الأحد، 11 يونيو 2017

93-تعاطف المصريين.. خطأ في البوصلة!

تعاطف المصريين.. خطأ في البوصلة!

د/منى زيتون

على ساسة بوست، الاثنين 7 أغسطس 2017

https://www.sasapost.com/opinion/empathy-2/

وعلى المثقف، الاثنين 15 نوفمبر 2021

https://www.almothaqaf.com/a/qadaya/959478

في هذا المقال لا أنوي مناقشة التعاطف من منطلق بيولوجي عصبي، فالخلايا العصبية المرآوية لا تعنيني الآن، كما لن أناقشه من منظور نفسي لأحلل مستوياته، بل سيكون نقاشي للتعاطف من منظور اجتماعي بحت.

فإن جاز أن أستخدم تعبيرًا لوصف سلوك الشعب المصري المبني على التعاطف، فأنا أزعم أنه ‏يمكنني وصف الحال بأن هناك خللًا عظيمًا في بوصلة المصريين يؤدي بهم للتعاطف مع الجهة ‏الخاطئة؛ الجهة التي تجيد التأثير عليهم والتباكي وإظهار الضعف.

إشكالية تعريف التعاطف  empathy

بدايةً فإنه توجد إشكالية في تحديد مفهوم التعاطف، فرغم أن المفهوم يبدو بديهيًا إلا أن التعبير عمّا يقصد يختلف في الأدبيات المختلفة، وحتى بين العامة.

·        هناك من يُعرِّف التعاطف على أنه فهم شعور الآخرين، وهو تعريف غير صحيح، فكوني أفهم ما تشعر به لا يعني أنني أتعاطف معك. والاستماع والفهم يجيده المحللون النفسيون كمهمة أساسية في وظيفتهم.

·        كما أن التعاطف ليس أن أضع نفسي محل أحد، فوضع نفسي محل أحد يساعدني في فهم الأمور من وجهة نظره، ولا يعني بالضرورة تعاطفي معه.

·        كما ولا أراه استجابة لمشاعر الآخرين، فالاستجابة للمشاعر ليست بالضرورة تعاطفًا، والمحبون يستجيبون عاطفيًا لمشاعر محبيهم، وهذا ليس ناتجًا عن تعاطف. كما أن الاستجابات الانفعالية تتعدد، وليس بالضرورة أن تكون كلها ودودة.

·        كذلك فإن تعريف التعاطف على أنه الشعور بما يشعر به الآخرون هو تعريف غير إجرائي، فما الذي يدل على أنني أشعر بما تشعر به؟

ويمكنني تعريف التعاطف على أنه إظهار التقدير لشعور الآخرين؛ فأنا أتعاطف معك عندما أظهر لك أنني أقدر تقديرًا حقيقيًا ما تمر به، وليس بأن أسمعك أو أضع نفسي محلك أو أظهر استجابة -حتى لو كانت ودودة- لمشاعرك.

كيف توجد مشكلة خاصة بالتعاطف في المجتمع المصري وربما العربي؟

في مجتمعنا عندما يُظلم الغني قد يجد من ينصفه لقوته ومعارفه، ولكنه لا يجد من يتعاطف معه! وعندما نستمع إلى حقوقيين نجد أن نسبة كبيرة من حديثهم ينصب على نصرة حقوق الضعفاء، والمفترض أن يكون همهم نصرة الحق لأنه حق، وليس نصرة الضعفاء كونهم ضعفاء؛ لأن كونهم ضعفاء لا يجعل الحق معهم بالضرورة.

وربما كان الضعيف أولى بالفعل بالتعاطف من القوي، لكن هذا شريطة أن يكون الحق معه، أما التعاطف مع الطرف الضعيف كونه ضعيفًا فهي فكرة بلهاء يعتنقها أصحاب التفكير العاطفي، وسيادتها في مجتمعنا أحد أسباب تخلفه. ‏ولا أمل في انتشال هذا الشعب من الأوضاع المزرية التي يقبع فيها ما لم يتعلم أفراده التفكير المنطقي، ويكفوا عن إطلاق مشاعرهم دون رابط.

