الأحد، 11 يونيو 2017

96-عقيدة المعتزلة.. عرض ونقد

عقيدة المعتزلة.. عرض ونقد
د/منى أبو بكر زيتون
ج(1) الأربعاء 16 أغسطس 2017
ج(2) الجمعة 18 أغسطس 2017
ج(3) الأحد 20 أغسطس 2017
ج(4) الخميس 24 أغسطس 2017
ج(5) الاثنين 28 أغسطس 2017

المعتزلة هي فرقة كلامية تنتسب في أشهر الأقوال إلى واصل بن عطاء (80هـ- 131هـ). ظهرت عقيدة المعتزلة بالبصرة في أوائل القرن الثاني الهجري أواخر العصر الأموي، وازدهرت في العصر العباسي ‏خاصة في عهد المأمون الذي وقعت في عهده محنة خلق القرآن التي تسبب فيها اعتقاد المعتزلة بأن الكلام –والذي يعتقدونه من صفات الفعل وليس من صفات الله الذاتية- محدث وليس قديم أزلي بقدمه تعالى، ‏وضعفت هذه العقيدة تمامًا وقل معتنقوها بعد شيوع العقيدة الأشعرية بين المسلمين، ثم نفخ الروح في السلفية على يد ابن ‏تيمية ثم ابن عبد الوهاب، ولم يبق سوى قلة قليلة من المسلمين ممن يعتنقون تلك العقيدة في عصرنا ‏الحاضر.‏

اختلاف حول النشأة وسبب التسمية
قيل في نشأة المعتزلة أنها ظهرت لمّا اعتزل واصل مجلس الحسن البصري بسبب قوله بأن مرتكب الكبيرة هو في منزلة بين منزلتيّ المؤمن والكافر. ذكر الشهرستاني في "الملل والنِحل" (ج1، ص42) "القول بالمنزلة بين المنزلتين، السبب فيه أنه دخل واحد على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يُكفّرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يُخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يُرجُون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان، بل العمل على مذهبهم ليس ركنًا من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مُرجئة الأمة، فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقادًا؟، فتفكر الحسن في ذلك، وقبل أن يُجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلق، ولا كافر مطلق، بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعتزل إلى إسطوانة من إسطوانات المسجد، يُقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل، فسُمي هو وأصحابه معتزلة"أهـ.
بينما يذكر العلامة علي سامي النشار في موسوعته "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" (ج1، ‏ص230)، نقلًا عن الكعبي والقاضي عبد الجبار المعتزلي، أن المعتزلة ترجع في أصولها الحقيقية ‏إلى أبي هاشم عبد الله بن محمد بن علي بن أبي طالب، فواصل بن عطاء نشأ بالمدينة، ربّاه محمد بن ‏الحنفية مع ابنه أبي هاشم عبد الله في الكتّاب، ثم صحب أبا هاشم بعد وفاة أبيه صحبة طويلة، ‏وعنه وعن أبيه أخذ واصل.‏
أما الملطي في "التنبيه والرد على أهل الأهواء والبِدع" (ص44) فيذكر قصة أخرى حول نشأة الاعتزال وسبب تسمية المعتزلة. يقول: "وهم سمّوا أنفسهم معتزلة، وذلك عندما بايع الحسن بن علي عليه السلام معاوية، وسلّم إليه الأمر اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس. وذلك أنهم كانوا من أصحاب علي، ولزموا منازلهم ومساجدهم، وقالوا: نشتغل بالعلم والعبادة فسُموا بذلك معتزلة".

أصول المعتزلة
اعتمدت المعتزلة على العقل وتميزت بتقديمه على النقل في فهم العقيدة الإسلامية، وقالوا ‏بأنّ العقل والفطرة السليمة قادران على تمييز الحلال من الحرام بشكل تلقائي، وتحديد الحسن من ‏القبيح، وتأثروا بالفلسفة في بحثهم مسائل العقيدة، فقد نشأ ذلك المذهب العقدي في عصر توسعت ‏فيه رقعة الدولة الإسلامية واتصلت بحضارات شتى.‏ فالعقل عندهم هو مصدر آخر للمعرفة. لكن يعيب المعتزلة الثقة المطلقة فيه، التي تصل لدرجة التغطرس والتباهي؛ فاحتكامهم يكون بشكل مستمر لما يقضي به العقل، دون فحص كافٍ للنصوص.
يُعرِّف المعتزلة أنفسهم بأنهم أهل العدل والتوحيد، ويؤكدون على مقولة منسوبة للإمام عليّ ‏بن أبي طالب عن الله عز وجل يقول فيها: "توحيده ألّا تتوهمه، والعدل ألّا تتهمه"، فعقيدتهم في الله تعالى ‏على أصول، اختلف عددها وتحديدها باختلاف المصادر، فقول بأن للدين أصلين وهما: التوحيد والعدل، وقول بأنهم أربعة وهم: التوحيد والعدل والنبوات والشرائع، وقول أكثر شيوعًا، ويعتبر أكمل تصور لعقيدة المعتزلة، وهو على أن أصول الدين خمسة، التي هي: التوحيد، والعدل، ثم هناك المنزلة بين المنزلتين، والوعد والوعيد، ‏والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.‏
1-    ‏التوحيد:
التوحيد كما يُعرفه القاضي عبد الجبار في "الأصول الخمسة" (ص68) "هو العلم بما تفرد الله عز وجل به من الصفات التي لا يشاركه فيها أحد من المخلوقين"أهـ، فالله وفقًا لعقيدتهم، واحد في ذاته، وهو شيء لا كالأشياء ليس بجسم ولا صورة، وليس بجوهر، ولا عنصر، ولا يتجزأ، وليست له جوارح وأعضاء، ولا يتحرك ولا يسكن. ويُنكرون الجهة والفوقية والعرشية، إلى آخره من التنزيهات المعروفة عند أهل السُنة، وتتنافى تمامًا مع مفهوم السلفية التجسيمي للذات الإلهية. ولا يشاركه تعالى غيره فيما يستحق من الصفات على الحد الذي يستحقه.
ويتفقون أيضًا مع السُنة من الأشاعرة والماتريدية في ‏تقرير الصفات السبع لله تعالى (العلم– القدرة– الإرادة– الحياة– ‏السمع– البصر– الكلام)، لكن يعتقد المعتزلة أن ذات الله قديمة بينما صفاته حادثة، وأن صفاته تعالى هي عين ذاته وليست قائمة بذاته كما يعتقد الأشاعرة، فقرروا وحدة الذات الإلهية وصفاتها، وقرروا نفي الصفات ‏الزائدة عن الذات، فهو عالم بذاته قادر بذاته حي بذاته، لا بعلم وقدرة وحياة، فالصفة هي نفس الوصف. وكان ذلك تفاديًا للشرك بزعمهم، حتى لا يقولوا بأكثر من قديم، لأنها لو شاركته في القدم لشاركته في الإلهية. ويصفهم السلفية ‏بالمُعطِّلة والجهمية بدعوى أنهم ينفون الصفات تمامًا عن الله، والحقيقة أنهم ما ينفون الصفات وإنما ينفون الأزلية عن الصفات، وينفونها قائمة بالذات، وينفون انفصالها عن الذات، فدمجوها مع ذات الله وقالوا هي عين ذاته.
وكانت مشكلة وحدة الذات والصفات من شواغل فلاسفة المسلمين من الأشاعرة ‏والمعتزلة، وقد شغَّب بعض المعتزلة على الأشاعرة لإثباتهم ذاتًا وسبع صفات ‏قديمة ليست عين الذات، وحاولوا تصوير الأمر على أن لهم ثمانية أقانيم، وهذا تشنيع مقيت؛ فالذات ‏واحدة مهما تعددت الصفات الموصوفة بها. يقول السبكي في "طبقات الشافعية" (ج2، ‏ص300) "يقول سائر المعتزلة للصفاتية -أعني مثبتي الصفات-: لقد كفرت النصارى بثلاث ‏وكفرتم بسبع، وهو تشنيع من سفهاء المعتزلة على الصفاتية. ما كفرت الصفاتية ولا أشركت وإنما ‏وحّدت وأثبتت صفات قديم واحد، بخلاف النصارى، فإنهم أثبتوا قدمًا فأنى يستويان أو يتقاربان"أهـ.‏

