الاثنين، 29 يناير 2018

130-شذوذ السلفية في إثباتهم الجوارح والجهة والانتقال ونحوه لله عزّ وجلّ


شذوذ السلفية في إثباتهم
الجوارح والجهة والانتقال ونحوه لله عزّ وجلّ
د. منى أبو بكر زيتون

مُستل من كتابي "التطرف الديني الإسلامي.. نشأته وأسبابه وآثاره وطرق علاجه"

على المدونة الثلاثاء 6 فبراير 2018

روابط المقال مجزأ على صحيفة المثقف

الثلاثاء 30 أبريل 2019

http://www.almothaqaf.com/a/b6/936510

الاثنين 6 مايو 2019

http://www.almothaqaf.com/a/b6/936662

الأربعاء 8 مايو 2019

http://www.almothaqaf.com/a/b6/936694

يذكر د.علي سامي النشار في "نشأة الفكر الفلسفي في الإسلام" (ج1، ص ص 235-236) أن "التشبيه والتجسيم كان قد بدأ ينتشر في عصر أبي حنيفة –المتوفى سنة 150هـ-، ورأى أبو حنيفة مقاتل بن سليمان ينشره في خراسان، فأعلن: "الله لا يشبه شيئًا من خلقه، ولا يشبهه شيء من خلقه" و "هو شيء لا كالأشياء". فيكون أبو حنيفة إذن أول من أطلق على الله الشيئية، وهو يستند في هذا إلى الآية ‏﴿‏قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً‏‏﴾‏‏ [الأنعام : 19]، ولكنه ينزهه فيقول "وهو لا كالأشياء" مستندًا على الآية ‏﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ‏‏﴾‏‏ [الشورى : 11]. وهو يقصد بشيء أنه تعالى موجود بذاته وصفاته، إلا أنه ليس كالأشياء الموجودة ذاتًا وصفة، أو بمعنى آخر إنه شيء لا تدركه الأفهام أو العقول"أهـ.

ومن أشهر المأثورات عن الإمام علي بن أبي طالب أنه قال: "توحيده ألاّ تتوهمه". وعن الإمام أحمد بن حنبل قوله: "مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك". وعن يحيى بن معاذ قوله: "ما تصور في الأوهام فهو بخلافه". يقول الفخر الرازي في "أساس التقديس" (ص ص24-25) "ثبت أن الوهم والخيال قاصران عن معرفة أفعال الله سبحانه وتعالى وصفاته. ومع ذلك فإنا نثبت الأفعال والصفات على مخالفة الوهم والخيال، وقد ثبت أن معرفة كُنه الذات أعلى وأجلّ وأغمض من معرفة كُنه الصفات، ولمّا عزلنا الوهم والخيال في معرفة الصفات والأفعال، فلأن نعزلهما في معرفة الذات أولى وأحرى"أهـ. سبحانه لا تبلغه الأوهام ولا ‏تدركه الأفهام ولا يشبه الأنام، الله أكبر من كل ما يمكن أن نتوهم.

وذكر الإمام تقي الدين الحصني في "دفع شبه من شبّه وتمرد" (ص12) "آيات المتشابه وأحاديثه لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، والقرآن والسنة طافحان بتنزيهه عز وجل، ومن أسمائه القدوس، وفي ذلك المبالغة في التنزيه ونفي خيال التشبيه، وكذا في قوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ﴾ [الإخلاص: 1] الخ، لما فيها من نفي الجنسية والبعضية، وغير ذلك مما فيه مبالغة في تنزيهه سبحانه وتعالى"أهـ.

ويلخص الفخر الرازي في "أساس التقديس" (ص236) بأن "حاصل مذهب السلف أن هذه المتشابهات يجب القطع فيها بأن مراد الله تعالى منها شيء غير ظواهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الله تعالى، ولا يجوز الخوض في تفسيرها. وقال جمهور المتكلمين: بل يجب الخوض في تأويل تلك المتشابهات"أهـ.

وهنا يجب أن نقرر أول أسباب الإشكالية مع من يُسمُّون أنفسهم بالسلفية، فالخلاف في أصل التوحيد، ومنشأه الرئيسي هو ما يجب في باب الصفات الخبرية، هل نأخذ بـ (ظاهر المعنى) مع ما فيه من تشبيه وتجسيم، أم بـ (ظاهر اللفظ ونفوض المعنى) أي نمررها بلفظها كما جاءت بلا كيف، فلا نخوض في المعنى منعًا للتشبيه، أم نرفض ظاهر المعنى ولا نفوض فيه، بل (نؤول المعنى) وفقًا للمعروف في لسان العرب بما يليق بتنزيهه تعالى، ونفي كل ما يوهم بمماثلته لخلقه؟ والتأويل هو صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى آخر يحتمله.

فرفضهم للتأويل وتمسكهم بظواهر (معاني) نصوص الكتاب والسنة لتقرير اعتقادهم في الله ادعاءً أن هذا ما كان يفعله السلف، هو من خلطهم الذي يقعون فيه لمرادفتهم بين التوقف عند ظاهر اللفظ (تفويض المعنى بلا كيف) الذي كان فعل كثير من السلف، وبين الأخذ بـ (ظاهر المعنى) أي (إثبات المعنى والتفويض في الكيف)، وهو فعلهم المخالف لفعل السلف؛ ويُسمّون ما عدا ذلك تعطيلًا للصفات! وبدلًا من أن يكونوا هم من يقيسون الله على خلقه مما جعلهم يثبتون معانٍ يلزم منها التشبيه، يدّعون أن من عطّل إثبات تلك الصفات المزعومة، فعل ذلك لكونه يقيس الخالق على المخلوق، فمنع إثباتها! ويتذرعون بقول الإمام مالك لمّا سُئِل عن الاستواء "الاستواء معلوم، والكيف مجهول" بأنه إنما عنى بمعلوم أي معلوم عند العوام معناه الظاهر، وليس كما يفهم الأشاعرة، معلوم لأن الله أخبرنا به بلفظه، فنفوض المعنى بلا كيف.

والثابت عن السلف أنهم كانوا يتوقفون ويفوضون في المعنى، فيقولون "لا معنى، من غير تفسير، الظاهر غير مُراد،....."، خاصة في بدايات ظهور الإسلام وقبل التوسع في الفتوحات، وكذا كان الحال عند من تلاهم من التابعين عندما يصعب عليهم فهم المعنى، فكان هذا اختيارهم، لا يأخذون بظاهر المعنى ولا يؤولون، وهو تفويض تنزيه، حتى لا يقعوا في التشبيه، وفرق بيِّن بينه وبين تجسيم السلفية. وربما لم يكن يصعب عليهم المعنى إلا في مواضع قليلة لأنهم كانوا أقحاح في اللغة قبل أن تضعف العربية على الألسنة بعد الفتوحات واختلاطهم بالشعوب المفتوحة.

قال أبو عيسى الترمذي تعقيبًا على حديث (2557)، كتاب (صفة الجنة)، باب (ما جاء في خلود أهل الجنة وأهل النار): "وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم روايات كثيرة مثل هذا ما يذكر فيه أمر الرؤية أن الناس ‏يرون ربهم وذكر القدم وما أشبه هذه الأشياء، والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك و‏ابن عيينة و وكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء، ثم قالوا تُروى هذه الأحاديث ونؤمن بها ولا يُقال ‏كيف؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تُروى هذه الأشياء كما جاءت، ويُؤمن بها، ولا تُفسر ولا ‏تتوهم، ولا يُقال كيف، وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه"أهـ.

