذلك لا يضر مع التوحيد معصية.
يمكننا أن نقول في حقهم أنهم تجاهلوا خطر المشيئة في الآية الكريمة ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ﴾ [النساء:48]. نظر المرجئة فقط إلى نصف الكوب الملآن، ولم يدركوا مقدار الخطر الذي يضعون فيه أنفسهم يوم الحساب بعدما ملأوا أوراق إجاباتهم بكل ما يكفي لإيجاب سقوطهم في جهنم، اعتمادًا على أن مفتاح الجنة كلمة.

مواقف خلافية واضحة بين المرجئة وطوائف الأمة
منذ ظهور المرجئة عارضهم أكابر العلماء، ووقفت باقي الطوائف التي ظهرت تباعًا منها مواقفًا خلافية، لكن لم يكن هذا كافيًا للقضاء على فكرهم.
فكان أن ظهر أصل (العدل)، وهو أصل هام من أصول الدين عند المعتزلة –وكانوا فرقة ناشئة في العصر الأموي- ردًا على جبرية الأمويين؛ يقولون بالعدل ‏وينفون الجبر. فالعدل الإلهي عندهم يرتبط بحرية الإنسان ومسؤوليته في خلق أفعاله، لأن من ‏العدل أن يكون الإنسان حرًا ليحاسبه الله، لكن لاعتقادهم بأن ‏الإنسان مُخيَّر في أفعاله وقعوا في نفي ‏أن يكون الله خالقًا لأفعال عباده لأن فيها الشر، ‏والله لا يفعل الشر ولا يأذن به بزعمهم. ‏ولنا عودة مع "خلق أفعال العباد" في مقال قادم.
والمنظور السلفي للعمل لا يختلف عن المنظور المعتزلي ومنظور الخوارج في رؤيتهم له كجزء من حقيقة الإيمان، وليس فرع وكمال للإيمان، وإن كانوا يخالفون المعتزلة تمامًا في نظرتهم إلى خلق أفعال العباد. يركز السلفية تمامًا على العمل، فيرون أنهم طالما يُطيعون؛ فيصلون ويصومون ويحجون، فهم أهل لنيل رحمته سبحانه. ومن هنا، ولتركيز المنظور السلفي على العمل، فقد يصل الأمر إلى تكفير من لا يقوم به، والإنكار على من يقول أن المؤمن تارك العمل إن شاء الله أدخله في رحمته، لأن نظرتهم إلى المسلم الذي لا يلتزم بأداء العبادات أشبه بالنظرة إلى الربوبي؛ وربما كان هذا نابعًا من تصنيفهم للتوحيد إلى توحيد ربوبية وتوحيد ألوهية.
بينما المنظور الأشعري حول العمل قائم على أننا نؤمن به سبحانه، ونطيع ما استطعنا، ونقر بذنوبنا، ونستغفر منها، وهو أرحم الراحمين، فنطمع في رحمته، أي أنهم يعتقدون أن تارك العمل مرتكب الكبائر مؤمن ‏في الدنيا، ليس كافرًا كما قالت الخوارج، ولا فاسقًا كما زعمت المعتزلة، وهو مستحق للعقاب في ‏الآخرة، لكن لا نحكم بتخليده في النار كما حكمت المعتزلة، بل أمره إلى الله في الآخرة؛ فنحن جميعًا، معشر المؤمنين، في خطر المشيئة؛ لا نعلم بأي حسنة يُغفر لنا، أو بأي سيئة قد نُعذّب. ولو اطّلعت المرأة التي دخلت النار في هرة حبستها على صحيفة أعمالها لتتنبأ منها عن سبب دخولها النار فربما لم تكن تتصور أنها عُذِّبت لهذا السبب، وكذا تلك العابدة التي كانت تؤذي جيرانها، والعكس صحيح، فهل كانت تتخيل البغي التي غُفر لها أن سقايتها لكلب هي سبب نجاتها؟!
فإرجاء الأشاعرة هو إرجاء سُنة. ويختلف عن اعتقاد المُرجئة الذين تجاهلوا المشيئة الإلهية، وتصرفوا كما لو أنهم قد ضمنوا الجنة بإقرارهم بالتوحيد.
والإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان من أشهر من عُرِف عنه إرجاء السُنة هذا، والذي يعني أن العباد، مؤمنهم وعاصيهم، أمرهم إلى بارئهم، لا نحكم فيهم ولا نقطع. وهناك قصة شهيرة تحكي سبب إرجاء أبي حنيفة لأمر تارك العبادات من المسلمين، وهي ‏مأثورة عن أبي حنيفة مع جارٍ له فاسق، والذي يُروى أن أبا حنيفة رفض أن يُصلي عليه عندما ‏مات، ثم جاء الجار في المنام لبعض أهل الصلاح ليُخبرهم أن الله قد غفر له، ولمّا سأل الإمام ‏زوجة الرجل عن حاله، أخبرته أنه كان يُطعم الأيتام ويطلب منهم أن يدعوا له؛ فعلم الإمام أن كل ‏مُوحد أمره مرجأ إلى الله، والله أعلم بما خفي من عمله.‏

الإرجاء التام قرين انتشار الفساد وتجبر الحكام
تعتبر المُرجئة من الطوائف المتقدمة تمامًا في التاريخ الإسلامي. بالرغم من وجود إشارات لظهور المرجئة في عصر سيدنا عليّ بن أبي طالب، وأن قول معبد الجهني بالقدر جاء ردًا عليهم، فالمؤرخون على أن الإرجاء قد ظهر مع انتهاء الخلافة الراشدة، ومُلك بني أمية، وهذا أكثر من منطقي في زمن كان يرى الناس في الخليفة الإمام الذي إن شُك في إيمانه ضاعت هيبته وسقطت بيعته، ومع كل المظالم التي لاقاها المسلمون من الملوك الخلفاء بدءًا من عصر بني أمية كان الإرجاء التام، والقطع بنجاة كل من شهد الشهادتين تبريرًا لازمًا لأفعال الحكام.
أسهم حكام بني أمية في نشر الإرجاء بين المسلمين؛ كونه يرتبط بالقول بالجبر وليس الاختيار. كان الأمويون قد شجّعوا القول بالجبر، لتبرير سياساتهم الظالمة تجاه الرعيَّة بنسبتها إلى ‏الله تعالى؛ فالأفعال الظالمة إنما وقعت لأن هذه مشيئة الله!، وكل مؤمن يرتكب جُرمًا يرتكبه لأن هذه مشيئته سبحانه، وهذا لا يطعن في إيمانه مهما بلغ مبلغه من التغول في الأموال وسفك الدماء. وهل لك يا عبد أن تعترض على مشيئة الله؟!
كان الإرجاء، قرين انتشار الفساد والظلم، وأداة في يد الحُكّام الظلمة، وأذنابهم، لتطويع الرعية، وضمان تقبلهم لحكام فجرة، وعدم الخروج عليهم. فرح به البسطاء وتلقفوه وتقبلوه لأنهم وجدوا فيه عزاءً لبؤس حالهم في الدنيا بأنهم حتمًا سيدخلون الجنة، وسيعوضهم الله عمّا لاقوه في دنياهم.
لكن، لم يعد الحكام فقط في عصرنا من يُفيدون من انتشار فكر المُرجئة. صار رجال الأعمال الفاسدون مُرجؤون، وصار التجار الصغار الذين يغشون الناس مُرجؤون، بل وصار كل من يستطيع أن ينتهب نهبة من أخيه دون حق مُرجئًا، ونسمع عن جرائم التعذيب والذبح تقع من مجرمين يُفترض أنهم مؤمنون بيوم تُجزى فيه كل نفسٍ بما كسبت، ولا نعدم أن نسمع مقولة "الله غفور رحيم!" تتكرر من كل مجرم يُذنب في حق غيره.
صارت الدنيا أشبه بالغابة، وصار الناس دون أخلاق وقيم منذ أن منّوا أنفسهم بالنجاة الأخروية مع طالح العمل في معاملاتهم، وليس فقط مع نقص العبادة، طمعًا في رحمة الله، ناسين أو متناسين أن الله لا يتساهل في حقوق العباد بعضهم تجاه بعض، وأنه المنتقم والحكم والعدل مثلما هو الرحمن الرحيم. وقد قلت في مقال سابق أن من أراد أن يعرف الله فعليه بأسمائه الحسنى، أما الإصرار على المنظور المجتزأ له تعالى فهو شكل من أشكال الإلحاد في أسمائه، وتشويه للصورة المعنوية التي يجب أن تتكون له تعالى في ذهن المسلم.
ويبدو حقًا أن القيامة ليست منّا ببعيد.