اعتقاد المعتزلة في صفة الكلام (خلق القرآن)
يعتقد المعتزلة أن الكلام صفة للفعل وليس من ‏صفات الذات، وأنه محدث غير قديم، مما تسبب في قولهم بخلق القرآن، فيعتقدون أن كلام الله مخلوق أو حادث ‏أي أنه وُجد بعد أن لم يكن موجودًا، وتكلم الله به بعد أن لم يكن متكلمًا، وأن كلامه تعالى حرف وصوت.
يذكر محمد صُبيح في مقدمة تحقيق كتاب "فتوح مصر وأخبارها" (ص5) عن محنة خلق القرآن التي تسببت فيها عقيدة المعتزلة "هي فكرة جدلية ملأت على الخليفة المأمون أقطار نفسه، وغلبت على ما عداها من فكر، وهزت هزًا عنيفًا كل ما عُرف عنه من رجاحة الرأي وسعة الصدر. قال –أي المأمون- يشرح الأمر في الكتاب الذي بعث به إلى واليه بمصر: "قال الله تعالى: ‏﴿إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا‏‏﴾‏‏ [الزخرف: 3]. وكل ما قد جعله فقد خلقه. كما قال تعالى: ‏﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ‏‏﴾‏‏ [الأنعام: 1]. وقال تعالى: ‏﴿كَذَٰلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ‏‏﴾‏‏ [طه: 99]‏‏، فأخبر أنه قصص لأمور أُحدثت بعدها. وقال عزّ وجلّ: ‏﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾‏‏ [هود: 1]. والله تعالى محكم كتابه، ثم مفصله، فهو خالقه ومبدعه". وقصد المأمون بهذا أن القرآن كلام الله، خلقه وأبدعه، وأنه ليس جزءًا غير منفصل عن الذات الإلهية، وذلك تنزيهًا للتوحيد، ومن لم يؤمن بأن القرآن مخلوق فقد عمي عن رشده، وابتعد عن الإيمان بالتوحيد، وكان أكذب الناس لأنه كذب على الله ووحيه، ولم يعرف الله حق معرفته"أهـ.
ومثل ذلك تقريبًا كان في الكتاب الذي بعث به المأمون إلى واليه على العراق إسحاق بن إبراهيم يأمره بامتحان الناس، وذكره الطبري في "تاريخ الرسل والملوك" (ج8، ص632). وكُتب المأمون هذه تُلخص الأسباب العقلية المستقاة من فهمهم للقرآن، التي أدت بالمعتزلة للقول بخلق القرآن.
ومثلها ما أورده القاضي عبد الجبار في "الأصول الخمسة" –المنسوب إليه- (ص86-87)، يقولون: "الله قد أنعم على العباد بأن كلّفنا وأمرنا ونهانا، وأن الكلام فعله، كما خلقهم ثم أحسن إليهم، فكما أن الإحسان محدث فكذلك كلامه محدث. وقد قال عز وجل: ‏﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ‏‏﴾‏‏ [الأنبياء:2]، والذكر هو القرآن، لقوله تعالى: ‏‏﴿وَهَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ‏‏﴾‏‏ [الأنبياء:50]، وقوله: ‏﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ‏‏﴾ ‏‏[يس:69]، وقال عز وجل: ‏﴿وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا‏‏﴾‏‏ [الأحزاب:37]، والأمر هو القرآن. وقال الله تعالى: ‏﴿نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا‏‏﴾ [الزمر:23]. والحديث لا يكون إلا مُحدَثًا. وقال تعالى: ‏﴿الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ‏‏﴾‏‏  [هود:1]، وهذه علامة المُحدَث. وقال: ‏﴿وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً‏‏﴾‏‏ [الأحقاف:12]، وقبله غيره لا يكون إلا مُحدَثًا. على أن القرآن سوره كثيرة، وهو عربي، ويُنصّف، ويُتلى، ويُستمع، ولا خلاف بين الأمة أن كل ما سوى الله فهو مُحدَث. فيجب أن يكون القرآن كلام الله مُحدَثًا، ومُحدِثه الله عزّ وجلّ، فإن أحدًا غيره لا يقدر على مثله، كما قال عزّ وجلّ: ‏﴿قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا‏‏﴾ [الإسراء:88]"أهـ.
أما رأي أهل السُنة من الأشاعرة والماتريدية في المسألة، فمجمل في كتاب "الفقه الأكبر" المنسوب إلى الإمام أبي حنيفة بأن: "القرآن كلام الله تعالى في المصاحف مكتوب، وفي القلوب محفوظ، وعلى الألسن مقروء، وعلى النبي عليه الصلاة والسلام منزل، ولفظنا بالقرآن مخلوق، وكتابتنا له مخلوقة، وقراءتنا له مخلوقة، والقرآن غير مخلوق، وما ذكر الله تعالى في القرآن حكاية عن موسى وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعن فرعون وإبليس فإن ذلك كله إخبار عنهم، وكلام الله تعالى غير مخلوق، وكلام موسى وغيره من المخلوقين مخلوق. والقرآن كلام الله تعالى فهو قديم لا ككلامهم"أهـ.
حيث يميز الأشاعرة بين الكلام النفسي القديم القائم بالذات، وبين الألفاظ التي نلفظه بها، ‏لتدل على الكلام النفسي القديم، وهي مخلوقة ليست قديمة. يقول الشهرستاني في "المِلل ‏والنِحل" (ج1، ص83) عن اعتقاد الأشاعرة في الكلام: "والعبارات والألفاظ المنزلة على لسان ‏الملائكة إلى الأنبياء عليهم السلام دلالات على الكلام الأزلي، والدلالة مخلوقة مُحدَثة، ‏والمدلول قديم أزلي، والفرق بين القراءة والمقروء والتلاوة والمتلو، كالفرق بين الذكر والمذكور، ‏فالذكر مُحدَث والمذكور قديم"أهـ. ‏
وروى السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج8، ص224) قول الإمام العز بن عبد السلام الأشعري ‏في "مُلحة الاعتقاد" "‏﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ‏‏﴾‏‏ [الأنبياء:2]، جعل الآتى مُحدَثًا، ‏فمن زعم أنه قديم فقد ردّ على الله سبحانه وتعالى، وإنما هذا الحادث دليل على القديم، كما أنّا ‏إذا كتبنا اسم الله تعالى في ورقة لم يكن الرب القديم حالًا في تلك الورقة، فكذلك إذا كُتب ‏الوصف القديم في شىء لم يحل الوصف المكتوب حيث حلّت الكتابة"أهـ.‏
وأقول: يتضح مما سبق أن اعتقاد المعتزلة في كلام الله هو شكل من أشكال إجراء الزمن ‏على الله تعالى، ودائرة الزمن تشملنا ولا تشمله سبحانه؛ فهم يرون كلامه ذا طبيعة تفاعلية مع ‏البشر، فموسى عليه السلام تكلم فأحدث الله تعالى كلامًا ردًا عليه، ولكنهم ينفون أن يكون ‏إحداث ذلك الكلام في ذاته تعالى، تهربًا من هذا التزمين لذاته العليّة، ولأنهم كجموع المسلمين ‏عدا الكرامية –ومن تابعهم كابن تيمية- ينفون أن تكون ذاته العليّة محلًا للحوادث. إن تصور ‏المعتزلة عن الكلام كصفة فعل وليس صفة ذات، جعلهم يفصلونها عن ذات الله، ومن ثم لزمهم ‏أن كل ما سوى الله محدث، وتصورهم عن القرآن ككلام الله المنزل على فترات، والذي يقص ‏علينا قصص أمم مما كانت قبلنا، بل ويقص بعض ما حدث للرسول مثل وجود الرسول في ‏الغار وقت الهجرة إلى المدينة، وبعض ما حدث في الغزوات، وما حدث من الصحابة والمنافقين، ‏وغيرها من حوادث، إضافة لعدم تمييزهم بين المدلول القديم والدلالة المحدثة (التنزيل، التلاوة، ‏الكتابة،...)، هو سبب قطعهم بكون القرآن محدثًا مخلوقًا، وهذا فرع من تصورهم الإجمالي ‏المختزل لصفات الله تعالى المغاير لمعتقد أهل السُنة، فتصورهم القاصر للكلام يرتبط بتصورهم ‏المختزل عن علم الله، فالأشاعرة على النقيض من المعتزلة يقطعون بأن علم الله واحد، يتعلق ‏بجميع المعلومات، المستحيل والجائز والواجب، والموجود والمعدوم، ويتفرع عن ذلك العلم ‏بالمعدوم الغيبي أن كلام الله قديم حتى ولو دلّ على ما حدث للأمم من قبلنا أو للرسول أو ‏للصحابة، وهم محدثون وليسوا أزليين.‏
والمعتزلة الجُدد يجادلون حول اعتقاد أسلافهم بأزلية صفات الذات، وأهمها العلم. يقول أحدهم: "يثبت المعتزلة لله كونه عالمًا منذ الأزل، وإنما الخلاف في كون العلم تابعًا للذات كما يقول المعتزلة، أو في كونه عرضًا على الذات كما يقول الأشاعرة. التعدد الذي حذّر المعتزلة من الوقوع فيه ليس هو تعدد التماثل، بل تعدد قدم الأشياء وإن كانت غير متماثلة، فالقول بأن العلم عرض يلزم منه، وجود جوهر له؛ وبذلك يصير عندنا جوهر وعرض متساويان في القدم". وخلاصة الكلام أنهم يريدون أن يصوروا لنا أن سبب تشنيع المعتزلة على الأشاعرة بأنهم يقولون بأكثر من قديم، هو أن الأشاعرة يعتقدون صفات الذات قائمة بالذات، وليست عين الذات، وهو ما لا يمكن الاعتداد به والركون إليه. إن من يقرأ ما يدفع به أسلافهم حول اعتقادهم خلق القرآن لا يتلمح من خلال تلك الدفوع اعتقادًا بأزلية علم الله مثلما يعتقد أهل السُنة أشاعرة وماتريدية، بل وسلفية، فطالما تؤمنون أن العلم قديم؛ لماذا رفضتم أن الكلام قديم، والدلالة عليه فقط المحدثة؟!، وجادلتم وحاججتم بأن الكلام ذاته محدث لأنه  يدل على (أخبار محدثة)، والمفترض لمن يعتقد بأزلية العلم أن يعي أن تلك الأخبار محدثة لنا، غير غائبة عن علم الله القديم، ولا يَستبعد أن يكون الله قد تكلم بها في الأزل.
وجاء في "طبقات الشافعية" (ج3، ص417) عن اعتقاد الأشعري في الكلام في مقابل اعتقاد ‏المعتزلة "ومذهبه أن الله تعالى أفرد موسى فى وقته، بأن أسمعه كلام نفسه بغير واسطة، ولا على ‏لسان رسول، وإنما لا يصح هذا على أصول القدرية –يعني المعتزلة-، الذين يقولون إن كلام الله ‏مخلوق فى الشجرة، وموسى عليه السلام يسمع كلامه، وقال الأشعرى: لو كان كلامه سبحانه فى ‏الشجرة لكان المتكلم بذلك الكلام الشجرة، فالقدرية قالوا: إن موسى عليه السلام سمع كلامًا من ‏الشجرة، فلزمهم أن يقولوا إنه سمع كلام الشجرة لا كلام الله"أهـ. فالمتكلم عنده من قام بالكلام، وعند ‏المعتزلة من فعل الكلام؛ لأن الكلام عند المعتزلة فعل، والفِعل يُنسب لفاعله، وليس لمن قام به، ‏وبما أنهم يرونه صفة فعل وليس صفة ذات، فهم يعتقدون أنه حادث مخلوق، والله تعالى قديم، ‏وذاته لا تقوم بها الحوادث، فقولهم بخلق القرآن هو نهاية سلسلة من الاعتقادات المترتبة على ‏بعضها، وأصلها أن الكلام من صفات الفعل، وأن صفاته التي هي عين ذاته –على اعتقادهم-، ‏كالعلم والإرادة، حادثة.‏
أما السلفية، ووفقًا لابن تيمية في الفتاوى الكبرى، فهو يتهم الأشاعرة بالاضطراب في ‏مسألة القرآن. ويبدو أنه لم يفهم كيف يكون اعتقادهم بأن القرآن غير مخلوق، بينما لفظنا به ‏مخلوق، وهو أمر حتى أكثر السلفية المعاصرين يخلطون فيه ولا يفهمونه.
ولقد كانت مسألة التلفظ بالقرآن سبب محنة الإمامين البخاري والعز بن عبد السلام، بسبب ‏دسائس الحنابلة، حيث لم يخالف الأشاعرة المعتزلة بذلك الاعتقاد فقط، بل خالفوا السلفية أيضًا. ‏فالسلفية تارة يثبتون ضرورة التوقف عن الخوض في مسألة التلفظ بالقرآن، وعدم التصريح بكونه ‏مخلوقًا أو غير مخلوق، وتارة يُصرِّون على عدم انفصال المتلو عن التلاوة، وبالتالي فكما أن القرآن ‏غير مخلوق، فاللفظ بالقرآن غير مخلوق!!، فحكموا بأن كليهما قديم!!؛ حيث خلطوا بين فعل الله ‏وأفعال العباد، وقالوا كلام الله حرف وصوت، وبالتالي فالحروف والكلمات التي يُتلى ويُكتب بها ‏القرآن قديمة!!!.‏ وكان كتاب "خلق أفعال العباد" ردًا من الإمام البخاري على كل من المعتزلة والحنابلة، فكل ‏طائفة منهما لم يميزوا بين المتلو والتلاوة، فالمعتزلة اعتبرت القرآن مخلوقًا كما رفضت القول بأن ‏أفعالنا مخلوقة لله لقولهم بالعدل –وهو الأصل الثاني لهم-، والحنابلة اعتبروا القرآن قديم غير مخلوق، لكن لم يميزوا فعل العبد من أفعال ‏العباد، فظنوا تلاوتنا وكتابتنا للقرآن أيضًا قديمة!!.

ومن أكثر ما يُسيئوني استخدام ما يُسمى "التشنيع بإساءة الحكاية" عند شرح كثيرين لعقيدة المعتزلة في خلق القرآن، فيشنِّعون بأن المعتزلة قالوا أن القرآن الذي هو كلام الله مخلوق كالمخلوقات!!، أو أن المعتزلة ادَّعوا أن القرآن هو عمل بشري من أعمال النبي صلى الله عليه وسلم!!. في حين أنه يمكن مجادلتهم بالعقل لنثبت لهم ما نراه من خطأ اعتقادهم.
هذه المناظرة التخيلية وضعتها بين أشعري ومعتزلي لإبطال عقيدة المعتزلة في الكلام أنه صفة فعل غير قائمة بذات الله القديم، وأنه مُحدث، والتي قادتهم للقول بخلق القرآن:
الأشعري: هل أمره سبحانه قبل خلقه، أم خلقه قبل أمره؟
المعتزلي: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ﴾‏ [يس: 82]
الأشعري: فكيف يأمر ربنا وينهى؟
المعتزلي: يأمر ربنا بكلام.
الأشعري: فكيف يكون الكلام مُحدثًا وقد سبق الخلق؟
المعتزلي: الكلام فعل فعله الله قبل الخلق.
الأشعري: فذاته تعالى غير محل للحوادث، وأفعال الله يحدثها في مخلوقاته، فلو كان كما تقول أن الكلام صفة فعل، لا بد من خلق يُحدث فيه فعل الكلام، وأمره قبل خلقه، فكيف يكون الكلام صفة فعل؟
فانقطع المعتزلي.