وأورد السبكي في "طبقات الشافعية" (ج5، ص185) قول إمام الحرمين أبي المعالي الجويني في آخر عمره: "لقد قرأت خمسين ألفًا في خمسين ألفًا، ثم خليت أهل الإسلام بإسلامهم فيها وعلومهم الظاهرة وركبت البحر الخضم، وغصت في الذي نهى أهل الإسلام عنها. كل ذلك في طلب الحق. وكنت أهرب في سالف الدهر من التقليد. والآن قد رجعت عن الكل إلى كلمة الحق (عليكم بدين العجائز)، فإن لم يدركني الحق بلطف بره فأموت على دين العجائز، وتختم عاقبة أمري عند الرحيل على نزهة أهل الحق وكلمة الإخلاص لا إله إلا الله، فالويل لابن الجويني" يريد نفسه. قال الحصني في "دفع شُبه من شبّه وتمرد" (ص29): قال أبو الوفاء بن عقيل: "معنى دين العجائز: أن المدققين بالغوا في البحث والنظر، ولم يشهدوا ما يشفي العقل من التعليل، فوقفوا مع المراسم، واستطرحوا وقالوا لا ندري""أهـ.

ومما أُثر عن عمر بن عبد العزيز قوله: انتهى علم الراسخين بتأويل القرآن إلى أن قالوا: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: 7]. فكان هذا فعل الصحابة وكثير من السلف، "التفويض في المتشابه من الصفات مع تنزيه الله وعدم التأويل"، وهو لا يعني الأخذ بظاهر معنى النص كما يدلس السلفية، لأن الأخذ بظاهر المعنى هو تفسير فيه قطع بالمعنى شأنه في ذلك شأن التأويل، مع ما في الأخذ بالظاهر من تجسيم وتبعيض وتوهم لله عز وجل، وهو ما يمتنع في حقه تعالى. والنصوص الثابتة عن الأئمة التي تثبت أن مذهبهم التفويض كثيرة، وقلَّ من كان مثل ابن عباس يكاد لا يُفوض في شيء ويؤول دائمًا، وكانت مزيّة في حقه، وكان يُسمى ترجمان القرآن، بدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم له، أن يفقهه في الدين ويعلمه التأويل.

ويقرر الشهرستاني في "المِلل والنِحل" (ج1، ص80-81) أن التفويض كان مذهب السلف، فلا تأويل ولا تشبيه بأخذ ظاهر المعنى. يقول: "وأما السلف الذين لم يتعرضوا للتأويل، ولا استهدفوا للتشبيه، فمنهم مالك بن أنس رضي الله عنه؛ إذ قال: "الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ومثل أحمد بن حنبل، وسُفيان، وداود الأصبهاني، ومن تابعهم، حتى انتهى الزمان، إلى عبد الله بن سعيد الكلابي، وأبي العباس القلانسي، الحارث بين أسد المحاسبي، وهؤلاء كانوا من جملة السلف إلا أنهم باشروا علم الكلام، وأيدوا عقائد السلف بحجج كلامية، وبراهين أصولية، وصنّف بعضهم ودرس بعضهم، حتى جرى بين أبي الحسن الأشعري وبين أستاذه مناظرة في مسألة من مسائل الصلاح والأصلح، فتخاصما، وانحاز الأشعري إلى هذه الطائفة، فأيد مقالتهم بمناهج كلامية، وصار ذلك مذهبًا لأهل السُنة والجماعة، وانتقلت سمة الصفاتية إلى الأشعرية"أهـ.

فأئمة الإسلام بعد القرون الأولى شاع بينهم التأويل والبحث عن المعنى المراد بالنص وليس ظاهره غير المراد؛ كما أنهم رأوا التأويل ضرورة في بعض الآيات، فلا يمكن التوقف عند ظاهر اللفظ ولا قبول ظاهر المعنى، بل ينبغي التأويل تنزيهًا لله تعالى. ومن تلك الآيات ‏﴿‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ‏‏﴾‏‏ [القصص:88]، و ﴿فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ  لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا﴾ [الأعراف:51] و ‏﴿‏نَسُواْ اللهَ فَنَسِيَهُم‏‏﴾‏‏ [التوبة:67]، فلا بد من تأويل الوجه بالذات، وتأويل النسيان بالترك. تركوا العمل فتركهم الله في العذاب المبين، لأن النسيان نقص، لا يجوز في حق الله.

ولعل أعجب ما في السلفية أنهم يقرون بضرورة التأويل في آيات، كما يقرون بثبوت التأويل عن السلف في بعض الآيات كآية ‏﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏‏﴾‏‏ [الفجر: 22]، التي ثبت فيها التأويل عن الإمام أحمد بن حنبل، ولكنهم مع ذلك يُصرون على الأخذ بظاهر المعنى، فيقولون: هل يلزم من القول بالتأويل نفي ظاهر المعنى؟! فتأول الإمام أحمد مجيئ الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، بمجيئ ثوابه للمؤمنين وعذابه للكافرين، ولا ينفي هذا مجيئه حقيقة ومعه جنته وناره! والأمر هنا أشبه بمن يقول: "هديل قمر"، وبعد أن يتأول قمر بالجمال، يصر على إجراء المعنى على ظاهره، وأنها أيضًا قمر حقيقة كالقمر الذي في السماء! والأدهى أنهم لا يفهمون عند المناظرة أن عليهم البرهنة أن ظاهر المعنى مراد كما يدّعون، والرد على الإشكالات المطروحة حوله.

والسلفية كذلك يكثرون من الخلط، ولا يفهمون المقصود من قول بعض الأئمة "الإجراء على الظاهر"، فيفهمون منه أنهم أرادوا ظاهر المعنى، بينما من يقرأ النص كاملًا يتحقق من أن مرادهم هو التوقف عند ظاهر اللفظ وإمراره، وأن المعنى الظاهر الموهم بالتشبيه غير مراد عندهم، ولدى السلفية كذلك انتقائية عالية في اختيار النصوص، فيقتصّون أجزاءً لا توضح ما أراده الإمام، ويبحثون عن شواذ الروايات التي تثبت تجسيمهم ويهملون ما عداها، فالأخذ بروايات واستبعاد أخرى، مبني عندهم على ما يوافق عقيدتهم، وليس على التحقيق العلمي، بل حتى أنهم يرفضون منهج الجمع بين الروايات إن كان الأخذ به سيؤدي لنتيجة تعاكس عقيدتهم، إضافة إلى خلط فهومهم المستقاة من عقيدتهم بالنصوص ليتوهموا موافقة النصوص لهم. ومن أمثلة اجتزاءاتهم المشهورة التي يروجونها بين أتباعهم، مقولة للإمام أبي حنيفة تُنسب إليه، يقول فيها: "من قال لا أعرف الله في السماء هو أم في الأرض فقد كفر"، ويتوقفون عند هذا الحد من النقل لأنه يُعزز عقيدتهم، ولو أنصفوا لأكملوا قول الإمام، والمقولة بتمامها كالآتي: "من قال لا أعرف الله في السماء هو أم في الأرض فقد كفر، لأن هذا يوهم أن لله مكانًا، ومن توهم أن لله مكانًا فهو مشِّبه"أهـ. وشتّان بين الروايتين.

ولم يكتفوا بذم التفويض، ورفض نسبته إلى السلف، ومعارضتهم التأويل، بادعاء أن ألفاظ القرآن مفهومة بلسان العرب، ويعنون مفهومة بظاهر معانيها أي الجوارح وكل ما لا يليق بالحق سبحانه وتعالى مما أجازوا نسبته إلى الله، ويرون أن ليس من بأس في أن نصف الله بما وصف به نفسه، ولكن هل وصف الله نفسه حقًا بما ادّعى السلفية؟! وزعيمهم في هذا الخلط، ابن تيمية، الذي على عادته في تبديع المخالفين، اتهمهم بأن قولهم من شر أقوال أهل البدع والإلحاد! وكلام ابن تيمية وتهوكاته في باب الصفات مما أكثر فيه وبالغ، ولعله من أشنع مخالفاته العقدية، على كثرة ما له من مخالفات، والتي سنتعرض لها عند عرض فتنته.

بينما ينقل الكوثري في حاشية تحقيقه كتاب "دفع شبهة التشبيه" لابن الجوزي (ص 61) عن الإمام المجتهد ابن دقيق العيد في "شرح المشكاة" قوله: "والحاصل أن السلف والخلف مؤولون لإجماعهم على صرف اللفظ عن ظاهره، ولكن تأويل السلف إجمالي لتفويضهم إلى الله تعالى، وتأويل الخلف تفصيلي لاضطرارهم إليه لكثرة المبتدعين".

