الأحد، 11 يونيو 2017

87-الممالك تُحرس بالسيف وتُدبّر بالقلم

الممالك تُحرس بالسيف وتُدبّر بالقلم
د/منى زيتون

السبت 22 يوليو 2017


يقول الإمام سفيان الثوري: من دخل قرية فشا فيها الزنا فوعظ الناس عن حرمة الربا فقد خان الله ورسوله. وبما أن الخطب جلل، والكلمة أمانة، فأنا مجبرة على الكتابة في الشأن السياسي هذه الأيام، رغم كراهيتي لذلك.
من المأثور أن الممالك تُحرس بالسيف وتُدبّر بالقلم. والسيف تعبير عن سلطان القوة، والقلم تعبير عن سلطان العلم. والحاكم العاقل يعرف كيف يفيد من كليهما ليُدّعم ملكه، لأنه دون تدبير القلم يطيش السيف، ولا مفر من زوال المُلك. أزال الله حكم كل ظالم. آآآآمين.

احكم بين الناس بالحق
يقول تعالى مخاطبًا رسوله الذي آتاه الملك؛ داود: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ[ص:26]
وهل للحاكم وظيفة إلا أن يحكم بين الناس؟! ولكن أنّى له ذلك؟
أي متسابق في سباقات للسيارات يعلم أنه يلزمه شرطان للفوز؛ سيارة فائقة الجودة ومهارات قيادة عالية. وعلى المستوى الشخصي يمكن القول أن الإنسان كي ينجح في أداء عمل تلزمه المعلومات الكافية حول هذا العمل، كما تلزمه قدرات عقلية عالية يمكنه من خلالها توظيف المعلومات، فكلاهما لازم لنجاحه.
ونظرًا لأن اختيار ملوك ورؤساء الدول في العالم شرقًا وغربًا لا دخل له بمقدار معارفهم وقدراتهم العقلية، وقد سبق وناقشنا كيفية اختيارهم للحكم في مقال "مطلوب حمار"، فإن كل الحكام حول العالم، ومن قديم، يحيطون أنفسهم بمستشارين في مجالات عدة ليعينوهم على تدبير أمور الحكم. ولطالما كانت أهم نصيحة تُقدم للملوك من المخلصين؛ الاهتمام بالبطانة الصالحة، وألّا يحيطوا أنفسهم بمستشاري السوء الذين لا يخلو منهم زمان أو مكان، ولم يتورعوا حتى عن خيانة الأنبياء وغشهم في النصح لولا عصمة الله لهم.
أورد الإمام البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، 7198- عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلّا كانت له بطانتان: بطانة تأمره بالمعروف وتحضّه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضّه عليه، فالمعصوم من عصم الله تعالى".
والتاريخ يقول إنه مهما كان قدر صلاح الحاكم فمستشار سوء واحد كفيل بتضليله وإفساد حكمه. ولعل أشهر مستشار سوء في تاريخنا الإسلامي، وسبب الفتنة الكبرى التي بدأت وما انتهت؛ ابن الطريد، مروان بن الحكم، خيّبه الله، ولا نجّاه. فإن كانت بطانة فاسدة قد أفسدت خلافة راشدة، وأنهتها بفتنة، فماذا عساها تفعل مع من تسلّطوا على قلة صلاح، وقلة علم، وضعف عقل؟ لكن قلّ من يتعظ من كلا الطرفين الحُكّام والمستشارين!

وعيد الله تعالى لأعوان أهل الجور
  ذكر الإمام الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين، كتاب الأحكام، ‏جملة أحاديث صحيحة الإسناد، لم يخرجها الشيخان، عن أعوان الظلمة الذين يطاوعونهم في إظهار باطلهم وظلم العباد، طمعًا في رضاهم. منها:
حديث 7007/5 عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلّى الله ‏عليه وسلّم: "أهل الجور وأعوانهم في النار".
حديث 7052/50- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "من أعان باطلًا ليدحض ‏بباطله حقًا فقد برئت منه ذمة الله وذمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم".
حديث 7071/69- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال رسول الله صلّى الله ‏عليه وسلّم: "من أرضى سلطانًا بسخط ربه عز وجل خرج من دين الله تبارك وتعالى".
سلطة القوة وسلطة العلم
إن هلاك الحكام معظمه يأتي من عُجبهم بسلطان قوتهم، واستهانتهم بسلطة العلم المتمثلة في أهل الرأي ممن يعرف الحكام أن رأيهم يعاكس ما يرمون إليه من فرض هيمنتهم.
وإن أردنا تحديد قيمة كل من سلطتيّ القوة والعلم بإزاء الأخرى فلنراجع آيات القرآن الكريم.
يقول تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَٰؤُلَاءِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة: 31]
فقصة استخلاف الإنسان على الأرض بدأت بإعطائه الحرية أن يؤمن أو يكفر، وتمييزه بالقدرة على التعلم؛ فما ميّز به تعالى آدم لم تكن القوة بل كان العلم.
ويقسم تعالى في كتابه بالقلم، وبما يسطر به الإنسان دليلًا على علمه. يقول: ﴿ ن ۚ وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ[ن: 1]
ويقول تعالى أيضًا: ﴿الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ[العلق: 4-5]
إذًا فالله تعالى قد أقسم بالقلم، وأخبرنا أنه هو من علّم الإنسان، وأنه علّمه بالقلم، بينما لا نجد قسمًا مقابلًا بالسيف أو أي رمز آخر من الرموز التي قد يبطش بها الإنسان.
والله سبحانه أيضًا نسب إلى نفسه قلمًا –كما ورد في الأثر-؛ هو قلم القدرة، ولم ينسب إلى نفسه سيفًا.
والقرآن ذاته هو أكبر دليل على أن سلطة العلم هي أكبر السلطات. أكبر من سلطة القوة، وأكبر من سلطة المال. القرآن كتاب، وهو معجزة الله الخالدة، وإن كان من الواضح أن متجبريّ العرب عند نزوله لم تعجبهم آية العلم تلك، وأرادوا آية حسية تظهر جانبًا من جوانب القوة.