أما محنة خلق القرآن فقد سبق وشرحت دورهم المحوري فيها في مقال "هل المعتزلة أبرياء من محنة خلق القرآن؟"
يُتبع
ملحوظة: قائمة المراجع ستُضمَّن في الجزء الأخير من هذه السلسلة.
******************
في الحلقة الأولى من سلسلة المقالات تحدثنا عن نشأة المعتزلة، وعن أصل التوحيد، وهو أهم الأصول في أي عقيدة، ثم تطرقنا إلى ما يرتبط بأصل التوحيد في مسألة "خلق القرآن".
نتابع في الحلقة الثانية شرح ثلاثة من الأصول العقائدية للمعتزلة (العدل- المنزلة بين المنزلتين- الوعد والوعيد).

2-    العدل:
أما مقولة "العدل ألّا تتهمه" فهي مقولة عظيمة للإمام عليّ، ولكن لم يتفق للمعتزلة أن فهموا ‏ما قصد إليه سيدنا عليّ وسائر المسلمين من أن كل ما فعله الله وقدَّره للإنسان هو من ‏العدل فليس الله بظلام للعبيد، ولكن الإنسان قد لا يدرك الحكمة من وراء كثير مما ‏يحدث في الكون. وهو تعالى مالك الكون يتصرف فيه بما يشاء، ولا يُتصور منه ظلمًا. والمعتزلة فهموا الأمر على أن قياس أحكام الله يكون وفقًا لما يتفق مع ‏العقل، والعقل هو الذي يتحدد تحسين وتقبيح الأشياء على أساسه، فالعدل عندهم هو ما يقتضيه العقل من الحكمة، وهو إصدار الفعل على وجه الصواب والمصلحة. ويُعرفه القاضي عبد الجبار في "الأصول الخمسة" (ص69) بأنه "العلم بتنزيه الله عز وجل عن كل قبيح، وأن أفعاله كلها حسنة"أهـ.
وإرسال الرسل بالشرائع السماوية فرع من أصل العدل عندهم؛ لأن العقل يقضي بأن إرسال الرسل وتعبدنا بالشرائع فيه صلاح البشر، وبالتالي أوجبوا على الله فعله.
وكان الأمويون قد شجعوا القول بالجبر، لتبرير سياساتهم الظالمة تجاه الرعيَّة بنسبتها إلى الله تعالى، فكان هذا الأصل عند الفِرقة الناشئة المعتزلة ردًا على جبرية الأمويين؛ يقولون بالعدل وينفون الجبر. فالعدل الإلهي عند المعتزلة يرتبط بحرية الإنسان ومسئوليته في خلق أفعاله، لأن من العدل أن يكون الإنسان حرًا ليحاسبه الله، ولاعتقادهم بأن ‏الإنسان مُخير في أفعاله وقعوا في نفي أن يكون الله خالقًا لأفعال عباده لأن فيها الشر، ‏والله لا يفعل الشر ولا يأذن به بزعمهم.
قال أبو محمد ابن حزم في كتابه "الفِصل في الملل ‏والأهواء والنِحل" (ج5، ص57): "قالت المعتزلة: بأسرها حاشا ضرار بن عبد الله الغطفاني ‏الكوفي، ومن وافقه كحفص الفرد وكلثوم وأصحابه، إن جميع أفعال العباد من حركاتهم ‏وسكونهم في أقوالهم وأفعالهم وعقودهم لم يخلقها الله عز وجل"أهـ.‏ بالتالي أثبتوا خالقين لا يُحصون. ‏‏‏﴿أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ۚ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ﴾‏‏‏‏ [الرعد:16].
ولعل قولهم بأن كل أفعال العباد الخير والشر من خلقهم، كان هربًا من الوقوع في التصنيف الثنوي المجوسي الذي كان قد دخل إلى معتقد بعض المسلمين من بلاد فارس، والقائل بأن الخير من الله والشر من الإنسان. كما يتضح أن اعتقادهم أن العباد يخلقون أفعالهم يرتبط باعتقادهم في القدر.
ومن طرائف ما يُروى من مناظرات الأشاعرة والمعتزلة بخصوص خلق أفعال العباد ما رواه السُبكي في طبقات الشافعية (ج4، ص261-262) في ترجمة أبي إسحاق الإسفراييني، عن مناظرة حدثت بين الأستاذ أبي إسحاق الإسفرايني الأشعري الشافعي والقاضي عبد الجبار المعتزلي الشافعي.
قال القاضي عبد الجبار في ابتداء جلوسه للمناظرة: سبحان من تنزّه عن الفحشاء.
فقال الأستاذ مجيبًا: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء.
فقال القاضي عبد الجبار: أفيشاء ربنا أن يُعصى؟
فقال الأستاذ: أيُعصى ربنا قهرا؟
فقال القاضي عبد الجبار: أفرأيت إن منعني الهدى وقضى عليّ بالردى أحسن إليّ أم أساء؟
فقال الأستاذ: إن كان منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له فيختص برحمته من يشاء. يقول السُبكي: فانقطع عبد الجبار.
وروى السُبكي في ترجمة القاضي عبد الجبار المعتزلي (ج5، ص98) "من ظريف ما يُحكى أن الأستاذ أبا إسحاق نزل به –أي القاضي عبد الجبار- ضيفًا فقال القاضي: سبحان من لا يريد المكروه من الفجّار، فقال الأستاذ: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يختار".
ومن مناظرات الأشاعرة والمعتزلة أيضًا، يحكي السُبكي (ج3، ص356) "مناظرة بين الشيخ أبي الحسن الأشعري وأبي علي الجبائي المعتزلي، في الأصلح والتعليل.
سأل الشيخ الأشعري أبا علي الجبائي، فقال: أيها الشيخ ما قولك فى ثلاثة مؤمن وكافر وصبي؟
فقال الجبائي: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الهلكات، والصبي من أهل النجاة.
فقال الشيخ: فإن أراد الصبى أن يرقى إلى أهل الدرجات، هل يمكن؟
قال الجبائي: لا، يُقال له: إن المؤمن إنمّا نال هذه الدرجة بالطاعة، وليس لك مثلها.
قال الشيخ: فإن قال: التقصير ليس مني، فلو أحييتني كنت عملت من الطاعات كعمل المؤمن.
قال الجبائي: يقول له الله: كنتُ أعلم أنك لو بقيت لعصيت ولعوقبت، فراعيتُ مصلحتك، وأمتُك قبل أن تنتهي إلى سن التكليف.
قال الشيخ: فلو قال الكافر: يا رب علمت حاله كما علمت حالي، فهلّا راعيت مصلحتي مثله؟
فانقطع الجبائي"أهـ.

3-   المنزلة بين المنزلتين:
وهي منزلة الفاسق في الدنيا عندهم، فهو لا يُسمى مؤمنًا ولا يُعد ‏كافرًا، وكان تعليل المعتزلة لتلك المنزلة الوسطى التي أنزلوها مرتكب الكبيرة أن الإيمان لو كان موجودًا لعصم صاحبه من الكبائر.
ورغم أن تعليلهم للأمر كان مصدره ما حكم به العقل من عدم فصل الإيمان عن العمل، فقد رأى المعتزلة في الآيات القرآنية التي حثت على العمل الصالح في القرآن وقرنته بالإيمان أنه دليل على ركنية العمل كجزء من الإيمان، وهناك نصوص دينية يتفق ظاهرها مع قولهم. يقول تعالى: ‏﴿‏إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ‏‏﴾ [العنكبوت:45]. وورد في صحيح البخاري (2475) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن". وعن سعيد وأبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: مثله، إلا النهبة. قال الفربري: وجدت بخط أبي جعفر: قال أبو عبد الله: تفسيره: أن يُنزع منه، يريد الإيمان. وللحديث أطراف بصحيح البخاري (5578- 6772- 6810).
فالمعتزلة يرون في النصوص التي قرنت الإيمان بالعمل الصالح، وتلك التي على العكس قرنت نفي الإيمان بالعمل الطالح، نصًا على عدم الفصل بين الإيمان والعمل، وأن الإيمان يزيد وينقص، وأنه عمل بالجوارح واعتقاد بالقلب وقول باللسان.
بينما أهل السُنة من الأشاعرة والماتريدية ترى تمييز الآيات بين الإيمان والعمل دليلًا على انفصالهما، ذكر البيجوري في (حاشيته على جوهرة التوحيد) (ص94) في شأن اعتقاد الأشاعرة في العمل "العمل ‏شرط كمال –يعني للإيمان- على المختار عند أهل السُنة، فمن أتى بالعمل فقد حصّل ‏الكمال، ومن تركه فهو مؤمن، لكنه فوّت على نفسه الكمال، إذا لم يكن مع ذلك استحلال أو ‏عناد للشارع أو شك في مشروعيته، وإلا فهو كافر فيما علم من الدين بالضرورة"أهـ.
وأعتقد أن أفضل تشبيه ممكن للإيمان عند أهل السُنة الأشاعرة هو بالشجرة، فكما أن الشجرة جذع وأفرع، ‏فالإيمان إقرار وأعمال، فكأن الجذع هو الإقرار، وكأن كل فرع بمثابة عمل، وحتى لو قُطِعت ‏كل فروع الشجرة، فالشجرة لا تزول إلا بقطع جذعها، وكذا الإيمان لا يزول إلا بزوال أصله ‏وهو الإقرار بالشهادتين، حتى لو لم يعمل صاحبه أي عمل. كما قد تكون شجرة جذعها قوي ‏وأفرعها قليلة، وشجرة كثيرة الفروع وجذعها ضعيف، وهي شجرة المُرائي غير المخلص؛ لذا رُوي ‏عن ساداتنا العُرفاء بالله قول بعضهم: "إن الله يقبل قليل عمل مع الإخلاص، ولا يقبل كثير ‏عمل من غير إخلاص". ولعل تشبيهي هذا يُفسر أن يقع شخص كان كثير الصلاة والصوم ‏وقراءة القرآن فريسة الإلحاد، بينما لا يتطرق حتى الشك لنفس شخص تارك العمل، لأن جذع ‏إيمان هذا الثاني قوي حتى لو عدم الفروع.‏
وكان هذا الأصل من أصول عقيدة المعتزلة هو سبب انعزال واصل بن عطاء عن مجلس أستاذه الحسن البصري. وقد تفرّد المعتزلة به، فكان مخالفة من المعتزلة لاعتقاد الخوارج بأن الفاسق غير مؤمن، ومرتكب الكبيرة كافر، ‏والذي على أساسه كفّر الخوارج المسلمين وخاضوا في دمائهم، وكذا كان فيه مخالفة من المعتزلة لأهل السنة والجماعة من ‏الأشاعرة والماتريدية الذين لم يُكفّروا أصحاب ‏الكبائر، ولم يحكموا بتخليدهم في النار، بل اعتبروهم مؤمنين فاسقين، أمرهم إلى الله. كما خالفوا المرجئة الذين قالوا: لا يضر مع الإيمان معصية، ولا ينفع مع الكفر طاعة، وحكموا بنجاة كل من نطق بالشهادتين، وهو قول يفتح الباب على مصراعيه أمام اقتراف المناكر، وما جاء الإسلام إلا لمحاربتها.
وكان واصل بن عطاء قد فسَّق أحد فريقيّ حرب الجمل، لا بعينه. وفيهم عليّ والحسن والحسين وابن عباس وعمّار بن ياسر من جهة، وعائشة وطلحة والزبير من جهة أخرى!!، ووافقه عمرو بن عبيد، وردّا شهادة الفريقين!