جاء في "جوهرة التوحيد" للإمام اللقّاني المالكي:

وكل نصٍ أوهم التشبيها ***** أوِّلْه أو فوّض و رُمْ تنزيها

يقول البيجوري في "حاشيته على جوهرة التوحيد" (ص ص156-157) في شرح البيت "قوله (أوِّلْه): أي احمله على خلاف ظاهره مع بيان المعنى المراد، فالمراد: أوّله تأويلًا تفصيليًا بأن يكون فيه بيان المعنى المراد كما هو مذهب الخلف، وهم من كانوا بعد الخمسمائة، وقيل: من بعد القرون الثلاثة. وقوله (أو فوِّض) أي: بعد التأويل الإجمالي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره، فبعد هذا التأويل فوِّض المراد من النص الموهم إليه تعالى على طريقة السلف، وهم من كانوا قبل الخمسمائة، وقيل القرون الثلاثة: الصحابة والتابعون وأتباع التابعين. وطريقة الخلف أعلم وأحكم، لما فيها من مزيد الإيضاح والرد على الخصوم، وهي الأرجح، ولذلك قدمها المصنف، وطريقة السلف أسلم لما فيها من السلامة من تعيين معنى قد يكون غير مراد له تعالى. وقوله: (ورمْ تنزيها) أي: واقصد تنزيهًا له تعالى عما لا يليق به مع تفويض علم المعنى المراد، فظهر مما قرّرناه اتفاق السلف والخلف على التأويل الإجمالي، لأنهم يصرفون المُوهم عن ظاهره المحال عليه تعالى، لكنهم اختلفوا بعد ذلك في تعيين المراد من ذلك النقص وعدم التعيين. والحاصل أنه إذا ورد في القرآن أو السُنة ما يُشعر بإثبات الجهة أو الجسمية أو الصورة أو الجوارح، اتفق أهل الحق –يعني الأشاعرة- وغيرهم ما عدا المجسمة والمشبهة على تأويل ذلك لوجوب تنزيهه تعالى عما دلّ عليه ما ذُكر بحسب ظاهره"أهـ.

فمع فتوح البلدان وفناء جيل الصحابة، وزيادة أعداد المسلمين، وزيادة طرح الأسئلة، لم يكن هناك بُدّ من الرد عليها عن طريق تأويل النصوص وفق قواعد اللغة لتنزيه الله تعالى؛ باستبعاد المعنى الراجح الصريح لتلك النصوص لامتناعه في حق الله تعالى، وإعطاء تفسيرات للنصوص باستخدام المعاني المرجوحة لغويًا لتلك الألفاظ.

ويناقش الفخر الرازي في "أساس التقديس" (ص ص220-221) مسألة تعارض البراهين العقلية مع الظواهر النقلية. يقول: "اعلم أن الدلائل القطعية العقلية إذا قامت على ثبوت شيء، ثم وجدنا أدلة نقلية يُشعر ظاهرها بخلاف ذلك. فهناك لا يخلو الحال من أحد أمور أربعة: إما أن يُصدق مقتضى العقل والنقل، فيلزم تصديق النقيضين وهو محال، وإما أن نبطلهما فيلزم تكذيب النقيضين، وهو محال، وإما أن تكذب الظواهر النقلية، وتصدق الظواهر العقلية، وإما أن تصدق الظواهر النقلية وتكذب الطواهر العقلية، وذلك باطل، لأنه لا يمكننا أن نعرف صحة الظواهر النقلية إلا إذا عرفنا بالدلائل العقلية إثبات الصانع وصفاته وكيفية دلالة المعجزة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وظهور المعجزات على يد محمد صلى الله عليه وسلم، ولو صار القدح في الدلائل العقلية القطعية، صار العقل متهمًا، غير مقبول القول، ولو كان كذلك لخرج عن أن يكون مقبول القول في هذه الأصول. وإذا لم تثبت هذه الأصول، خرجت الدلائل النقلية عن كونها مفيدة. نثبت: أن القدح في العقل لتصحيح النقل يفضي إلى القدح في العقل والنقل معًا، وإنه باطل. ولما بطلت الأقسام الأربعة لم يبق إلا أن يُقطع بمقتضى الدلائل العقلية القاطعة: بأن هذه الدلائل النقلية إما أن يُقال إنها غير صحيحة، أو يُقال إنها صحيحة، إلا أن المراد منها غير ظواهرها، ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا على سبيل التبرع بذكر تلك التأويلات على التفصيل. وإن لم تجوز التأويل فوضنا العلم بها إلى الله تعالى. فهذا هو القانون الكلي المرجوع إليه في جميع المتشابهات"أهـ.

وهذا القانون منصوص عليه عند الأشاعرة، وليس المقصود به أحكام الله تعالى التي نقبل بها وإن لم تفهمها عقولنا، بل المقصود آيات القرآن وبعض الأحاديث، والتي نقبل المجاز فيها عند تعارض الظاهر مع ما يليق به تعالى ويمتنع في حقه. وقد ثبت عن الإمام علي أنه قال لابن عباس عندما بعثه لمناظرة الخوارج: "ناظرهم بالسُنة فإن القرآن حمال أوجه"، وكذا ما قاله الإمام ‎‎الشافعي‎ ‎عن‎ ‎القرآن: "وأن منه ظاهرًا يُعرف في سياقه أنه يراد به غير ‏ظاهره"، وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم لابن عباس بأن يعلمه الله التأويل. والتأويل في حقيقته هو بحث عن المعنى الذي أراده الله تعالى، مع اليقين أن هذا المعنى لا يعلمه إلا هو سبحانه ‏﴿‏وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ ۗ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ‏...‏‏﴾‏‏ [آل عمران: 7]. وأقول: إن هذه الآية حجة على القائلين بضرورة الأخذ بظواهر النصوص في بعض الآيات التي يمتنع فيها الظاهر تنزيهًا لله، لأن الله قطع بأن لها تأويلًا، وكون أن لها تأويلًا دليل بأن المقصود بها غير ظاهرها. فإما أن تتوقف فيها، أو تُحاول تأويل معناها، على ألا تؤكد ثقتك بذاك التأويل، فتذكر ما أفهمك الله إياه، ثم تقول: والله أعلم.

وأقول أيضًا: إن السلفية بإصرارهم على الأخذ بظاهر المعنى ينفون عن القرآن بيانه وهو سبب إعجازه، فالحمل على الظاهر أشبه بالترجمة الحرفية التي لا توضح المعنى وتفتقد إلى البلاغة. وقد روى البيهقي في كتاب "الأسماء والصفات" (ص325) عن ابن عباس أنه سُئل عن قوله تبارك وتعالى: ‏﴿‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ‏‏﴾‏‏ [القلم: 42]‏‏، قال: "إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه من الشعر فإنه ديوان العرب". ومثله قاله ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه": إن التأويل الشائع  مثله في كلام العرب. وصنّف الشريف الرضى كتابًا رائعًا جمع فيه مجازات القرآن. ولكن السلفية لا يعقلون أن بالقرآن مجازات، فرفضوها لتستقيم عقيدتهم المجسمة المشبهة.