هل هناك عداء بين السيف والقلم عند العرب؟
يقول أبو الطيب المتنبي متفاخرًا بنفسه:
الخيل والليل والبيداء تعرفني *** والسيف والرمح والقرطاس والقلم
فهو –وإن كان شاعرًا- لم يقنع بأن يعرفه الليل والقرطاس والقلم، بل أصر أنه صاحب الخيل أيضًا والسيف والرمح!
لكن فخر المتنبي لم يظهر منه عداء بين السيف والقلم، بينما يظهر العداء أو لنقل الصدام بين السيف والقلم أحيانًا في الشعر العربي. أشهر بيت عبّر عن هذا هو بيت أبي تمام:
السيف أصدق أنباءً من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب
وهو بيت وإن كان يتحدث عن واقعة فتح عمورية على يد المعتصم، والقصد بالعلم فيه أكاذيب المنجمين الذين أرادوا ردّه عن القتال، إلا أن ظاهره فخار بسلطة القوة، فهي السلطة الحقيقية التي يراها أبو تمام، وربما كان في البيت تعريض بمن يذمون الخليفة، ومعروف عن المعتصم أنه كان شبه أمي.
لكن العداء الحقيقي بين السيف والقلم ليس عداء الشعراء، بل يظهر عندما يعتنقه ويعتقده الملوك؛ فالملوك –العظماء منهم قبل الفاشلين- يخافون من تدبير ‏القلم، ويحاربون حرية الرأي والتعبير، وتزلزلهم كلمة تعارضهم.‏ وبينما نجد الله تعالى يركز على حرية الاعتقاد، نجد كل متجبر منذ خلق الله الخلق يُخرس أي صوت يعارضه!، حتى صار أقصى مُنى بعض كبار علمائنا أن يجود علينا الزمان بمستبدٍ عادل!
ولعل من أشهر ما يُروى عن تخوف السلاطين من سُلطة العلماء ما روى الإمام السبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص215) في ترجمة سلطان العلماء الإمام ‏العز بن عبد السلام "ولما مرّت جنازة الشيخ عز الدين تحت القلعة، وشاهد الملك الظاهر بيبرس ‏كثرة الخلق الذين معها، قال لبعض خواصه: اليوم استقر أمري في الملك، لأن هذا الشيخ لو كان ‏يقول للناس اخرجوا عليه لانتزع الملك مني".‏ ولم تمر سنوات حتى وسّع بيبرس مناصب القضاء في قضاة المذاهب السنية الأربعة، بعد أن كانت منحصرة منذ عهد صلاح الدين في علماء الشافعية، ‏وكان الغرض الأساسي ألّا يعلو نجم عالم من العلماء بين عموم الناس فيصير في مرتبة العز بن عبد ‏السلام.

هل العلم لازم للحاكم مثل القوة؟
‏لو قرأنا كيف كان يُربى الأمراء قديمًا لعرفنا قدر العناية بتعليمهم، وكان كثير من الخلفاء والوزراء يدخلون في عداد العلماء، ويُذكر في تراجمهم تلقيهم فروع العلوم المختلفة على أيدي كبار علماء عصرهم، لكن في المقابل هناك من يرى أن القوة هي السلطة الوحيدة ذات القيمة فيما يخص الملوك. يُحكى أن كسرى أبرويز بن هرمز قال: الملوك يُشتمون بالأفعال لا بالأقوال، ويُسفهون ‏بالأيدي لا بالألسن.
وهذا الرأي الأخير هو المدخل الرئيسي الذي يدخل منه شياطين الإنس من مستشاري السوء للحكام لتبغيضهم في العلم، وفي أهل الرأي والمشورة، وتزيين إخراس أصواتهم إليهم، بينما لم يرد عن رسول الله أنه منع من كلام أحد إلا الثلاثة الذين خُلِّفوا في غزوة تبوك؛ لأجل ‏جريمتهم، حتى تاب الله عليهم. وما أكثر المواقف من شؤون الدنيا التي خالف فيها الصحابة ‏الرسول في الرأي.‏
ثم، كيف لأفعال الحكام أن تكون سديدة، لا يرميهم الدهر لأجلها بمسبّة وهي نتاج جهل وقلة وعي بالأمور؟ ولو كانت الفعال حسنة والأقوال تافهة لَمَا أهمّ الحاذقون من الرعية من تفاهة أقوالكم شيئًا، ‏ولكن اجتمعت البليّة علينا من الجانبين.‏
والحاكم الذي يريد الله به خيرًا إن لم يكن له حظ من العلم، لا يحرم نفسه من بطانة صالحة، تنصحه وتجعله ينصح لرعيته، وإلّا فهو يغش رعيته.

أختم بحديث لرسول الله صلى الله عليه وسلّم، أورده الإمام البخاري في صحيحه، كتاب الأحكام، 7150- يقول فيه: "ما من عبد استرعاه الله رعية فلم يَحُطْها بنصحه لم يجد رائحة الجنة".