ينبغي أن يتعلم المصريون أن التعاطف يكون مع القيم، وليس مع الأفراد؛ فالتعاطف مع ‏العدل وضد الظلم أيًا كان المظلوم، غني أو فقير، قوي أو ضعيف. لأنه ببساطة قد يكون ‏الضعيف هو من عليه الحق.‏

يقول تعالى: ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا‏﴾‏ [النساء: 135].

وسأضرب أمثلة حية شاهدتها وقرأتها، كان التعاطف الخاطئ فيها حاضرًا مع الطرف الذي ليس الحق في جانبه لأنه الطرف الأضعف!

التعاطف مع الطرف الأضعف في حوادث الطرق!

هل حدث وشاهدت حادثة مرورية في مصر؟ أنصحك إن كنت غريبًا ألّا تفوت هذه الفرصة الثمينة عندما تشاهدها، وأن تترجّل من مركبتك وتنزل لتتابع ردود أفعال الناس حولها، فهذه تجربة يصعب أن تشاهد مثيلًا لها في العالم بأسره.

في مصر، ستجد أن هدف المتجمهرين حول الحادثة يتلخص في محاولة الإصلاح بين الطرفين لأجل توسعة الطريق –وهذا جميل-، ثم وضع الحق على الطرف الأغنى وقد يصل الحال إلى محاولة الحصول منه على تعويض للفقير الذي قد يكون هو من تسبب في الكارثة! وقد يساعد بعضهم الطرف الأضعف في الإفلات والهرب بسيارته سريعًا قبل حضور المرور وإثبات الحالة، خاصة لو كان سائق سيارة أجرة يترزق منها، رغم إدراك الجميع أنه سبب المصيبة الحادثة.

منذ أعوام كنت شاهد عيان على واقعة تسبب فيها عامل توصيل طلبات على دراجة نارية في أزمة بجانب طريق المطار، ووفقًا لشاهد عيان آخر لم تفته لحظة بداية الحادثة، فقد ارتطمت يد دراجة العامل من شدة سرعته بمرآة إحدى السيارت التي كانت تركن على جانب الطريق، فطار في جهة وطارت دراجته في جهة وتبعثر ما كان يحمله في الطريق، ولولا رحمة الله وتدارك جميع السائقين الأمر بكبح سياراتهم لحدثت كارثة، وكان صوت كبح (فرملة) كل تلك السيارات مجتمعة  في لحظة واحدة يصم الآذان، ولكن لم يخل الأمر من تصادم بعض السيارات ببعضها.

ورغم شهادة من تصادف وقوفهم على الطريق جميعهم بأن العامل هو المخطئ، فلم يعدم هذا العامل من حاول الدفاع عنه ومحاولة تحميل المسئولية لغيره، لكن يبدو أن عظم المصيبة التي تسبب فيها، وتخيل ما كان يمكن أن تتضاعف إليه، قد أفقده تعاطف كثيرين؛ فهبّوا في وجه الغبي الذي تعاطف معه.

ومن الصواب القول إن هذا العامل قد تضرر كثيرًا، وربما كان أكثر المتضررين في المشهد قياسًا بإمكانياته المحدودة، لكن كيف يمكن لعاقل أن يبرر له ويتعاطف معه، وقد كادت أن تحدث كارثة إنسانية من جراء فعلته؟!

التعاطف مع القاتل والمغتصب!

وصل مستوى الخرفشة العقلية لدى بعضهم إلى حد التعاطف مع القتلة والمغتصبين عند صدور حكم بالإعدام عليهم!