وصدق الشاعر إذ قال:

كم من عائبٍ قولًا صحيحًا *** وآفته من الفهمِ السقيمِ

وقد مر بنا أن الخوارج قد حملوا آيات الوعيد على ظاهر المعنى، ففسروها على أنها تثبت كفر من كانت حاله حال المتوعدين، وأفسدت عليهم دينهم، أما عن النصوص التي استدل السلفية بظاهر معناها على وجود الجوارح والتحيز والانتقال ونحوه لله تعالى، وحاشاه، فقد جمع د/سيف العصري نقولًا عن أكثر من مائة من أكابر أئمة المسلمين تقطع بأن مذهبهم فيها هو التفويض وليس التفسير بظاهر المعنى، وصنّفها في كتاب "القول التمام بإثبات التفويض مذهبًا للسلف الكرام"، ومنهم أكابر أئمة الحنابلة كابن الجوزي وابن قُدامة المقدسي وابن هُبيرة والجيلاني وابن رجب. ولست هنا بصدد نقل بعض من هذه النقول من أمهات الكتب، بل يعنيني أن أُثبت أن التأويل الذي يتحدث عنه السلفية باعتباره ابتداعًا قد ثبت أيضًا عن كثير من كبار أئمة المسلمين، على اختلاف عقائدهم (أشاعرة- معتزلة- شيعة) ومذاهبهم (شافعية- مالكية- حنفية- حنبلية- ظاهرية- جعفرية)، بل وثبت التأويل عن بعض الصحابة فيما نُقِل عنهم. ولنتتبع تفسيراتهم لبعض من تلك الآيات والأحاديث الموهمة بالتشبيه والتجسيم. على سبيل المثال:

لابن حزم الظاهري في "الفِصل" (ج2/باب الكلام في الوجه واليد والعين والقدم والتنزل والعزة والرحمة والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع، ص ص347-348) ‏كلام مطول في تأويل الألفاظ الدالة على جوارح ورفض إدخالها في الأسماء والصفات. قال رحمه الله فيما يخص نفي الوجه: "قال الله تعالى: ‏‏﴿‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾‏‏ [الرحمن:27]، فذهب المجسمة إلى الاحتجاج بهذا في مذهبهم. وقال الآخرون: وجه الله تعالى إنما يُراد به: الله عز و جل. قال أبو محمد: وهذا هو الحق الذي قام البرهان بصحته، لما أبطلنا من القول بالتجسيم. وقال أبو الهذيل: وجه الله هو الله. قال أبو محمد: وهذا لا ينبغي أن يُطلق، لأنه تسمية، وتسمية الله تعالى لا تجوز إلا بنص، ولكنا نقول: وجه الله ليس هو غير الله تعالى، ولا نرجع منه إلى شيء سوى الله تعالى. برهان ذلك قول الله حاكيًا عمن رضي قوله: ‏﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ‏‏﴾‏‏ [الإنسان: 9]. فصح يقينًا أنهم لم يقصدوا غير الله تعالى به، وقوله عز وجل: ‏﴿‏فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ‏‏﴾‏‏ [البقرة: 115]. إنما معناه: فثم الله تعالى بعلمه وقبوله لمن توجه إليه"أهـ.

وقال الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تفسير الآية: ‏﴿‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ‏‏﴾‏‏ [القصص:88] "والوجه ههنا عبارة عن ذات الشيء ونفسه، وعلى هذا قوله تعالى في السورة التي يذكر فيها الرحمن سبحانه ‏﴿‏وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾‏‏ [الرحمن:27] أي ويبقى ذات ربك. ومن الدليل على ذلك؛ الرفع في قوله: ‏﴿‏ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾‏‏ لأنه صفة للوجه الذي هو الذات، ولو كان الوجه ههنا بمعنى العضو المخصوص على ما ظنّه الجهّال، لكان وجه الكلام أن يكون "وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ"، فيكون "ذي" صفة للجملة لا صفة للوجه الذي هو التخاطيط المخصوصة، كما يقول القائل: "رأيت وجه الأمير ذي الطول والإنعام"، ولا يقول "ذا الطول والإنعام"، من صفات جملته لا من صفات وجهه. ويوضح ذلك قوله تعالى في هذه السورة ‏﴿‏تبارك اسم رَبِّكَ ذي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ﴾‏‏ [الرحمن:78]، لمّا كان الاسم غير المسمى وصف سبحانه المضاف إليه، ولمّا كان الوجه في الآية المتقدمة هو النفس والذات، قال تعالى: ‏﴿‏ذُو الْجَلالِ﴾‏‏، ولم يقل "ذي الجلال والإكرام". ويقولون عين الشيء ونفس الشيء على هذا النحو. وقد قيل في ذلك وجه آخر، وهو أن يُراد بالوجه ههنا ما قُصد الله به من العمل الصالح والمتجر الرابح على طريق القُربة وطلب الزلفة، وعلى ذلك قول الشاعر: أستغفرُ الله ذنبًا لستُ محصيه*** ربُ العباد إليه الوجه والعمل. أي إليه تعالى قصد الفعل الذي يُستنزل به فضله، ودرجات عفوه، فأعلمنا سبحانه أن كل شيء هالك إلا وجه دينه الذي يُوصَل إليه منه، ويُستزلف عنده به، ويُجعل وسيلًا إلى رضوانه وسببًا لغفرانه"أهـ.

وأقول: إن من طرائف تلك الفرقة أنهم حين يضطرون إلى التأويل ينسبونه إلى الظاهر! فبالرجوع إلى موقع ابن باز لمعرفة رأيه في تفسير الآية ‏‏﴿‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏‏﴾ [القصص:88].‏‏ ‏قال: "على ظاهرها ‏﴿‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏‏﴾‏‏ كل الناس يموتون، إلا الرب جل وعلا فإنه الحي الذي لا يموت، كما قال سبحانه: ﴿‏وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ‏‏﴾، وقال في معنى قول الله تعالى في سورة الرحمن: ‏﴿‏كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ۝ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ‏‏﴾‏‏ [الرحمن: 26-27] الظاهر مكان الأرض، وكل ما في الأرض هو فاني. الجبال تُدك، والأشجار والأحجار تذهب، والجن والإنس يموتون، والحيوانات تموت. ما يبقى شيء إلا الله سبحانه وتعالى"أهـ.

وأقول: فهل تفسير وجهه بأنه هو ذاته سبحانه من ظاهر النص -كما يدعي ابن باز- أم من التأويل؟! وبما استدللتم على وجود الوجه إذًا وأصررتم أنه من صفاته سبحانه وكفّرتم من أنكروه؟! قال الكوثري في تحقيقه لكتاب "الأسماء والصفات" للبيهقي (ص 287): "هذه الآية ‏‏﴿‏كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ‏‏﴾‏‏ [القصص:88]، نص على أن المراد بالوجه الذات، لا صفة من الصفات، ولا عضو من الأعضاء". ويقول الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تعليقه على آية [الرحمن:27] (ص302) "لو كان الكلام محمولًا على ظاهره لكان فاسدًا مستحيلًا على قولنا وقول المخالفين، لأنه لا أحد يقول من المشبِّهة والمجسِّمة الذين يثبتون لله سبحانه أبعاضًا مؤلفة وأعضاءً مصرَّفة أن وجه الله تعالى يبقى وسائره يبطل ويفنى، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا"أهـ.

وكذا لم يثبت السلف، ومن تابعهم من كبار أئمة المسلمين، اليد والعين كجوارح إلى الله، كما فعلت السلفية أخذًا بظاهر معاني النصوص، يقول ابن حزم في الفِصل (ج2/باب الكلام في الوجه واليد والعين والقدم والتنزل والعزة ‏والرحمة والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع، ص ص348-349): "‏وقال تعالى: ‏﴿يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏‏﴾‏‏ [الفتح: 10]‏‏، وقال تعالى: ﴿‏لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ‏‏﴾‏‏ [ص:75]، وقال تعالى: ‏﴿‏مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا‏‏﴾‏‏ [يس: 71]‏‏، وقال: ‏﴿‏بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ‏‏﴾ ‏[المائدة: 64]‏‏‏، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المقسطون عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين)، فذهبت المجسمة إلى ما ذكرنا مما قد سلف من بطلان قولهم فيه،...، بل نقول إن هذا إخبار عن الله عز وجل، لا يُرجع من ذكر اليد إلى شيء سواه تعالى. ونقر أن لله تعالى -كما قال- يدًا ويدين وأيدي، وعينًا وأعينًا كما قال عز وجل: ‏﴿‏وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي‏‏﴾‏‏، ‏[طه: 39]، وقال تعالى: ‏﴿‏فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏‏﴾‏‏ ‏[الطور: 48]. ولا يجوز لأحد أن يصف الله تعالى بأن له عينين لأن النص لم يأت بذلك ونقول: إن المراد بما ذكرنا الله عز وجل لا شيء غيره. وقال تعالى حاكيًا عن قول قائل: ‏﴿يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ﴾ [الزمر:56]‏‏، وهذا معناه فيما يقصد به الله عز وجل، وفي جانب عبادته، وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وكلتا يديه يمين، وعن يمين الرحمن)، فهو مثل قوله: ‏‏﴿‏مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ‏‏﴾‏‏ [النساء: 24-25-36]، يريد (وما ملكتم)، ولمّا كانت اليمين في لغة العرب يراد بها الحظ للأفضل كما قال الشماخ: إذا ما راية رُفعت لمجد *** تلقاها عرابة باليمين، يريد أنه يتلقاها بالسعي الأعلى، كان قوله: (وكلتا يديه يمين) أي كل ما يكون منه تعالى من الفضل فهو الأعلى"أهـ. فمذهب ابن حزم الظاهري، وأئمة السلف، إمرار هذه الآيات على ظاهر اللفظ، مع اليقين أن المقصود بها ليس الجوارح، بل هي تعبيرات مما يقتضيه لسان العرب، فكل لفظ من ألفاظ الجوارح عند الإنسان له دلالته البلاغية؛ فاستخدمها الله عز وجل للدلالة على ذاته العليّة في القرآن، الذي نزل بلسانٍ عربي مبين، رغم أنه الأحد الصمد المُنزَّه عن كل تأليف وتبعيض.