4-    الوعد والوعيد:
ينقل النشار في "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" (ج1، ص436) عن القاضي عبد الجبار المعتزلي في "شرحه للأصول الخمسة"، أن "الوعد هو كل خبر يتضمن إيصال نفع إلى غيره أو دفع ضرر عنه في المستقبل، وأما الوعيد فهو كل خبر يتضمن إيصال ضرر إلى الغير أو تفويت نفع عنه في المستقبل"أهـ. وهو تعريف لغوي، أما التعريف الاصطلاحي لهذا الأصل فيذكره القاضي عبد الجبار في "الأصول الخمسة" (ص70) فيقول: "هو العلم بأن كل ما وعد الله به من الثواب لمن أطاعه، وتوعّده من العقاب لمن عصاه، فسيفعله لا محالة لأنه لا يُبدَّل القول لديه، ولا يجوز عليه الخُلف في وعده ووعيده، ولا الكذب في الإخبار به، بخلاف ما ذهب إليه المرجئة"أهـ.
يقول الشهرستاني في "الملل والنِحل" (ج1، ص39) "اتفقت المعتزلة على أن المؤمن إذا خرج من الدنيا على طاعة وتوبة استحق الثواب والعوض والتفضيل، ومعنى آخر وراء الثواب، وإذا خرج من غير توبة عن كبيرة ارتكبها، استحق الخلود في النار، لكن يكون عقابه أخف من عقاب الكفار"أهـ. ويعنون أن أصحاب الكبائر من المسلمين سيُخلدون في جهنم، ولن يقبل ‏الله تعالى فيهم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. ووفقًا لتعبير المسعودي في "مروج الذهب" "الله لا يغفر لمرتكبي الكبائر إلا بالتوبة، وأنه الصادق في وعده ووعيده، ولا مبدل لكلماته". ويؤكد القاضي عبد الجبار في "الأصول الخمسة" (ص90) على عقيدة المعتزلة بتوعد الله عز وجل للفسّاق بالنار، فيورد بعضًا من آيات الوعيد كآية أكل مال اليتامى وغيرها، ثم يقول: "فقد دلّ بهذه الآيات أن كل من ارتكب الكبائر فهو من أهل النار إلّا أن يتوب، وأنهم يُخلَّدون فيها على ما أخبر الله عز وجل في كتابه"أهـ. وهنا يقترب المعتزلة كثيرًا من فكر الخوارج، ولا يُخفِّف تقاربهم غير اشتراط التوبة، فإن تاب الفاسق رجع إلى إيمانه، وإن مات مُصرِّاً على فسقه صار من الكافرين، واستحق ما توعده به الحق سبحانه من العذاب.
بينما أئمة المسلمين على أن آيات الوعيد لا يجوز حملها على ظاهرها، وقد فسّرها الخوارج من قبل على أنها تثبت كفر من كانت حاله حال المتوعّدين، فأفسدت عليهم دينهم، فخرجوا عن جموع المسلمين. يقول الشريف العوني –وهو سلفي- في "تكفير أهل الشهادتين" (ص118-119): "وأما التمسك بالظواهر: فقد بيّنا أنه ليس هو المنهج السديد الذي كان عليه السلف، وإن خالف فيه من خالف؛ لأن هذا التمسك مع خطأ منهجه التفقهي، فهو يُصحح مذهب الخوارج في التمسك بظواهر نصوص الوعيد، والتي أطلقت وصف الكفر على ما لا يُكفَّر به. ومن هذه الظواهر (ضعيفة الظهور) الظاهر المستنبط من قوله تعالى عن الصحابة رضي الله عنهم: ﴿يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ﴾ [الفتح: 29]، والذي حُكي عن الإمام مالك أنه استدل به على كفر من اغتاظ من الصحابة رضي الله عنهم، وهي جملة في كتاب الله تعالى لا يمكن أن تكون على ظاهر إطلاقها، فقد تغيّظ بعض الصحابة رضي الله عنهم على بعض، حتى تجالدوا بالسيوف، فلو كان هذا الإطلاق صحيحًا ومرادًا للزم من ذلك تكفير عامة الصحابة رضوان الله عليهم ممن وقع بينهم نزاع واختلاف، وصل حد القتال بينهم"أهـ، ثم مضى العوني إلى شرح أقوال العلماء في الآية.
والإمام الذهبي رغم كونه حنبلي العقيدة –والحنابلة أشد الناس على المعتزلة- لم يرتض تكفير بشر المريسي المعتزلي التكفير المُخرِج من الملة. يقول في ترجمته، في "السير" (ج10، ص202): "ومن كُفِّر ببدعة وإن جلَّت، ليس هو مثل الكافر الأصلي، ولا اليهودي والمجوسي. أبى الله أن يجعل من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر، وصام وصلّى وحجّ وزكّى، وإن ارتكب العظائم وضلّ وابتدع، كمن عاند الرسول، وعبد الوثن، ونبذ الشرائع وكفر، ولكن نبرأ إلى الله من البدع وأهلها"أهـ.
كما ينفي المعتزلة شفاعة النبي يوم القيامة لأصحاب الكبائر. يقول القاضي عبد الجبار في "الأصول الخمسة" (ص92-93): "نقول بالشفاعة ونؤمن بها، ولكنها للمؤمنين دون الفاسقين، لأن الله عزّ وجلّ قد أخبر أنه يُخلد الفاسقين في النار. وقال عزّ وجلّ: ‏‏‏﴿‏‏مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ‏﴾‏‏‏‏‏ [غافر:18]. وقال: ‏‏‏﴿وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ﴾‏‏‏‏ [آل عمران: 192]. وقال: ‏‏‏﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَىٰ﴾‏‏‏‏ [الأنبياء:28]. وكل ذلك يدل على أن الفاسق لا شفاعة له، وأنه صلى الله عليه وسلم يشفع للمؤمنين والتائبين، ليزيدهم الله بشفاعته رفعة ومنزلة في الجنة، ويكون ذلك كرامة لرسول الله صلى الله عليه وآله....."أهـ.
وكما نرى فقولهم في هذه المسألة هو تنطع زائد في تفسير الآيات وإخراجها عن معانيها المرادة بها، وتحكم على الله عز وجل، وتحديد لمن يرتضي الله تعالى الشفاعة فيهم وفقًا لما اقتضته عقولهم، وتنطعهم هذا لا يقل عن تنطع الخوارج عندما فسروا آية ‏‏‏﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾‏‏‏‏ [يوسف: 40]‏‏‏‏، ولا يقل عن تنطع السلفية عندما أثبتوا الجوارح، واعتبروا أن آية مثل ‏‏‏﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ [القصص: 88]، دليل على إثبات وجه لله، مع معرفتهم أن المقصود ذاته تعالى!
وأقول: العجيب ليس موقف الخوارج، بل ولا حتى السلفية إن كانوا حروفيين متمسكين بالظواهر، رافضين لفهم ما يرمي إليه الشارع الحكيم من الآيات، فهم متسقون مع منهجهم، بل العجيب هو موقف فلاسفة المعتزلة، المطالبين دومًا بإعمال العقل، والمؤولين الآيات التي ظاهرها الجوارح والجهة والانتقال ونحوه بما لا يليق بذات الله تعالى، عندما يرفضون التأويل في حق آيات الوعيد، وأرى منشأ هذا من روح خارجية كانت لدى المعتزلة، جعلتهم –ولا زالت تجعل كثيرًا ممن بقي منهم- لا يرون مسلمًا عداهم، فدفعتهم إلى تصديق آيات الوعيد وحملها على ظاهرها. ويحكي لنا التاريخ ما قاله القاضي عبد الجبار المعتزلي عن الوزير الصاحب بن عباد بعد موته، والصاحب هو الذي قرَّبه وولاَّه قضاء الريّ؛ إذ قال عبد الجبار أن الصاحب مات ولم يتب فهو لذلك لا يرى الترحم عليه. ذكرها ياقوت في معجم الأدباء (ج1، ص179)، قال: "وكان القاضي أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد قد قال: لا أرى الرحمة عليه لأنه مات من غير توبة ظهرت منه، فطُعِن عليه بذلك، ونُسِب إلى قلة الرعاية فيه"أهـ. وحُكي أنه تساءل، كيف يصلي عليه؟؛ لأنه شيعي!!، علمًا بأن الصاحب بن عباد جمع بين الاعتزال والتشيع، كونه وزيرًا لبني بويه، والذين اكتسب الشيعة كثيرًا من أصول المعتزلة وضموها لعقيدتهم في عهدهم، وله بيتان من الشعر يُنسبان إليه يقول فيهما:
لو شُق عن قلبي يُرى وسطه **** سطران قد خُطا بلا كاتبِ
العدل والتوحيد في جانب**** وحب أهل البيت في جانب
فالحقيقة التي تختفي وراء عباءة الفلسفة أنه مثلما يراك السلفي كافرًا لأنك لا تُجسِّم الله مثله، فالمعتزلي يراك في منزلة بين المنزلتين لا تستحق وصف الإيمان، فإن اعتقدت اعتقاده بتمامه قبل موتك ومتَّ عليه وإلا فأنت كافر، فالمعتزلة لديهم نظرة استعلائية وتفاخر بمعتقدهم الذي أقاموه بالعقل يجعلهم لا يرون مؤمنًا غيرهم.

يُتبع
ملحوظة: قائمة المراجع ستُضمَّن في الجزء الأخير من هذه السلسلة.‏
‏******************‏
في الحلقة الأولى من سلسلة المقالات تحدثنا عن نشأة المعتزلة، وعن التوحيد، وهو أهم ‏الأصول في أي عقيدة، ثم تطرقنا إلى ما يرتبط بأصل التوحيد عن مسألة "خلق القرآن".‏
وفي الحلقة الثانية عرضنا ثلاثة من الأصول العقائدية للمعتزلة (العدل- المنزلة بين ‏المنزلتين- الوعد والوعيد)‏.
نتناول اليوم بالشرح الأصل الخامس والأخير من أصول المعتزلة، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يرتبط به من اعتقاد في الإمامة.

5-   الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو الأصل الخامس للمعتزلة، ويكون باليد إن أمكن، وقد خالف في هذا الرأي أبو بكر الأصم فرأى حط السلاح أصلًا، وردّ على من ‏قال بالسيف.
وللقاضي عبد الجبار المعتزلي في "الأصول الخمسة" –المنسوب إليه- رأي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقترب كثيرًا من رأي الأشاعرة. يقول (ص71-72): "الأمر بالمعروف على ضربين: أحدهما واجب، وهو الأمر بالفرائض ضيَّعها المرء، والآخر نافلة، وهو الأمر بالنوافل إذا تركها المرء. فأما النهي عن المنكر فكله واجب، لأن المنكر كله قبيح، ويجب –إن أمكن- التوصل إلى ألا يقع المنكر بأسهل الأمور، ولا يتجاوز إلى ما فوقه؛ لأن الغرض أن لا يقع المنكر. وإن أمكن التوصل إلى أن يقع المعروف بالأمور السهلة فالإقدام على الصعب لا يحل. ولذلك قال الله عز وجل ‏﴿‏وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ‏‏﴾ [الحجرات:9]. وإنما يجب النهي عن المنكر إذا لم يغلب على الرأي أنه يؤدي إلى زيادة المعاصي وإقدامه على ضرر أبلغ منه. فإن غلب الرأي على ذلك لم يجز، والكف عنه أولى"أهـ. ويقول (ص97): "إن أمكنه النهي عن المنكر، ولم يخف على نفسه وماله، وظن أنه يُقبل منه، ويلزمه ذلك ويتركه، يكون عاصيًا، وكذلك الأمر بالمعروف، فأما إن خشي على نفسه فإنه لا يلزمه. وإن قام بعد ذلك بإظهار الحق وإنكار المنكر، فقد أحسن، وإن لم يكن ذلك واجبًا عليه"أهـ. وهو رأي لا يلزم منه الإفراط في العنف، ويجعل التدرج في الأمر والنهي من اللسان إلى اليد في حال ما لم يُفد اللسان، وأخيرًا إلى السيف، وليس العكس، أخذًا بآية الحجرات، لأن الله تعالى أمر بمحاولة الإصلاح أولًا ثم أمر بالمقاتلة إن لم تُجدِ محاولة الإصلاح، فهذا الرأي يُحكِّم العقل عند التطبيق، فلا يكون تطبيقًا أهوج يمكن أن تنشأ من ورائه فتن.