فمنذ عدة سنوات عُرِض مسلسل اسمه "قضية رأي عام"، دارت حوادثه حول مجموعة من الشباب الطائش قاموا بمطاردة وإيقاف سيارة بها دكتورة وممرضة وأخريات من الطاقم الطبي كُن في طريقهن لإسعاف مريض، واغتصبوهن، ثم إن المعتدى عليهن لم يسكتن عن حقوقهن بل قمن بتقديم بلاغ ضد المغتصبين السفلة، وتتابعت حوادث المسلسل الذي كان يُعرض في شهر رمضان، ولم يكن قد تم الانتهاء من تصويره عندما عُرضت حلقاته الأولى.

والعجيب في الأمر أن الشباب المغتصبين قد وجدوا من تعاطف معهم من الشعب المصري، إلى الدرجة التي أجبرت طاقم العمل في المسلسل على جعل النهاية مفتوحة فلم يصدر حكم بالإعدام في نهايته كما كان مفترضًا!!

وإن أردت التأكد من وجود من يفعل سلوكًا كهذا، يكفيك تتبع مثل تلك الأخبار عن العقوبات الموقعة على القتلة والمغتصبين على مواقع التواصل الاجتماعي وقراءة التعليقات تحتها، لتقرأ تباكيًا على الجاني وعلى شبابه الضائع، ولحظة الضعف التي يستغلها المجتمع الظالم لإهدار عمره، ثم التفكر في أمر أهله وأولاده وحالهم من بعده!

ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

التعاطف مع المستأجر على حساب المالك

كانت ولا زالت قضية المالك والمستأجر تشغل بال المجتمع المصري، ورغم أن أي نقاش يقوم على المنطق ينتهي بتقرير أحقية المالك في ملكه، وأن قانون الإيجارات الذي وُضع في عهد عبد الناصر قد ظلم ملّاك العقارات والأراضي بأن خلع أيديهم عن التصرف فيها وأبّدها مع تثبيت القيمة الإيجارية، إلّا أنه عندما يصير الحديث مخصصًا عن المستأجر الفلاني والعلاني ينقلب الحال ويظهر التفكير العاطفي الساذج في المشهد، ويبدأ التعاطف مع المستأجرين الذين هم في الحقيقة يغتصبون حقوق غيرهم في ملكهم.

وما أعلمه يقينًا أنه وفقًا للشريعة الإسلامية فإن العقد الذي لا يرضى كلا الطرفين به هو عقد باطل، واستدامة عقد الإيجار القديم إلى أبد الآبدين غصبًا عن المالك هو أمر غير شرعي، حتى لو تمت زيادة قيمته إلى قيمة عادلة، وهو ما لا يحدث؛ ليزيد الطين بلّة.

والأدهى أن قانون الإيجارات القديم يسمح بتوريث الشقة المستأجرة لأبناء المستأجر، ونجد من يتعاطف معهم ويتباكى عليهم ويتساءل أين يذهبون ولا يهتم لحظة بحال المالك ولا بحق أبنائه! والسؤال الهام هنا للمتعاطفين مع أبناء المستأجر: هل الشقة قد أوقفها مالكها على هذا المستأجر وأبنائه من بعده؟! ولماذا لا تؤجرون أنتم لهم أملاككم أم أنكم تتعاطفون معهم كونكم غير متضررين من أفعالهم؟!

وأعرف أسرة مكونة من زوج وزوجة، كان أبو الزوج يستأجر شقة بالقاهرة بإيجار قديم زهيد، ورغم عدم حاجته لها، فلم يزل يضع فيها بعض الأثاث ويخصص يومًا في الأسبوع للذهاب إليها وزيارة الجيران كإعلان عن تواجده الدائم بها، ثم أعطاها الرجل لابنه هذا رغم اتفاق الابن مع أهل زوجته أن ينقل مقر عمله ويعيش في مدينتهم، ولا زال الابن وزوجته يواصلان ما كان يفعله الأب، فيسافران أسبوعيًا إلى القاهرة لقضاء يوم في الشقة التي لا يحتاجونها وزيارة الجيران، وهؤلاء الجيران رغم علمهم ضمنيًا بأن هؤلاء لا يحتاجون هذه الشقة مستمرون في التعاطف والتضامن معهم وهضم حق المالك!