وفي تأويل قوله تعالى: ‏﴿‏‏‏‏‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏‏﴾ [الزمر:67]، يقول الشريف الرضى في "مجازات القرآن": "معنى ‏﴿‏‏‏‏‏قَبْضَتُهُ‏‏﴾ ههنا أي ملك له خالص قد ارتفعت عنه أيدي المالكين من بريته، والمتصرفين فيه من خليقته، وقد ورث تعالى عباده ما كان ملكهم في دار الدنيا من ذلك، فلم يبق ملك إلا انتقل ولا مالك إلا بطل، وقيل أيضًا: معنى ذلك أن الأرض في مقدوره كالذي يقبض عليه القابض، ويستولي عليه كفه، ويجوزه ملكه، ولا يشاركه فيه غيره. ومعنى قوله ‏﴿‏‏‏‏‏وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏‏﴾ أي مجموعات في ملكه، ومضمونات بقدرته، واليمين ههنا بمعنى الملك. يقول القائل: هذا ملك يميني وليس يريد اليمين التي هي الجارحة، وقد يُعبرون عن القوة أيضًا باليمين، فيجوز على هذا التأويل أن يكون معنى قوله تعالى: ‏﴿‏‏‏‏‏مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏‏﴾ أي يجمع أقطارها، ويطوي انتشارها بقوته، كما قال سبحانه: ‏﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ‏‏﴾. وقيل لليمين ههنا وجه آخر، وهو أن يكون بمعنى القسم، لأنه تعالى لما قال في سورة الأنبياء ‏﴿‏‏‏‏‏ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ﴾ [الأنبياء: 104]، كان التزامه تعالى فعل ما أوجبه على نفسه بهذا الوعد، كأنه قسم أقسم به ليفعلنّ ذلك، فأخبر سبحانه في هذا الموضع من السورة الأخرى إن ‏﴿‏‏‏‏‏َالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏‏﴾ أي بذلك الوعد الذي ألزم نفسه تعالى وجرى مجرى القسم الذي لا بد أن يقع الوفاء به والخروج منه، والاعتماد على القولين المتقدمين أولى"أهـ.

أما البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص ص312-313) فقد سرد بعض ما ثبت من توقف السلف، ورفض القول بالجارحة كما يقتضي الظاهر، يقول: "أما المتقدمون من هذه الأمة فإنهم لم يفسروا ما كتبنا من الآيتين والأخبار في هذا الباب مع اعتقادهم بأجمعهم أن الله تبارك وتعالى واحد لا يجوز عليه التبعيض". وذكر أقوال بعضهم، من ذلك توقف قتادة عن تفسير قوله تعالى: ‏﴿‏‏‏‏‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏‏﴾ [الزمر: 67]، وقول سفيان بن عُيينة "كل ما وصف الله تعالى من نفسه في كتابه، فتفسيره تلاوته، والسكوت عليه"، وكذا قول عبد الله بن المبارك عن الصفات الخبرية: "أنا أشد الناس كراهية لذلك –أي ذكر الصفة التي ظاهرها الجارحة-، ولكن إذا نطق الكتاب بشيء جسرنا عليه، وإذا جاءت الأحاديث المستفيضة الظاهرة تكلمنا به"، قلت –أي البيهقي-: "وإنما أراد والله أعلم الأوصاف الخبرية، ثم تكلمهم بها على نحو ما ورد به الخبر لا يجاوزونه"، ثم ذهب البيهقي للحديث عن معنى اليد واليمين ونحوه وفقًا لما قال به العلماء، فقال: "وذهب بعض أهل النظر إلى أن اليمين يُراد به اليد، والكف عبارة عن اليد، واليد لله تعالى صفة بلا جارحة، فكل موضع ذُكرت فيه من كتاب وسُنة صحيحة فالمراد بذكرها تعلقها بالكائن المذكور معها، من الطي والأخذ، والقبض والبسط، والمسح والقبول والإنفاق، وغير ذلك تعلق الصفة الذاتية بمقتضاها من غير مباشرة ولا مماسة، وليس في ذلك تشبيه بحال، وذهب آخرون إلى أن القبضة في غير هذا الموضع قد يكون بالجارحة، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، وقد يكون بمعنى المُلك والقدرة، وقد يكون بمعنى إفناء الشيء وإذهابه"، ثم ساق من المرويات والأشعار ما يعضد هذا المذهب في تفسير اليمين، وختم: "ليس معنى اليد عندنا الجارحة"أهـ.

وكذا يقول الإمام ابن جرير الطبري في تفسيره: "القول في تفسيره في تأويل قوله: ‏﴿‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ ‏يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ‏‏﴾‏‏ [المائدة: 64]. قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن جرأة اليهود على ربهم، ووصفهم إياه بما ‏ليس من صفته، توبيخًا لهم بذلك، وتعريفًا منه نبيَّه صلى الله عليه وسلم قديمَ جهلهم واغترارهم به، ‏وإنكارهم جميع جميل أياديه عندهم، وكثرة صفحه عنهم وعفوه عن عظيم إجرامهم. ‏ويقول تعالى ذكره: "‏﴿‏وَقَالَتِ الْيَهُودُ﴾ من بني إسرائيل: ﴿يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ﴾، يعنون: أن خير ‏الله مُمْسَك وعطاؤه محبوس عن الاتساع عليهم، كما قال تعالى ذكره في تأديب نبيه ‏صلى الله عليه وسلم: ‏﴿‏وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ‏‏﴾‏‏ [الإسراء: 29]. ‏وإنما وصف تعالى ذكره "اليد" بذلك، والمعنى العَطاء، لأن عطاء الناس وبذلَ معروفهم ‏الغالبَ بأيديهم. فجرى استعمال الناس في وصف بعضهم بعضًا، إذا وصفوه بجود وكرم، أو ‏ببخل وشحّ وضيق، بإضافة ما كان من ذلك من صفة الموصوف إلى يديه، كما قال الأعشى في ‏مدح رجل: ‏يَــدَاكَ يَــدَا مَجْـدٍ فَكَـفٌ مُفِيـدَةٌ ‏*** وَكَـفٌّ إذَا مَـا ضُـنَّ بِـالزَّادِ تُنْفِـقُ. فأضاف ما كان صفة صاحب اليد من إنفاق وإفادة إلى "اليد". ومثل ذلك من كلام العرب ‏في أشعارها وأمثالها أكثر من أن يُحْصى. فخاطبهم الله بما يتعارفونه ويتحاورونه بينهم في ‏كلامهم"أهـ.