ولا يعتقد المعتزلة ‏بأن الإمامة شأن نص عليه الدين، وأصل من أصوله، بل يرون أن الحاكم يتم اختياره وتنصيبه وفقًا لما يتفق عليه رأي جماعة المسلمين، مع مراعاة اختيار الأفضل، فأنكروا شرط القُرشية في الإمامة عند أهل السُنة –عدا الحنفية-، كما أنكروا النظرية الاثنا عشرية عند الشيعة الإمامية.
ولتوضيح اعتقادهم في الإمامة، يقول فيصل عون في مقدمة تحقيقه لـ "الأصول الخمسة" للقاضي عبد الجبار المعتزلي (ص11): "إن الإمامة كما فهمها المعتزلة قضية مصلحية في المقام الأول. والإمام ليس إلا رجلًا عاديًا، لكنه برز في حقل العلم والعمل، وأنه قد تم اختياره كما يختار المصلون إمامًا لهم. هذا الإمام المختار لم يكن قبل اختياره إمامًا؛ ولن يظل إمامًا بعد انتهاء اختياره أو تنحيته. هذا ما ذهب إليه نفر غير قليل من المعتزلة، وعلى رأسهم، أبو عمران الرقّاش، وفضل الحدثي، وحسين الكوفي، وأبو بكر الأصم. فالإمامة ليست واجبة بالشرع كما ذهبت فرق كلامية كثيرة"أهـ. وكعادته يشذّ الأصم في آرائه، ويخالف ليعطي تصورًا فوضويًا في الإمامة، يقول الأصم: "إن الإمامة غير واجبة بالشرع وجوبًا لو امتنعت الأمة عن ذلك استحقت اللوم والعقاب؛ بل هي مبنية على معاملات الناس. فإن تعادلوا وتعاونوا وتناصروا على البر والتقوى، واشتغل كل واحد من المكلفين بواجبه وتكليفه، استغنوا عن الإمام ومتابعته. فإنّ كل واحد من المجتهدين مثل صاحبه في الدين والإسلام والعلم والاجتهاد. والناس كأسنان المشط، والناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة. فمن أين يلزم وجوب الطاعة لمن هو مثله"أهـ!!!
وأوجب المعتزلة على الرعية أن ينصحوا للإمام، فإن أبى الاستماع إلى النُصح، وتمادى في غيه، وجبت مقاومته وخلعه. فالمعتزلة قد يُفضي بهم هذا الأصل نظريًا إلى ‏الخروج على الحاكم الظالم إن ظنوا الغلبة عليه –ولكنهم لم يفعلوها يومًا-، وبالتالي يكون اعتقادهم في الإمامة فرع من اعتقادهم في حرية الإنسان ومسئوليته عن أفعاله، وفرع من أصلهم الخامس في إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد وسل السيوف، ولكن في حين أن المعتزلة لم يطبقوه، فقد طبقته فرقة أخرى وهم الزيدية، وصار أساس مذهبهم. وسبق أن تحدثنا عن عقيدتهم في مقال سابق.
ويدعي بعض المعتزلة الجُدد أن أسلافهم قد ثاروا وخرجوا على الحكام الظلمة، وينسبون لأنفسهم ثورات الزيدية، ومعروف أن الزيدية تتشابه الكثير من عقائدهم مع المعتزلة، ولكن تبقى الثورات منسوبة للزيدية، وليس للمعتزلة كفرقة منفصلة. فأما ما كان من ثورة زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فكعادة شيعة الكوفة كلّموه وعاهدوه وبايعوه، ثم نكصوا، فلم يذكر المؤرخون نصرة له لا من واصل بن عطاء المعتزلي، ولا من غيره، حتى قُتِل. ذكر الذهبي في "السير" (ج5، ص391) أنه لمَّا قُتِل زيد بن علي كان يحيى ولده بخراسان، فقال ‏يحيى: ‏
لكل قتيلٍ معشرٌ يطلبونه **** وليس لزيدٍ بالعراقين طالبُ
ثم قُتِل يحيى بن زيد سنة 125هـ بخُراسان زمن خلافة الفاسق الوليد بن يزيد.
وقُتِل محمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم، سنة 145هـ، وقد خرجا على المنصور العباسي، وهما أبناء عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وهو من مشايخ أبي حنيفة، خرج محمد بالمدينة، وخرج أخوه إبراهيم بالعراق. ويدعي المعتزلة أن عمرو بن عبيد المعتزلي قد آزر محمد النفس الزكية في ثورته ضد المنصور، بينما لم يذكر من أرَّخوا للحدث أي إشارة تثبت ذلك، بل جاء في طبقات المعتزلة ما يردّ ادعاءهم، ويثبت تميز علاقة ابن عبيد بالمنصور. ذُكِر في طبقاتهم (ص40) "وكان المنصور العباسي يبالغ في تعظيمه –أي عمرو بن عُبيد-، حتى قيل له: إن عَمْرًا خارج عليك، فقال: هو بريء، إن يخرج عليّ إذا وجد ثلاث مائة وبضع عشرة مثله، وذلك لا يكون"أهـ. وحتى لو صحّ أن عَمْرًا قد تقلبت علاقته بالمنصور، فقد كان خروج محمد النفس الزكية بالمدينة، وعمرو بن عبيد وقت ثورته ببغداد. فإن كان قد ذكر المؤرخون أن أحدًا ذا شأن قد ناصر النفس الزكية وأخيه؛ فهما الإمامان أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس، تغمدهما الله برحمته. وذكر الشهرستاني في "المِلل والنِحل" (ج1، ص157) أن سبب غضب المنصور على أبي حنيفة كان مناصرته زيد بن علي أو محمد النفس الزكية، ولمّا علِم المنصور ذلك حبسه. وهناك أخبار وردت في كتب المؤرخين عن مناصرة أبي حنيفة لزيد بن علي بماله، ومجاهرته بوجوب نُصرة إبراهيم. كما أوذي الإمام مالك بعد مقتل محمد النفس الزكية لأنه شجّع الناس بالمدينة على الخروج معه على المنصور، لإصراره على أن يُفتي بحديث "ليس على مستكره طلاق"، والقياس عليه أن ليس على الناس بيعة للمنصور؛ لأن بيعته كانت إكراهًا. لكن وإن لم يُثبت المؤرخون مؤازرة المعتزلة للنفس الزكية، فقد اختلف الأمر بالنسبة لإبراهيم أخيه، حيث أثبت الإمام الأشعري في "مقالات الإسلاميين" مناصرة المعتزلة له، وقال: "قُتِلت المعتزلة بين يديه".
أما الخليفة يزيد بن الوليد بن عبد الملك بن مروان. الملقب بيزيد الناقص، لكونه  نقص ‏عطاء الناس، فقد خرج على ابن عمه الفاسق الوليد بن يزيد، وتم له الأمر، واستولى على دار ‏الخلافة في سنة ست وعشرين ومائة. ويذكره المعتزلة بخير، وإن كانوا لا يعدونه منهم، بينما ‏يعده خصومهم منهم. يقول الذهبي في ترجمته في "السير" (ج5، ص376) "هو عند المعتزلة ‏أفضل من عمر بن عبد العزيز للمذهب"، أي لكونه أقرب لمذهبهم، لكن الذهبي لا يوضح حقيقة ‏معتقده، وهل آمن بأصول المعتزلة كلها، أم أنه كان على خطى معبد الجهني؛ قدريًا، يؤكد على ‏الحرية الإنسانية، ويرفض جبرية الأمويين كالمعتزلة، لكنه لم يكن معتزليًا خالصًا. يروي الذهبي ‏عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم "سمعت الشافعي يقول: لمّا ولي يزيد بن الوليد دعا الناس إلى ‏القدر، وحملهم عليه، وقرّب غيلان القدري أو قال: أصحاب غيلان". والمعنِي هو غيلان ‏الدمشقي، وهو معدود في المعتزلة الأوائل، وكان هشام بن عبد الملك قد قتله في خلافته بعد وفاة ‏عمر بن عبد العزيز، وكان غيلان عونًا لعمر بن عبد العزيز في رد الأموال التي نهبها بنو أمية ‏من أموال المسلمين.‏
وعلى كلٍ، فتلك الثورات أو الدعوات الفردية لرفض الظلم التي أُشير لدور للمعتزلة أو ‏القدرية فيها كانت كلها –على قلتها- في العهد الأموي، وبداية العهد العباسي، ولم يُشر لهم في ‏أي حدث مشابه في فترات لاحقة من تاريخ المسلمين. ولكن اعتقاد المعتزلة في الأمر بالمعروف ‏والنهي عن المنكر لا يتعلق فقط بمقاتلة الإمام الجائر. يقول الإمام الأشعري في "مقالات الإسلاميين" (ج2، ص157) عن اعتقاد المعتزلة في الخروج على السلطان: "قالت المعتزلة: إذا كنا جماعة، وكان الغالب عندنا أنّا نكفي مخالفينا، عقدنا للإمام، ونهضنا فقتلنا السلطان وأزلناه، وأخذنا الناس بالانقياد لقولنا، فإن دخلوا في قولنا الذي هو التوحيد، وفي قولنا بالقدر، وإلا قتلناهم، وأوجبوا على الناس الخروج على السلطان على الإمكان والقدرة إذا أمكنهم ذلك وقدروا عليه"أهـ. ومعنى قولهم أن الفلاسفة إن ملكوا فسيُكرِهون الناس على معتقدهم وإلا يكون مصيرهم القتل!
والأمر بالمعروف هو أصل من ‏أصول السلفية أيضًا، ولكن مع اختلاف، فالسلفية لا تُجيز الخروج على ‏الحاكم، كما أن السلفية يجعلون من أنفسهم محتسبين على عقائد باقي فرق المسلمين ‏باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فأغرقوا العوام في الفتن، وهو ما لم تفعل المعتزلة مثله ربما لافتقادهم الظهير الشعبي، حيث يظهر من رأي بعض أئمتهم فيه استعدادهم لقتل من يرفضون اعتقاداتهم، وأرى أن محنة خلق القرآن التي تمت في عهد الخلفاء المأمون والمعتصم والواثق بإرغام العلماء والقضاة على الإقرار بصحة عقيدتهم بأن القرآن مخلوق هو أسوأ احتساب على عقائد العباد حدث في تاريخ الإسلام.‏
وقد سبق وشرحت الدور المحوري للمعتزلة في محنة خلق القرآن في مقال "هل المعتزلة أبرياء من محنة خلق القرآن؟"
يُتبع
ملحوظة: قائمة المراجع ستُضمَّن في الجزء الأخير من هذه السلسلة.
******************
في الحلقة الأولى من سلسلة المقالات تحدثنا عن نشأة المعتزلة، وعن التوحيد، وهو أهم ‏‏الأصول في أي عقيدة، ثم تطرقنا إلى ما يرتبط بأصل التوحيد في مسألة "خلق القرآن".‏
وفي الحلقة الثانية عرضنا ثلاثة من الأصول العقائدية للمعتزلة (العدل- المنزلة بين ‏‏المنزلتين- الوعد والوعيد)‏.‏
وفي الحلقة الثالثة تناولنا الأصل الخامس والأخير من أصول المعتزلة، وهو الأمر بالمعروف ‏والنهي عن المنكر، وما يرتبط به من اعتقاد في الإمامة.‏
نتناول اليوم بالشرح بعض العقائد الفرعية المتعلقة بالأصول الأساسية، وأهمها نفي رؤية المؤمنين الله تعالى في الآخرة.