التعاطف مع الموظف المهمل

مشادة حضرتها بنفسي بين أستاذة جامعية وأختها تتعلق بتحصيل قيمة إيجار مخزن في منزل العائلة. والمخزن كان قد أجّره والدهما بعقد إيجار قديم –تم رفع قيمته نوعًا ما- لرجل أعمال، وهو تقريبًا مغلق لعدم حاجته إليه، ومع ذلك هو مستمر في وضع يده عليه، ولا يرسل أحدًا من العاملين عنده لأجل دفع قيمة الإيجار شهريًا. ونظرًا لعلم الورثة –الأستاذة الجامعية وباقي إخوتها- أنه لا أمل في أي إجراءات قانونية يتخذونها لإجباره على إخلاء المخزن استغلالًا لعدم اهتمامه بدفع الإيجار، يقوم أحدهم بالمرور على مقر رجل الأعمال لتحصيل الإيجار، رغم أن العكس هو المفترض.

وإضافة لما سبق فإن العاملين ‏لدى رجل الأعمال يورِّدون كل المبالغ المتحصل عليها في كل يوم صباح اليوم التالي، ومن ثم فكثيرًا ما لا تتوفر نقود عند ذهاب أحد الورثة لتحصيل الإيجار في الصباح، وهو الموعد الأنسب للورثة، ويطالبهم العاملون بالحضور في المساء! ورغم أنه قد تم لفت نظر هؤلاء الموظفين عدة مرات لضرورة حجز مبلغ الإيجار بحيث يتم أخذه منهم في صباح يوم محدد من أيام الشهر، فهم يصرون على أنهم ينسون الأمر!

ورغم أن القصة كلها مهزلة، لكن ما علاقة خلل بوصلة التعاطف إذًا؟

المشكلة الحقيقية تكمن في أن تلك الأستاذة الجامعية تتعاطف مع هؤلاء الموظفين، ولا تراهم مهملين، بل ترى أن نظام العمل عندهم لا يسمح لهم باحتجاز المال إلى اليوم التالي، وأن مطالبتهم بهذا قد يكون فيه إضرار بهم!

فهل وصل الانحدار الفكري في المجتمع المصري إلى أساتذة الجامعة؟! وهل هذه طريقة تفكير بشر يعقل ما ينطق؟ أم أن كونهم موظفين بسطاء يتناقض مع كونهم مهملين؟

ولأجل هذا التعاطف الساذج مع المهملين نعاني كمواطنين وتتعطل مصالحنا، لأن كل مهمل مهما تكرر إهماله قد أمن توقيع الجزاء عليه، لأنه لن يعدم من يتعاطف معه.

ما هي الأسباب التي تقف وراء توجيه التعاطف لمن لا يستحق؟

لا شك أن نسبة كبيرة من أفراد المجتمع لديها مهارات متدنية في التفكير، والتعليم السيء الذي يتلقونه مسئول بالأساس عن افتقاد الخريجين القدرة على التفكير الناقد، وسيادة التفكير العاطفي كما لو كانوا أفرادًا في قبيلة بدائية.

كما أن انتشار الفساد أدى إلى نوع من الحقد الطبقي ومزيد من التعاطف مع الفقراء والضعفاء، ولكنه تعاطف لا يميز الحق من الباطل كما رأينا، ولا يميز من يسرقهم ممن يطعمهم.

وأختم بأن أقول إن هؤلاء المفرطين في التعاطف مع خلل في البوصلة وتوجيهه إلى الجهة التي لا تتفق مع المنطق، يستحقون إجراء دراسات علمية جادة عليهم لفهم الكيفية الي تعمل بها أدمغتهم أثناء توليد هذا الهراء.