وعن قوله تعالى: ‏‏﴿‏إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏‏﴾‏‏ [الفتح:10] يؤولها الشريف الرضى في "مجازات القرآن"، فيقول: "اليد ههنا تُعرف على وجوه: أحدها أن يكون المعنى عقد البيعة فوق عقدهم. وقيل: المراد قوة الله تعالى في نُصرة نبيه عليه السلام فوق قوة نصرتهم. وقيل: اليد ههنا بمعنى السلطان والقدرة، كما يقول القائل: فلان تحت يد فلان، أي تحت يد سلطانه وأمره، فيكون المعنى أن سلطان الله تعالى في هذا الأمر فوق سلطانهم وأمره فوق أمرهم. وقيل في ذلك وجه آخر، وهو أن العادة جارية في المبايعات والمعاقدات أن تقع الصفقة بالأيدي من البائع والمشتري، ومن هناك قالوا: صفقة رابحة وصفقة خاسرة، فقيل: ‏﴿‏يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ‏‏﴾‏‏ ذهابًا إلى هذا المعنى، كأنه سبحانه قال: فالذي أعطاكم الله في هذه المبايعة أعلى مما أعطيتم وأجل وأربح وأفضل"أهـ.

ويقول الإمام الطبري في تفسيره للقرآن: "القول في تأويل قوله تعالى: ‏﴿‏وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ‏‏﴾‏‏ ‏[الذاريات: 47] يقول تعالى ذكره: والسماء رفعناها سقفًا بقوة"، ثم أتبع قائلًا: "وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل"، ونقل تأويل الأيدي بالقوة ‏بالأسانيد عن‎ ‎ابن عباس‎ ‎ومجاهد‎ ‎وقتادة‎ ‎ومنصور وابن زيد وسفيان.‏

ومثلها قوله تعالى: ‏﴿‏أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ‏‏﴾‏‏ [يس:71]. ويقول الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تفسيرها: "والمراد بذكر الأيدي ههنا قسمان من أقسام اليد في اللغة العربية. إما أن تكون بمعنى القوة أو بمعنى تحقيق الإضافة، فكأنه سبحانه يقول: أولم يروا أنا خلقنا لهم أنعامًا اخترعناها بقوة تقديرنا، ومتقن تدبيرنا، أو يكون المعنى أن هذه الأنعام مما تولينا خلقه من غير أن يشاركنا فيه أحد من المخلوقين، لأن المخلوقين قد يعملون سفائن البحر، ولا يعملون سفائن البر المذللة ظهورها، والمحللة لحومها، فهذا وجه فائدة الإضافة في قوله تعالى: ﴿مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا‏‏﴾‏‏، والله تعالى أعلم".

ويقول الإمام القرطبي في تفسيره للقرآن: "قوله تعالى: ‏﴿‏فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏‏﴾‏‏ ‏[الطور: 48]،‏ أي بمرأى ومنظر منا نرى ونسمع ما تقول وتفعل. وقيل: بحيث نراك ونحفظك ونحوطك ونحرسك ونرعاك. والمعنى واحد. ومنه قوله تعالى لموسى عليه السلام: ‏﴿‏وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي‏‏﴾‏‏ ‏[طه: 39]، أي بحفظي وحراستي وقد تقدم"أهـ. وذكر البغوي في تفسير الآية: "‏﴿‏فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏‏﴾‏‏ أي بمرأىً مِنَّا، قال ابن عباس: نرى ما يُعْمَلُ بك. وقال الزجَّاج: إنك بحيث نراك ونحفظك فلا يصلون إلى مكروهك"أهـ.

ويقول الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تفسير قوله تعالى: ‏﴿وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا‏‏﴾ [هود: 37]: "هذه استعارة، ومعناها واصنع الفلك بأمرنا ونحن نرعاك ونحفظك. ليس لله عينًا تلحظ ولا لسانًا يلفظ، وذلك كما يقول القائل: إنا بعين الله، أي بمكان من حفظ الله، ومن كلامهم للظاعن المشيّع والحميم المودّع: صحبتك عين الله، أي رعايته وحفظه". وقال في تفسير قوله تعالى: ‏﴿‏وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي‏‏﴾‏‏ ‏[طه: 39] "والمراد بذلك والله أعلم أن تتربى بحيث أرعاك وأراك، وليس هناك شيء يغيب عن رؤية الله سبحانه، ولكن هذا الكلام يفيد الاختصاص بشدة الرعاية وفرط الحفظ والكلاءة. وقد يجوز أيضًا أن يكون المراد بذكر العين ههنا علمه بمكانه، فقال: ولتُصنع وأنا عالم بما يفعل بك، وكذلك قوله تعالى: ‏﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏‏﴾‏‏ [القمر: 14]، أي تجري ونحن عالمون بجريها غير خافٍ علينا شيء من تصرفها، وحسن أن تقوم العين مقام العلم، لما كانت العين طريق العلم، وقال تعالى: ‏﴿بِأَعْيُنِنَا‏‏﴾‏‏ ولم يقل: بعيننا، لما خاطب الجميع على طريق التفخيم والتعظيم"أهـ.

وقال البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص297): "من أصحابنا من حمل العين المذكورة في الكتاب على الرؤية، وقال: قوله: ‏﴿‏وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِي‏‏﴾ [طه: 39]‏‏، معناه بمرأى مني، وقوله: ‏﴿وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏‏﴾ ‏‏‏[الطور: 48] أي بمرأىً مِنَّا، وكذلك قوله: ‏﴿تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا‏‏﴾‏‏ [القمر: 14]. والذي يدل عليه ظاهر الكتاب والسُنة من إثبات العين له صفة لا من حيث الحدقة أولى". أي أن حقيقة رأي البيهقي هو إثباته العين نصًا، مع ترجيح أن المراد بها صفة الإبصار التي لا يختلف عليها أحد من المسلمين كصفة من صفاته عز وجل، وليس أن المراد بها العين الجارحة، وهو ما لا يخدم قول المجسمة، ومثله كثير في كتاب البيهقي.

وذكر ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص ص74-75): "روى البخاري ومسلم في الصحيحين من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الدجَّال فقال: "ألا إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور". قال العلماء: إنما أراد تحقيق وصفه بأنه لا يجوز عليه النقص، ولم يرد إثبات جارحة، لأنه لا مدح في إثبات جارحة، بل كأنه قال: إن ربكم ليس بذي جوارح يتسلط عليها النقائص، وهذا مثل نفي الولد عنه لأنه يستحيل عليه التجزئ. ولو كانت الإشارة إلى صورة كاملة لم يكن في ذلك دليل على الإلهية ولا القِدم، فإن الكامل في الصورة كثير"أهـ.

كما أورد ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص13) أقوال كبار الحنابلة في إثباتهم صفة العين، ورده عليهم. قال: ‏"وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن العين زائدة على الذات، وقد سبقه أبو بكر بن خزيمة –وهو حنبلي العقيدة شافعي المذهب- فقال في الآية: لربنا عينان ينظر بهما، وقال ابن حامد: يجب الإيمان أن له عينين. وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبتوا عينين من دليل الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم (ليس بأعور)، وإنما أُريد نفي النقص عنه تعالى، ومتى ثبت أنه لا يتجزأ لم يكن لما يتخايل من الصفات وجه"أهـ.

وأقول: إنه من الغرائب أنه لا يوجد نص من آية أو حديث يثبت العين بصيغة المُثنى، بينما أثبت السلفية لله عينين، وهذا دليل على توهمهم لله كجسم؛ لأنه ما حملهم على إثبات عينين اثنتين لم تأت بهما النصوص إلا تجسيمهم، وقياسهم لله على مخلوقاته.