نفي الرؤية البصرية لله تعالى في الآخرة
إضافة للأصول العقائدية الخمسة التي عرضناها توجد للمعتزلة بعض العقائد الفرعية المتعلقة بالأصول الأساسية، كنفيهم رؤية المؤمنين الله عز وجل بالأبصار في الآخرة، ‏فخالفوا بذلك عموم أهل السُنة من الأشاعرة والماتريدية والسلفية.
قالت المعتزلة: لأن في إثبات الرؤية إثبات الجهة لله وهو منزّه عن الجهة ‏والمكان، وفسروا كلمة ‏‏‏﴿‏‏‏نَاظِرَةٌ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ في الآية الكريمة ‏‏‏﴿‏‏‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏‏‏‏‏ [القيامة:22-23]، بأنها من ‏الانتظار وليس النظر، أي أنها لا تعني بالضرورة الرؤية المادية بالأعين بل قد تعني استشراف وانتظار المتوقع ‏كقولنا (إن غدًا لناظره قريب)، وهو تفسير قاله مجاهد بن جبر.
يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي في "الأصول الخمسة" –المنسوب إليه- (ص74): "الله تعالى قد قال: ‏‏‏﴿‏‏‏لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ [الأنعام:103]. وإدراك الأبصار هو رؤية البصر، فيجب أن لا يُرى به، ولأن البصر لا يُرى به إلا ما كان في جهة دون جهة، وتعالى الله عن ذلك، لأن ذلك علامة الحدوث. فيجب أن لا يُرى بالأبصار، وإنما يُرى بالقلوب والمعرفة والعلم. وقوله عزّ وجلّ ‏‏‏﴿‏‏‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ [القيامة:22-23]، تأويلها أن تنتظر ثواب الله وتنتظر نعمه، على ما رُوي عن المفسرين حتى يكون موافقًا لدليل العقل والكتاب"أهـ.
بينما اعتمد أهل السُنة الأشاعرة والماتريدية في إثبات الرؤية على جملة من الأحاديث التي تثبتها، وكذا على أساس ما عُرف في لسان العرب عن مادة "نظر". أما السلفية فأثبتوا الرؤية بالأساس استنادًا إلى الأخبار الواردة في ذلك.
ذكر الإمام القرطبي الأشعري في تفسير الآية (ج21، ص427-428) "‏‏‏﴿‏‏‏نَاظِرَةٌ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ أي: تنظر إلى ربها، على هذا جمهور العلماء. وفي الباب حديث صُهيب خرّجه مسلم، وكان ابن عمر يقول: أكرم أهل الجنة على الله من ينظر إلى وجهه غُدْوة وعَشية، وروى يزيد النحوي عن عكرمة قال: تنظر إلى ربها نظرًا. وكان الحسن يقول: نضرت وجوههم ونظروا إلى ربهم. وقيل: إن النظر هنا انتظار ما لهم عند الله من الثواب. ورُوي عن ابن عمر ومجاهد. وقال عكرمة: تنتظر أمر ربها. حكاه الماوردي عن ابن عمر وعكرمة أيضًا، وليس معروفًا إلا عن مجاهد وحده. واحتجوا بقوله تعالى: ‏‏‏﴿‏‏‏لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏. وهذا القول ضعيف جدًا، خارج عن مقتضى ظاهر الآية والأخبار –يعني الأحاديث التي أكدت الرؤية البصرية-". ثم روى جُملة من هذه الأخبار.
ثم يفنِّد القرطبي لغويًا سبب ضعف قول مجاهد الذي أخذت به المعتزلة، ينقل عن الثعلبي النحوي المشهور قوله (ص430): "وقول مجاهد إنها بمعنى: تنتظر الثواب من ربها ولا يراه شيء من خلقه، فتأويل مدخول؛ لأن العرب إذا أرادت بالنظر الانتظار، قالوا: نَظْرتُه، كما قال تعالى: ‏‏‏﴿هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ﴾‏‏‏‏ [الزخرف: 66]، و ‏‏‏﴿‏‏هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ﴾‏‏‏‏ [الأعراف:53]، و ‏‏‏﴿‏‏‏مَا يَنظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ [يس: 49]، وإذا أرادت به التفكر والتدبر قالوا: نظرتُ فيه. فأما إذا كان النظر مقرونًا بذكر إلى، وذكر الوجه، فلا يكون إلا بمعنى الرؤية والعيان"أهـ. ثم ينقل القرطبي عن الأزهري قوله: "إن قول مجاهد: تنتظر ثواب ربها خطأ؛ لأنه لا يُقال: نظر إلى كذا، بمعنى الانتظار، وإنّ قول القائل: نظرت إلى فلان، ليس إلا رؤية عين، كذلك تقوله العرب؛ لأنهم يقولون: نظرت إليه: إذا أرادوا نظر العين، فإذا أرادوا الانتظار، قالوا: نَظَرْتُه، قال:
فإنكما إن تَنْظُراني ساعة **** من الدهر تنفعني لدى أم جُندُبِ
لمّا أراد الانتظار قال: تنظراني، ولم يقل تنظران إليَّ، وإذا أرادوا نظر العين قالوا: نظرت إليه، قال:
نظرتُ إليها والنجوم كأنها **** مصابيح رُهبان تشب لِقُفَّال
وقال آخر:
نظرتُ إليها بالمحصَّب من مِنى **** ولي نظرٌ لولا التحرجُ عارمُ
وقال آخر:
إني إليكِ لِمّا وعدتِ لناظرٌ **** نظر الفقير إلى الغني الموسر
أي: إني أنظر إليكِ بذل، لأن نظر الذل والخضوع أرق لقلب المسؤول..........."أهـ.

كما أثبت الأشاعرة الرؤية كلاميًا؛ فعلى خلاف المعتزلة الذين أنكروا أن الله تعالى يُرى يوم القيامة أثبتها الأشعري، وعِلَّة الرؤية عنده هي الوجود، والباري تعالى موجود، فيصح أن يُرى. كما يذكر الشهرستاني في "المِلل والنِحل" (ج1، ص87). "قال الأشعري: ولا يجوز أن يتعلق به الرؤية على جهة ومكان وصورة ومقابلة واتصال شعاع، أو على سبيل انطباع، فإن ذلك مستحيل".
بالرجوع إلى تفسير الطبري نجد أن الإمام أبا جعفر شيخ المفسرين يؤول النظر في الآية الكريمة ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 77] فيقول: ﴿وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾، يقول: ولا يعطف عليهم بخير، مقتًا من الله لهم، كقول القائل لآخر: "انظُر إليّ نَظر الله إليك"، بمعنى: تعطّف عليّ تعطّف الله عليك بخير ورحمة، وكما يقال للرجل: "لا سمع الله لك دعاءَك"، يُراد: لا استجاب الله لك، والله لا يخفى عليه خافية"أهـ. فلم يفسر الطبري عدم نظر الله إلى من هذا حالهم بحجبه ذاته الشريفة عنهم، فلا يرونه الرؤية المادية، بل أوَّلها بمنع تعطفه ورحمته لهم.
ولكن الإمام الطبري يعود في تفسيره لسورة القيامة، في تفسير قوله تعالى: ‏‏‏﴿‏‏‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ [القيامة:22-23]، بأن يُرجِّح الرؤية البصرية للمؤمنين ربهم، ويدرأ تعارضها مع آية ‏‏‏﴿‏‏‏لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ [الأنعام:103]. يقول الطبري: "اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم: معنى ذلك: أنها تنظر إلى ربها. ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن منصور الطوسي، وإبراهيم بن سعيد الجوهري قالا: ثنا عليّ بن الحسن بن شقيق، قال: ثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحويّ، عن عكرِمة قال: (تنظر إلى ربها نظرا). حدثتا محمد بن عليّ بن الحسن بن شقيق، قال: سمعت أبي يقول: أخبرني الحسين بن واقد في قوله: ‏‏‏﴿‏‏‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ من النعيم ‏‏‏﴿‏‏‏إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ قال: أخبرني يزيد النحوي، عن عكرِمة وإسماعيل بن أبي خالد، وأشياخ من أهل الكوفة، قال: تنظر إلى ربها نظرا. حدثنا محمد بن إسماعيل البخاري، قال: ثنا آدم قال: ثنا المبارك عن الحسن، في قوله: ‏‏‏﴿‏‏‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ قال: حسنة، ‏‏‏﴿‏‏‏إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏. قال: تنظر إلى الخالق، وحُقَّ لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق. حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا أبو عرفجة، عن عطية العوفي، في قوله: ‏‏‏﴿‏‏‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ قال: هم ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته، وبصره محيط بهم، فذلك قوله: ‏‏‏﴿‏‏‏لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏. وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها تنتظر الثواب من ربها"أهـ. ثم ذكر الطبري أسانيد مختلفة للقول الثاني بأن المعنى هو انتظار الثواب وليس النظر، تعود كلها إلى مجاهد بن جبر. ثم أردف الطبري قائلًا: "وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب القول الذي ذكرناه عن الحسن وعكرِمة، من أن معنى ذلك تنظر إلى خالقها، وبذلك جاء الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"أهـ.
وألاحظ هنا أن العلة التي جعلت الطبري يُزكي القول ‏الأول المثبت للرؤية هو تضافره مع الأحاديث التي وردت في شأن الرؤية البصرية، فلم يطعن في صحة تفسير مجاهد بن جبر لغويًا، على العكس من مسلك القرطبي؛ إذ اعتمد الأخير إضافة إلى الأخبار على ‏الطعن اللغوي في صحة هذا التأويل وأنه مما يُخالف المعروف في لسان العرب. ومسلك الطبري هذا هو مسلك السلفية في الاعتماد على الأخبار وحدها في إثبات الرؤية.

