الأحد، 11 يونيو 2017

88-حبي الأول.. لكنها ليست وهمًا كبيرًا

حبي الأول.. لكنها ليست وهمًا كبيرًا
د/منى زيتون


الأحد 23 يوليو 2017

أعتقد أن نسبة كبيرة من العرب يعرفون رواية إحسان عبد القدوس الشهيرة "الوسادة الخالية"، والتي تحولت إلى فيلم سينمائي أشهر، لعب بطولته الفنان الكبير عبد الحليم حافظ.
صارت الوسادة الخالية رمزًا في الأدب العربي المعاصر لانتهاء الحب الأول، الحب ‏بمدلوله العاطفي، ‏الذي ادّعى الأديب أنه ليس إلا وهمًا كبيرًا، وأن الحب الحقيقي هو الذي يحقق للإنسان السكن والأمان، واللذين لا يمكن أن يحققهما ذلك الشعور المسمى بالحب الأول، الذي وجد الإنسان وهو بعد غر صغير نفسه غارقًا فيه.
أما عندي، فالوسادة الخالية هي رمز لذلك التغير الذي تجده في نفسك تجاه شيء كان يعني لك الكثير، ثم فجأة صرت تشعر أنه يشكل عبئًا كبيرًا عليك، وأنه يلزمك التخلص من وجوده في حياتك، وأن تبدأ حياة جديدة من دونه.
أصعب ما في الأمر أن يكون ذلك الشيء الذي يجثم على صدرك حتى يكاد يخنقك هو وطنك؛ وطنك الذي وُلِدت فيه، وفيه عشت طفولتك وصباك، وفي طرقاته وعلى شواطئه لهوت مع أقرانك، وفي مدرجات مدارسه وجامعاته تلقيت العلم.
قد يرى بعضهم فيما أكتبه بطرًا؛ كوني ولله الحمد لا زلت أُعتبر من الطبقة المتوسطة في المجتمع المصري التي تحيا حياة كريمة، ولم تزيحني السياسات الاقتصادية الفاشلة المتراكمة إلى قاع المجتمع.
لكن هل من ينظر إلى الوطن باعتباره هو فقط، وبناءً على قدر الرفاهية المتاحة له يفهم معنى الوطن؟!
للبابا شنودة كلمة شهيرة يقول فيها: مصر ليست وطن نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا.
ليس وطنًا ما لم تحلم له بالأفضل على كل المستويات، ما لم تشعر بالفخر عندما تراه يتحسن على كل الأصعدة.
معنى الوطن الحقيقي أن تستشعره كابن لك. تريد أن تراه يكبر أمامك، تريد أن تسعد عيناك برؤيته يعظم أمامك، فماذا إن كنت لا ترى حقيقة سوى الخيبة؟
أشعر الآن شعور أم أصيب ابنها بسرطانات مختلفة، كل واحد منها كفيل بالقضاء عليه، وهناك من يُفترض أنهم الأطباء المعالجون، الذين هم أفسد من أن يُطبّبوا جرحًا، ينظرون إلى هذا الابن نظرة الوحش إلى فريسة ضعيفة يطمع في اقتناصها.
أو ربما هي بالنسبة لي الآن كالابن العاق الذي تمنيت كثيرًا أن ينصلح حاله، فلم ينصلح، وصار اعتباره ميتًا بالنسبة لي أكثر راحة لشدة العبء النفسي الذي أشعر به عند التفكير في أحوالها.
هذا الوطن لم يسمح لي بتحقيق أحلامي لنفسي وله، ولكن لم أفقد يومًا إيماني به، وبقدرته على أن يتغير إلى الأفضل، وحتى لو انتفعت بتلك التغييرات أجيال غير جيلي كنت سأكون سعيدة وراضية، ولكن الأيام والسنين تمضي ولا أمل.
بعد ثورة 25 يناير 2011 زاد أملي في غدٍ أفضل، ولأن الأمل كان عظيمًا فخيبة الأمل كانت أعظم.
لأول مرة في حياتي أشعر أنني أختنق من مصر، أختنق من كوني مصرية، بعد أن كنت أشعر بالحنين إليها عندما أسافر أجمل بلاد الدنيا.
أحوالها تزداد سوءًا مع الأيام، حتى أن مجرد التفكير في مخرج لأزماتها أصبح كحل اللوغاريتمات المعقدة. نحن حتى لا نستطيع أن نُسمي شخصًا نطمع أن يجعله الله سببًا في انتشالها مما هي فيه بعد أن أغرقنا الحمقى.
أشعر هذه الأيام أن عليّ أن أنسى مصر. أنسى انتمائي لها واستبدله بانتماء آخر. أصبحت أفكر في هجرة دائمة إلى بلدٍ لا يشغلني بأوجاعه. بلد لا يعكر صفو أبنائه بالانخراط في السياسة والمواقف السياسية، ولا يرون الفاسدين المفسدين ينهبونه ولا حيلة لهم.
طالما عبت هذا التفكير من قبل، واعتبرته هروبًا من الحياة، فالحياة هي امتحانات متكررة، وليست جنة أرضية نعيشها في راحة بال. وطالما لا زلنا نعيش على الأرض، فحتى آخر نفس نتنفسه علينا أن نصمد أمام الصعاب التي نواجهها طالما الأهداف تستحق، والحر لا يستبدل انتماءه، والوطن ليس حفنة من تراب كما يدّعي تجار الدين، ولكن الضغوط تتعاظم، ولا أمل في انفراجة.
أشعر الآن أنني لا أرى مصر على وسادتي، ولكنني لست متأكدة أنه اختفاء أبدي وأنني يمكن أن أستبدلها بوطن آخر كنيوزيلندا أو سويسرا، حيث الطبيعة والهدوء والسكينة.

مصر حبي الأول، ولكنها ليست وهمًا كبيرًا يا إحسان!