ومن تأويل السلف للجنب في الآية الكريمة ‏﴿‏أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَاحَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ﴾ [الزمر:56]. يقول الشريف الرضى في "مجازات القرآن": "قد اُختلِف في المراد بالجنب ههنا، فقال قوم: معناه في ذات الله. وقال قوم: معناه في طاعة الله، وفي أمر الله، إلا أنه ذكر الجنب على مجرى العادة في قولهم هذا الأمر صغير في جنب ذلك الأمر أي في جهته، لأنه إذا عُبر عنه بهذه العبارة دلّ على اختصاصه به من وجه قريب من معنى صفته. وقال بعضهم: معنى في جنب الله أي في سبيل الله، أو في الجانب الأقرب إلى مرضاته بالأوصل إلى طاعاته، ولما كان الأمر كله يتشعب إلى طريقين: إحداهما هدى ورشاد، والأخرى غي وضلال، وكل واحد منهما مجانب لصاحبه، أي هو في جانب والآخر في جانب، وكان الجنب والجانب بمعنى واحد، حسُنت العبارة ههنا عن سبيل الله بجنب الله على النحو الذي ذكرناه"أهـ.

ومن تأويل السلف للأصابع، يقول ابن حزم في "الفِصل" (ج2/باب الكلام في الوجه واليد والعين والقدم والتنزل والعزة ‏والرحمة ‏والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع، ص350): "‏وكذلك الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الله تعالى)، أي بين تدبيرين ونعمتين من تدبير الله عز وجل ونعمه، إما كفاية تسره، وإما بلاء يأجره عليه. والإصبع في اللغة: النعمة. وقلب كل أحد بين توفيق الله وجلاله، وكلاهما حكمة".

وقد احتجت الفرقة المسماة بالسلفية أيضًا في هذا الباب، بحديث إمساك السموات والأرض على أصابع الذي حكاه الحبر اليهودي للرسول صلى الله عليه وسلم، وقال الراوي إن الرسول ضحك تصديقًا له. رواه الإمام البخاري، والإمام مسلم. وللإمام النووي في "المنهاج" (ج17، ص ص129-130) شرحٌ مستجاد لهذا الحديث يوضح مذهبيّ الأمة المخالفين لقول من يسمون بالسلفية، يقول: "قوله –أي الحبر- (إن الله يمسك السموات على أصبع والأرضين على أصبع إلى قوله ثم يهزهن). هذا من أحاديث الصفات، وقد سبق فيها المذهبان: التأويل، والإمساك عنه مع الايمان بها مع اعتقاد أن الظاهر منها غير مراد. فعلى قول المتأولين يتأولون الأصابع هنا على الاقتدار، أى خلقها مع عظمها بلا تعب ولا ملل، والناس يذكرون الأصبع فى مثل هذا للمبالغة والاحتقار، فيقول أحدهم بأصبعى أقتل زيدًا، أى لا كُلفة عليّ في قتله، وقيل يُحتمل أن المراد أصابع بعض مخلوقاته، وهذا غير ممتنع، والمقصود أن يد الجارحة مستحيلة –أي مستحيلة في حق الله-. قوله: (فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا مما قال الحبر تصديقًا له ثم قرأ ‏﴿‏‏‏‏‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ‏‏﴾ [الزمر: 67]‏‏‏‏‏‏، ظاهر الحديث أن النبى صلى الله عليه وسلم صدّق الحبر فى قوله: إن الله تعالى يقبض السموات والأرضين والمخلوقات بالأصابع، ثم قرأ الآية التى فيها الإشارة إلى نحو ما يقول. قال القاضي: وقال بعض المتكلمين: ليس ضحكه صلى الله عليه وسلم وتعجبه وتلاوته للآية تصديقًا للحبر، بل هو ردّ لقوله، وإنكار وتعجب من سوء اعتقاده، فإن مذهب اليهود التجسيم، ففهم منه ذلك. وقوله (تصديقًا له) إنما هو من كلام الراوي على ما فهم، والأول أظهر"أهـ. وإلى مثل هذا الرأي أشار البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص318).

بينما يُخلِّط القاضي أبو يعلى المجسم الحنبلي –على عادته- فيقول، فيما رواه عنه ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص ص54-55): "غير ممتنع حمل الخبر على ظاهره في إثبات الأصابع صفات راجعة إلى الذات، لأنّا لا نثبت أصابع هي جارحة ولا أبعاض. ويرد عليه ابن الجوزي: وهذا كلام مخلّط، لأنه إما أن يُثبت جوارح، وإما أن يتأولها. أما حملها على ظاهرها فظاهرها الجوارح. ثم يقول: ليست أبعاضًا. فهذا كلام قائم قاعد، ويضيع الخطاب لمن يقول هذا".

وعن نسبتهم القدم لله تعالى –وحاشاه- وإصرارهم على الأخذ بظاهر الآيات فيما يشبه الترجمة الحرفية في زماننا، فقد خالفوا إجماع سلف الأمة كعادتهم. يقول الطبري: "القول في تأويل قوله تعالى: ‏﴿‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ‏‏﴾‏‏ [القلم: 42]، قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل ‏التأويل: يبدو عن أمر شديد". ‏وذكر الطبري من قال ذلك، وأشهرهم ابن عباس بعدة أسانيد، فروي في إحدى الروايات أنه قال: "هو يوم حرب وشدّة"، وفي رواية أنه قال: "عن أمر عظيم كقول الشاعر: (وقامَتِ الحَرْبُ بنا على ساقٍ)"، وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنه قال: "حين يُكشف الأمر، وتبدو الأعمال، وكشفه: دخول الآخرة ‏وكشف الأمر عنه". ‏ورواية أخرى عنه يقول: "هو الأمر الشديد المفظع من الهول يوم القيامة". وروى الطبري عن إبراهيم أنه قال: "ولا يبقى ‏مؤمن إلا سجد، ويقسو ظهر الكافر فيكون عظمًا واحدًا. –ثم أضاف إبراهيم- ‏وكان ابن عباس يقول: (يكشف عن أمر عظيم، ألا تسمع العرب تقول: ‏وقامَتِ الحَرْبُ بنا على ساق)". وروى الطبري في رواية عن مجاهد، ‏قوله: "‏﴿‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‏‏‏﴾‏‏ قال: شدة الأمر وجدّه؛ -ثم أضاف مجاهد- قال ابن عباس: هي أشد ساعة في يوم ‏القيامة"، وغيرها. كما روى الطبري عن سعيد بن جبير قوله في الكشف عن الساق "قال: ‏عن شدّة الأمر". ‏وروى عن قتادة في قوله: ‏‏﴿‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‏‏‏﴾‏‏ "‏قال: عن أمر فظيع جليل". ورواية أخرى عن قتادة "قال: يوم يكشف عن شدة الأمر". ‏‏وكان ممن رووا ذلك التفسير عن ابن عباس كبار التابعين كأسامة بن زيد وعكرمة وابن حميد وابن المبارك وسفيان والمغيرة وإبراهيم وابن جريج ومجاهد والضحاك، وممن رووه عن قتادة ابن عبد الأعلى وابن ثور ومعمر، فكيف يتجرأ هؤلاء المتأسلفة بعد ذلك بادعاء الانتساب إلى السلف؟!

وذكر الفخر الرازي في تفسيره (ج30، ص94)، "‏‏﴿يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‏‏‏﴾‏‏: في تفسير الساق وجوه. الأول، أنه الشدة، وروي عن ابن عباس أنه أشار إلى معناه في الشعر (وقامت الحرب بنا على ساق)، ثم قال: وهو كرب وشدة، وروى مجاهد عنه قال: هو أشد ساعة في القيامة. ثم قال ابن قتيبة: "أصل هذا أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه، يشمّر عن ساقه، فلا جرم يُقال في موضع الشدة: كشف عن ساقه، واعلم أن هذا اعتراف من أهل اللغة بأن استعمال الساق في الشدة مجاز، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز صرف الكلام إلى المجاز إلا بعد تعذر حمله على الحقيقة، فإذا أقمنا الدلائل القاطعة على أنه تعالى، يستحيل أن يكون جسمًا، فحينئذ يجب صرف اللفظ إلى المجاز، واعلم أن صاحب الكشّاف –أي الزمخشري- أورد هذا التأويل في معرض آخر، فقال: الكشف عن الساق مثلٌ في شدة الأمر، فمعنى قوله: ‏‏‏﴿‏يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ‏‏‏﴾‏‏ يوم يشتد الأمر ويتفاقم، ولا كشف ثم، ولا ساق –يعني أنه لا ساق حقيقية لتُكشف كما هو ظاهر المعنى-، كما تقول للشحيح يده مغلولة، ولا يد ثم ولا غل. وإنما هو مثلٌ في البخل. والقول الثاني، هو قول أبي سعيد الضرير: يوم يُكشف عن أصل الأمر، وساق الشيء أصله الذي به قوامه كساق الشجر، وساق الإنسان، أي يظهر يوم القيامة حقائق الأشياء وأصولها. القول الثالث، يوم يُكشف عن ساق جهنم، أو عن ساق العرش، أو عن ساق ملك مهيب عظيم، واللفظ لا يدل إلا على ساق، فأما أن ذلك الساق ساق أي شيء هو فليس في اللفظ ما يدل عليه. والقول الرابع، وهو اختيار المشبهة، أنه ساق الله، تعالى الله عنه، واعلم أن هذا القول باطل"أهـ.