وأقول، وبالله التوفيق أن التوقف في أمر الرؤية في الجنة أفضل، فكلا الفريقين الأشاعرة والمعتزلة أخطأ في شيء مما استدل به:
·        أخطأ الأشاعرة في عِلّة الرؤية، فالعِلّة عندهم هي الوجود، فادّعوا أن كل موجود يُرى، وعلتهم غير صحيحة، فهناك موجودات لا تُرى.
·        أخطأ الأشاعرة –ومنهم القرطبي، ونقل عن نحويين كما عرضنا- في التأكيد على أن العرب إن ذكرت "نظرت إلى" فإنما تريد الرؤية البصرية فقط، فهذا غير صحيح، وفي القرآن الكريم ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [آل عمران: 77]، وقد فسّر الإمام الطبري ﴿وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ﴾ بمعنى "لا يعطف عليهم بخير". ويقول حسان بن ثابت في يوم بدر: وجوهٌ يوم بدر ناظرات إلى الرحمن....، فهل نظر المسلمون إلى الرحمن هنا بمعنى الرؤية البصرية؟!، وبالتالي فالآية ﴿‏‏‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ [القيامة:22-23] غير قطعية الدلالة، وهي أهم آية في الاستدلال على صحة الرؤية.
·        ‏‏‏السياق في الآية الكريمة ﴿‏‏‏وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ ۝ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ [القيامة:22-23] يصف حال المؤمنين يوم القيامة، وليس في الجنة، فليست دليلًا على رؤية المؤمنين ربهم في الجنة. وباقي الآيات التي أثبت الأشاعرة بها الرؤية كلها ظنية الدلالة.
·        أما عن الأحاديث التي أثبت بها الأشاعرة –وكذا السلفية- الرؤية، فبها الكثير من العلل، والإمام الترمذي في سننه، يذكر في (حديث 3278- 5/394) نقاش ابن عباس وكعب الأحبار في الحج، والذي ذكر فيه كعب الأحبار أنه "رأى محمد ربه مرتين، وكلّم موسى ربه مرتين"، فالاعتقاد في إمكانية رؤية الله تعالى حسيًا قد تكون من الإسرائيليات.
·        أخطأ المعتزلة في الاستدلال على نفي الرؤية يوم القيامة بآية نفي إدراكه تعالى بالأبصار ‏‏‏﴿‏‏‏لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ‏‏‏‏﴾‏‏‏‏ [الأنعام:103]، بينما كان شرح الأشاعرة للآية أقرب لما توصل له العلم الحديث بشأن معنى الإدراك. وقد أفاض الإمام القرطبي الأشعري في شرح الآية في الجزء الثامن من تفسيره، ووضّح أقوال أهل العلم في عدم تعارضها مع آية القيامة التي يثبت بها أهل السُنة الرؤية يوم القيامة. فسّر الإدراك بمعنى "الإحاطة والتحديد" وأنه تعالى "لا يبلغ كُنْه حقيقته". وقال البيجوري في شرحه على جوهرة التوحيد (ص193) "الحاصل أنه تعالى يُرى من غير تكيف بكيفية من الكيفيات المعتبرة في رؤية الأجسام، ومن غير إحاطة، بل يحار العبد في العظمة والجلال حتى لا يعرف اسمه، ولا يشعر بمن حوله من الخلائق، فإن العقل يعجز هنالك عن الفهم، ويتلاشى الكل في جنب عظمته تعالى"أهـ. وأزيد فأقول: الآية لا تصح علميًا في موضع الاستدلال؛ ذلك أن الرؤية من الإحساس، والإحساس عملية منفصلة تسبق عملية الإدراك، ونفي الإدراك لا يستلزم بالضرورة نفي الإحساس؛ فليس كل ما يُحس يُدرك. يُعرف الإدراك على أنه: عملية تنظيم المدخلات الحسية في الخبرات، بحيث يصبح لها معنى. والمفترض أننا عندما نستقبل معلومات حسية جديدة، تتغير مدركاتنا وفقًا لها. كما أنه يمكن ألا ينتج أي مدرك من بعض المحسوسات لنقص خبرة الشخص، وماذا تراها خبرة البشر عن الله سبحانه وتعالى حتى يدركوه إن صحّ أنهم يرونه يوم القيامة؟!
وأكرر فأقول: التوقف في أمر الرؤية في الجنة أوفق لعدم قطعية أدلة كلا الطرفين.

ومن عقائد المعتزلة نفيهم عقيدة الإقعاد وتنزيههم الله تعالى عن الجلوس على العرش، فوافقوا بذلك ‏الأشاعرة وعموم المسلمين وخالفوا السلفية، في رفض معنى القعود والمماسة الذي يلزم منه التجسيم. ويؤولون الاستواء على معنى الاستيلاء.
كما يعتقد جمهور المعتزلة أن الله تعالى بكل مكان، بمعنى أنه مدبر لكل مكان، وأن تدبيره في كل مكان.

والمعتزلة ينفون كرامات الأولياء ويعتبرونها خرافات؛ فعقيدة المعتزلة في خلق العالم؛ أنهم يثبتون لله الخلق الأول فقط، ثم أنه تعالى أودع القوانين في الكون وتركه يعمل مع استمرار لطفه به، ومن هنا جاء إنكارهم للكرامات كونها خرق للقوانين والنواميس الحاكمة للكون، فهي تتعارض مع ديمومة الأسباب.
ومسألة خلق العالم وتركه يعمل وحده هي فكرة قديمة تتنافى مع كثير من الثوابت الدينية كالإيمان بأسماء الله الخلّاق، والقيوم، وإثبات الله تعالى لنفسه في آيات القرآن أن ليس فقط خلق السموات والأرض تم بيديه، أي بشكل مباشر منه، بل والأنعام والبشر أيضًا خُلقت الخلق الأول بيديه، وليس بقوانين أودعها في الطبيعة. وتلك الفكرة هي صلب ما يُسمى في عالمنا المعاصر بنظرية التطور الموجه، والتي يروج لها بعض المنتسبين للإسلام، علمًا بأن بعضهم من أشد المؤمنين بالكرامات، وهذا عدم اتساق في المنهج والفكر.

أما موقف المعتزلة من الصحابة، فمختلف فيه، فرغم عدم طعنهم في استخلاف الخلفاء الراشدين الثلاثة الأُول، فقد تكلموا في فريقيّ يوم الجمل، وتفسيقهم. وبين أئمة المعتزلة اختلاف كبير في الحكم على الصحابة بوجه عام. ولا معنى عندهم لمصطلح عدالة الصحابة.

يُتبع
ملحوظة: قائمة المراجع ستُضمَّن في الجزء الأخير من هذه السلسلة.
******************
في الحلقة الأولى من سلسلة المقالات تحدثنا عن نشأة المعتزلة، وعن التوحيد، وهو أهم ‏‏الأصول في أي عقيدة، ثم تطرقنا إلى ما يرتبط بأصل التوحيد في مسألة "خلق القرآن".‏
وفي الحلقة الثانية عرضنا ثلاثة من الأصول العقائدية للمعتزلة (العدل- المنزلة بين ‏‏المنزلتين- الوعد والوعيد)‏.‏
وفي الحلقة الثالثة تناولنا الأصل الخامس والأخير من أصول المعتزلة، وهو الأمر بالمعروف ‏والنهي عن المنكر، وما يرتبط به من اعتقاد في الإمامة.‏
وفي الحلقة الرابعة تناولنا بالشرح بعض العقائد الفرعية المتعلقة بالأصول الأساسية، وأهمها رؤية المؤمنين الله تعالى بالأبصار.
ونختم اليوم بتقييم إجمالي لتلك الفرقة.

المعتزلة في الميزان
يقول النشار في "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" (ج1، ص429): "ولقد لاحظ الأستاذ أحمد أمين بحق أن نشأة المعتزلة كانت إسلامية بحتة، وأنه ليس فيها أثر مسيحي على الإطلاق. ويذهب نيبرج في مقدمته المستفيضة لكتاب الانتصار إلى أن المعتزلة إنما قامت للدفاع عن التنزيه تجاه الأفكار التجسيمية التي خرجت إلى الإسلام عن الثنوية، وأن المناقشات الأولى بين المعتزلة وأعدائها إنما كانت بينهم وبين الفرس الثنوية. لقد كانوا أشد المسلمين دفاعًا عن الإسلام وحمية ضد مخالفيه في ذلك الزمان. فقد قام المعتزلة بصوغ العقائد الإسلامية على طريقتهم العقلية، مقابلة للثنوية الآخذين بالتجسيم، ثم ما لبثوا أن اشتبكوا مع كل الملل والنِحل من حولهم، وبخاصة اليهودية والمسيحية"أهـ.
ويعني هذا أن المعتزلة وإن كانت قد نشأت كفرقة بسبب ذلك الخلاف العقدي الذي حدث حول توصيف مرتكب الكبيرة من المسلمين، لكن كانت استمراريتها لأسباب ثقافية بسبب توسع الإمبراطورية الإسلامية، واختلاط ثقافات كثيرة بثقافة المسلمين، وبرز هذا في المباحث التي أدخلوا البحث فيها في عقيدة المسلمين كالجسم والجوهر والعرض. وحتى عقيدتهم الأشهر التي  يُعرفون بها؛ وأعني خلق القرآن، جاءت في المشهور ردًا على القس النصراني يوحنا الدمشقي، في كتابه "الهرطقة المائة"، حول تفسيره لوصف القرآن للمسيح عليه السلام بأنه "كلمة الله".
ويمكنني القول: أن كل مخالفات المعتزلة لاعتقاد أهل السُنة من الأشاعرة والماتريدية مصدرها محاولاتهم التنزيهية لله عزّ وجلّ، ولكن جانبهم الصواب لعدم جمعهم بين العقل والنقل، وتعويلهم الزائد على العقل، وللأسف كانت رؤيتهم قاصرة. اعتقدوا أن صفات الله عين ذاته، لأنها لو انفصلت عنه شاركته في القدم ‏ولشاركته في الإلهية بزعمهم، فلم يميزوا العرض من الجوهر. وكان اعتقادهم في القرآن أنه كلام الله ووحيه، أنزله الله على نبيه بحيث يتقدم بعضه على بعض، وما هذا سبيله لا يجوز أن يكون قديمًا؛ إذ القديم هو ما لا يتقدمه غيره، فكان هذا من أهم أسباب قولهم بأنه مخلوق مُحدَث وليس قديمًا، لأنهم افترضوا التضاد بين القضيتين، ولم يميزوا أن الإنزال دلالة وليست المدلول، كما لم يدركوا أن حدوث الكلام يعني حدوث العلم، والقول بعلم حادث يلزم منه القول بجهل سابق، وحاشاه تعالى، كما يلزم منه حدوث الإرادة. دافع المعتزلة عن حرية الإنسان ومسؤوليته في خلق أفعاله، وإلا لما كان من العدل الإلهي محاسبته عليها، كما أرادوا تنزيهه سبحانه عن فعل الشر حتى لا يشابه الخلق، فجعلوه عاجزًا عن خلق أفعال عباده، وجعلوا البشر معه شركاء، واعتقدوا أن العقل مستقل بالتحسين والتقبيح، فجعلوا عقولهم القاصرة حاكمة عليه سبحانه، وأوجبوا عليه تعالى حقوقًا لعباده، فوجب عليه بزعمهم إثابة الطائع وعقاب العاصي، وحكموا عليه سبحانه بألّا يغفر للفاسق المسلم، وأن يخلِّده في النار؛ لأنه لو غفر له لخرج من الحكمة، ونزَّهوه تعالى عن المكان والحيز والتشبه بالمخلوقات فأنكروا الرؤية بالأبصار يوم القيامة، وإن لم ينكروا الرؤية القلبية.
وقد نسب الإمام ابن حزم في "الفِصل" إلى المعتزلة من طوام وعظائم الاعتقادات في ذات الله ‏ما تجعلها لو صحّت أقرب إلى عقائد الملاحدة، ولكنها كلها أقوال مرسلة، أكثر منها ابن حزم عن كل الفرق، لتصديقه كل ما كان يصله من أمر الفرق الكثيرة بالمشرق، ولم يكن بوسعه التحري عن صحتها وهو بالأندلس.‏
وكثيرًا ما كان يُطلِق الحنابلة من قديم أسماء أخرى على المعتزلة، من باب التشنيع والانتقاص، ولا زالت السلفية المعاصرة تستخدمها، فيصفونهم بـ (القدرية) لاتفاقهم مع معبد الجُهني في نفي القدر ورفض الجبر. ويصفونهم بـ (الجهمية) و (المعطِّلة) لنفيهم وجود صفات منفصلة عن ذات الله، وإن كان اعتقادهم في الصفات لا يُطابق اعتقاد جهم بن صفوان، الذي نفى الصفات الأزلية، وزاد عن المعتزلة بأشياء، كما كان جبريًا خالصًا، بينما قالت المعتزلة أن صفاته تعالى هي عين ذاته. بل وكثيرًا ما يضم السلفية معبد الجهني، وجهم بن صفوان، وكذا الجعد بن درهم، وغيرهم ممن يصفونهم بالقدرية والمعطِّلة إلى رؤوس المعتزلة الأوائل. كما تصفهم السلفية بـ (الخوارج) لحكمهم على الفاسق مرتكب الكبيرة بالخلود في النار، وإجازتهم الخروج على الحاكم الظالم؛ ولمّا كان المعتزلة لم يُطبقوا الأصل الخامس من عقيدتهم (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر) على عكس الخوارج، فقد زاد السلفية وأسموهم (مخانيث الخوارج).
ونظرًا لأن المعتزلة كانوا في عداء شديد مع الحروفيين ممن يُسمون أنفسهم أهل الحديث، ولم يكن لهم نزاع مع أهل الرأي، فأغلب المعتزلة يأخذون بآراء أبي حنيفة الفقهية، وإن كان بعضهم شافعية، وأشهرهم القاضي عبد الجبار.
وكلمة الحق التي يجب أن تُقال أن هذه الفرقة من المسلمين رغم عدم اتفاق أغلب ‏المسلمين معهم إلا أنهم كانوا يحاججون مخالفيهم بالعقل، ولم يحاولوا إثارة ‏الفتن لأن علاقتهم بالعوام والدهماء الذين هم شرارة حدوث الفتن علاقة منتفية، فما علاقة العوام ‏بالفلسفة وعلوم الكلام وما مقدار فهمهم لها حتى يقاتلوا من أجلها، لكن مع ذلك يذكر لنا التاريخ ‏تأثيرهم في محنة من أشد المحن والفتن في تاريخ الإسلام، وهي محنة خلق القرآن في عهد ‏المأمون ثم المعتصم والواثق، حيث لم تحدث الفتنة من الدهماء هذه المرة بل من رأس المسلمين وخليفتهم، فهل كان المعتزلة ذئاب في ثياب حملان ادّعوا احترام العقل، بينما كانوا لا يختلفون عن خصومهم في تكفير وتبديع مخالفيهم، فلمّا واتتهم الفرصة لفرض معتقداتهم لم يتهاونوا؟!، ويمكن الرجوع إلى مقالي "هل المعتزلة أبرياء من محنة خلق القرآن؟" للمزيد حول هذا الموضوع.

ويبقى أمامنا تساؤل وحيد، وهو عن الزمن الذي سادت فيه هذه العقيدة. وفقًا لفيصل عون في مقدمة تحقيقه لـ "الأصول الخمسة" للقاضي عبد الجبار (ص12) يقول: "المعتزلة في فترة من الفترات (فيما بين 120هـ- 350هـ) كان فكرها هو السائد، أو لنقل الفكر الرسمي للدولة العباسية"أهـ، وهو قول متوسع يُراد به أن يُرادَف بين الحرية الفكرية والعلمية في العصر العباسي الذهبي وبين عقيدة المعتزلة المتأثرة بالفلسفة والمروجة لقيمة حرية الإنسان، ولكن القارئ للتاريخ سيدرك أن حركة الترجمة والانفتاح الفكري على الثقافات الأخرى كانت قد بدأت أواخر العهد الأموي، وازدهرت في العصر العباسي الذهبي –قبل تولي المأمون- على يد أبي جعفر المنصور وهارون الرشيد، ثم انتكست الترجمة في العصر العباسي الثاني والذي يتزامن مع دخول البويهيين بغداد، ولولا حرية الفكر ما افترق المسلمون إلى كل تلك الفِرق وعاشت سويًا، فكان المعتزلة ناتجًا من نتاج ذلك الانفتاح الفكري وليس سببًا له.
وقد تقلبت أحوال المعتزلة طيلة الفترة التي تمتد لحوالي أربعة قرون التي يؤرخ لها فيها، فنجدها نشأت أواخر العصر الأموي، وازدهرت أوائل العصر العباسي، وكان عمرو بن عبيد على صلة بالمنصور، ثم انتكس الاعتزال في عهد الرشيد لكراهيته لعلم الكلام، ولم يبلغ الاعتزال أوجه إلا في عصر المأمون –الذي أخذ الاعتزال عن بشر المريسي- ثم المعتصم والواثق، وثلاثتهم اعتنقوا تلك العقيدة وعملوا على نشرها، فازدهر الاعتزال في الزمن الذي ملأ فيه المعتزلة بلاط الخلفاء، وعلى رأسهم ابن أبي دؤاد المعتزلي، ثم انتكس الاعتزال بدءًا من عهد المتوكل الذي أمر بالمنع من الخوض في علم الكلام والمنع من تعلمه، ثم عاد ونشط الاعتزال زمن البويهيين –بينما كانت الترجمة قد انتكست-، واعتنق الشيعة أغلب أفكار الاعتزال زمن البويهيين وتداخلت معهم، وكان البويهيون شيعة، وكان هذا التحول في عقيدة الشيعة مصحوبًا بالانخلاع من التجسيم الذي كان واضحًا في عقيدة كثير من فرق الشيعة الإمامية الأوائل. ولعل استدعاء الوزير الصاحب بن عباد وزير بني بويه، للقاضي عبد الجبار المعتزلي وتوليته إياه قضاء الريّ، كان جزءًا من هذا الاندماج الشيعي في عقيدة المعتزلة، ثم انحلّت المعتزلة كفرقة بعد دخول السلاجقة بغداد وسيادة العقيدة الأشعرية ثم عودة العقيدة الحنبلية في صورتها الإصلاحية المفوضة المؤولة الخالية من التجسيم على يد ابن الجوزي. وكان عداء الحنابلة للمعتزلة عداءً باسم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ كونهم يعدونهم من أهل البدع والأهواء فاضطهدوهم، أما الأشاعرة فكان عداؤهم لهم فكريًا، حيث ناظروهم وأبطلوا حججهم. وقلّت أعداد المعتزلة وضاعت كتبهم حتى لم يعد يُسمع عنهم، ولم يكد يبقى من الاعتزال إلا ما تبنته الشيعة الإمامية وأخذوه عنهم في عقائدهم، وكذا ما شابهتهم فيه الزيدية ولم يبق منهم كفرقة منفصلة إلا أعداد قليلة للغاية. كما كانت عقيدة المعتزلة عبر تاريخها محدودة مكانيًا بالعراق وبلاد فارس وما وراءها.
لكن وحتى في عصر المأمون والمعتصم والواثق الذي ظهرت فيه عقيدة المعتزلة لم يرتفع شأن المعتزلة عند العوام، والمعتزلة لم يُعلِّموا الناس عقيدتهم عندما تأَّمروا، بل حاولوا فرضها بالعنف والإرهاب، ولعل المحنة التي حدثت لبعض أئمة أهل السُنة، وعلى رأسهم الإمام أحمد بن حنبل، وامتناعه عن الإقرار بمعتقد المعتزلة في خلق القرآن، كانت سببًا رئيسيًا في عدم قبول العوام عقيدة المعتزلة على عكس ما أراد ملوكهم. بينما يرجع المعتزلة الجدد انحسار عقيدة المعتزلة إلى تأليب علماء الأشاعرة والسلفية العوام على المعتزلة، وتكفيرهم إياهم.

المراجع

القرآن الكريم
أحمد بن عبدالحليم ‏‏بن تيمية تقي الدين الحراني. تحقيق: ‏محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا. (1987). الفتاوى الكبرى. بيروت: دار الكتب العلمية.
أحمد بن يحيى بن المرتضىى. تحقيق: سُوسنة ديفَلد-فِلْزَر. (1961). طبقات المعتزلة. لبنان: بيروت.
إسماعيل بن عمر بن كثير أبو الفداء القرشي الدمشقي. تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي. (1997). البداية والنهاية. القاهرة: دار هجر.‏
البرهان الباجوري. تحقيق: علي جمعة محمد. (2002). حاشية الإمام البيجوري على جوهرة التوحيد (تحفة المريد على جوهرة التوحيد). القاهرة: دار السلام.
النعمان بن ثابت أبو حنيفة الكوفي. (د. ت). الفقه الأكبر. حيدر آباد: مطبعة مجلس دائرة المعارف النظامية.
حاتم بن عارف العوني (2016). تكفير أهل الشهادتين "موانعه ومناطاته- دراسة تأصيلية"- الطبعة الثانية. بيروت: مركز نماء للبحوث والدراسات.
عبد الجبار بن أحمد الأسد أبادي. تحقيق: فيصل بدير عون. (1998). الأصول الخمسة. الكويت: مطبوعات جامعة الكويت.
‏عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم. تحقيق: محمد صُبيح. فتوح مصر وأخبارها. القاهرة: مؤسسة دار التعاون للطبع والنشر.
عبدالرحمن بن علي بن محمد  أبو الفرج ابن الجوزي.‏ تحقيق: محمد عبد القادر عطا ومصطفى عبد القادر عطا. (1995). ‏المنتظم في تاريخ الملوك والأمم. ط2. بيروت: دار الكتب العلمية.
عبد الوهّاب بن علي بن عبد الكافي تاج الدين السبكي. تحقيق: محمود محمد الطناحي وعبد الفتاح محمد الحلو. (1993). طبقات الشافعية الكبرى. ط2. القاهرة: دار هجر.‏
علي بن أحمد بن حزم أبو محمد الظاهري الأندلسي‏. تحقيق محمد إبراهيم نصر وعبد الرحمن عميرة  الفصل في الملل والأهواء والنحل. بيروت: دار الجيل.
‏ علي بن إسماعيل أبو الحسن الأشعري. تحقيق: محمد محي الدين عبدالحميد. ‏(1990). مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين. بيروت: المكتبة العصرية.
علي سامي النشار. (د.ت) . نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام. ط9. القاهرة: دار المعارف.
علي بن محمد بن محمد الشيباني أبو الحسن ا‏بن الأثير الجزري. تحقيق: عبد الله القاضي ومحمد يوسف الدقاق. (1987). الكامل في التاريخ.  ‏بيروت: دار الكتب العلمية.‏
محمد بن أحمد بن أبي بكر أبو عبد الله القرطبي. تحقيق: عبد الله بن عبد المحسن التركي. (2006). الجامع لأحكام القرآن "والمبين لما تضمنه من السُنة وآي الفرقان. بيروت: مؤسسة الرسالة.
محمد بن أحمد بن عبد الرحمن أبو الحسين الملطي. تحقيق: محمد زاهد الكوثري. (2007). التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع. القاهرة: المكتبة الأزهرية للتراث.
محمد بن أحمد بن عثمان شمس الدين أبو عبد الله الذهبي. تحقيق: شعيب الأرنؤوط وإبراهيم الزيبق. (1996)‏. سير أعلام النبلاء. ط 11.‏ بيروت: مؤسسة الرسالة.
محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري. ترقيم وترتيب: محمد فؤاد عبد الباقي. تقديم: أحمد محمد شاكر (2010). الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله ‏صلى الله عليه وسلم وسننه وأيَّامه المشهور بـصحيح البخاري. القاهرة: ألفا للنشر والتوزيع.
محمد بن إسماعيل أبو عبد الله البخاري. تحقيق: عبد الرحمن عميرة. (1398هـ). خلق أفعال العباد. ط2. جدة: دار عكاظ.
محمد بن جرير أبو جعفر الطبري. تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم. (1967). تاريخ الطبري "تاريخ الرسل والملوك". ط2. مصر: دار المعارف.
محمد بن جرير أبو جعفر الطبري. تحقيق: أحمد شاكر. (2000). تفسير الطبري. بيروت: مؤسسة الرسالة.
محمد بن عبد الكريم أبو الفتح الشهرستاني. تحقيق: أحمد فهمي محمد. (1992). المِلل والنِحل. ط2. بيروت: دار الكتب العلمية.
محمد بن عيسى أبو عيسى الترمذي. تحقيق: أحمد محمد شاكر. (د.ت). سُنن الترمذي "الجامع المختصر من السنن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة الصحيح والمعلول وما عليه العمل". بيروت: دار إحياء التراث العربي.

ياقوت بن عبد الله شهاب الدين الحموي الرومي. تحقيق: إحسان عباس. (1993). معجم الأدباء "إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب". بيروت: دار الغرب الإسلامي.