وروى القرطبي في تفسير قوله تعالى: ‏﴿‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ‏‏﴾‏‏ ‏[ يونس: 2]‏ "اختُلف في معنى ‏﴿‏قَدَمَ صِدْقٍ‏‏﴾‏‏ فقال ابن عباس: قدم صدق منزل صدق؛ دليله قوله تعالى: ‏﴿وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ‏‏﴾‏‏ [الإسراء: 80]. وعنه أيضًا أجرًا حسنًا بما قدموا من أعمالهم. وعنه أيضًا ‏﴿‏قَدَمَ صِدْقٍ‏‏﴾‏‏ سبق السعادة في الذكر الأول، وقاله مجاهد. الزجاج: درجة عالية. قال ذو الرمة: (لكم قدر لا ينكر الناس أنها *** مع الحسب العالي طمت على البحر). قتادة: سلف صدق. الربيع: ثواب صدق. عطاء: مقام صدق. يمان: إيمان صدق. وقيل: دعوة الملائكة. وقيل: ولد صالح قدموه. الماوردي: أن يوافق صدق الطاعة الجزاء. وقال الحسن وقتادة أيضًا: هو محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه شفيع مطاع يتقدمهم؛ كما قال: (أنا فرطكم على الحوض). وقد سُئل صلى الله عليه وسلم فقال: (هي شافعتي توسلون بي إلى ربكم). وقال الترمذي الحكيم: قدمه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود. وعن الحسن أيضًا: مصيبتهم في النبي صلى الله عليه وسلم. وقال عبدالعزيز بن يحيى: ‏﴿‏قَدَمَ صِدْقٍ‏‏﴾‏‏ قوله تعالى: ‏﴿‏إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾‏‏ [الأنبياء: 101] وقال مقاتل: أعمالًا قدموها؛ واختاره الطبري. قال الوضاح: (صل لذي العرش واتخذ قدمًا تنجيك يوم العثار والزلل)، وقيل: هو تقديم الله هذه الأمة في الحشر من القبر وفي إدخال الجنة. كما قال: (نحن الآخرون السابقون يوم القيامة المفضي لهم قبل الخلائق). وحقيقته أنه كناية عن السعي في العمل الصالح؛ فكُني عنه بالقدم كما يُكنى عن الإنعام باليد وعن الثناء باللسان. وأنشد حسّان: (لنا القدم العليا إليك وخلفنا *** لأولنا في طاعة الله تابع) يريد السابقة بإخلاص الطاعة، والله أعلم. وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم؛ يقال: لفلان قدم في الإسلام، له عندي قدم صدق وقدم شر وقدم خير. وهو مؤنث وقد يذكر؛ يقال: قدم حسن وقدم صالحة. وقال ابن الأعرابي: القدم التقدم في الشرف؛ قال العجاج: (زل بنو العوام عن آل الحكم *** وتركوا الملك لملك ذي قدم). وفي الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لي خمسة أسماء. أنا محمد وأحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي وأنا العاقب) يريد آخر الأنبياء؛ كما قال تعالى: ‏﴿‏وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ‏‏﴾ [الأحزاب: 40]".

وكذلك أوّل ابن حزم القدم، ولم يثبتها صفة. يقول ابن حزم في "الفِصل" (ج2/باب الكلام في الوجه واليد والعين والقدم والتنزل والعزة ‏والرحمة ‏والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع، ص ص349-350): "‏وكذلك صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن جهنم لا تمتلئ حتى يضع فيها قدمه)، وصح أيضًا في الحديث: (حتى يضع فيها رجله)، ومعنى هذا ما قد بيّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر صحيح أخبر فيه أن الله تعالى بعد يوم القيامة يخلق خلقًا يدخلهم الجنة، وأنه يقول للجنة والنار (لكل واحدة منكما ملؤها)، فمعنى القدم في الحديث المذكور: إنما هو كما قال تعالى: ‏﴿‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ‏‏﴾‏‏ ‏[يونس: 2]‏. يريد سالف صدق، فمعناه الأمة التي تقدم في علمه تعالى أنه يملأ بها جهنم، ومعنى (رجله) مثل ذلك، لأن الرجل: الجماعة في اللغة، أي يضع فيها الجماعة التي قد سبق في علمه أنه يملأ جهنم بها"أهـ.

وفسر الشريف الرضى في "مجازات القرآن" قوله تعالى: ‏﴿‏أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ‏‏﴾‏‏ ‏[يونس: 2]‏ "المراد بالقدم ههنا السابقة في الإيمان، والتقدم في الإخلاص، والعبارة عن ذلك بلفظ القدم غاية في البلاغة، لأن بالقدم يكون السبق والتقدم، فسُميت قدمًا لذلك، وقال بعضهم إيمانهم في الدنيا هو قدمهم في الآخرة، لأن معنى القدم في العربية الشيء تقدمه أمامك ليكون عدة لك حتى تقدم عليه، وقال بعضهم ذكر القدم ههنا على طريق التمثيل والتشبيه، كما تقول العرب: قد وضع فلان رجله في الباطل، وتخطى إلى غير الواجب، ومعناه أنه انتقل إلى فعل ذلك كما ينتقل الماشي، وإن لم يحرك قدمه ولم ينقل خطاه"أهـ.

وأورد ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص 18) ‏ما قاله أبو يعلى وابن حامد -من مجسمة الحنابلة الأوائل- من أن الساق هي صفة ذاتية، وقد زاد أبو حامد "فمن جحد ذلك كفر". قال ابن الجوزي: "لو تكلم بهذا عامي جلف كان قبيحًا، فكيف من يُنسب إلى العلم، فإن المتأولين أعذر منهم لأنهم يردّون الأمر إلى اللغة، وهؤلاء أثبتوا ساقًا للذات وقدمًا حتى يتحقق التجسيم والصورة"أهـ.

ونسبوا لله نفسًا بسبب أخذهم بالظاهر في تفسير قوله تعالى: ‏﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏﴾‏ [آل عمران: 30]، وقوله تعالى: ‏﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ‏﴾ [المائدة: 116]‏. ردّ ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص15): "قال المفسرون: ويحذركم الله إياه، وقالوا: تعلم ما عندي ولا أعلم ما عندك، وقال المحقّقون: المراد بالنفس هاهنا الذات، ونفس الشيء ذاته".

وقال الشريف الرضى في "مجازات القرآن" (ص60) في تفسير قوله تعالى حاكيًا عن المسيح عليه السلام: ‏﴿تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ‏﴾ [المائدة: 116] "هذه استعارة لأن القديم تعالى لا نفس له، والمراد تعلم ما عندي، ولا أعلم ما عندك، وتعلم حقيقتي وذاتي، ولا أعلم حقيقتك وذاتك، أو تعلم مغيبي، ولا أعلم مغيبك، فكأن فحوى ذلك؛ تعلم ما أعلم، ولا أعلم ما تعلم"، ويضيف الشريف الرضى "فأما قوله تعالى: ‏﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏﴾‏ [آل عمران: 30]، فالمراد بها ويحذركم عقابه، لأنك إذا قلت: احذر فلانًا، فإنما تريد به، احذر أن يصيبك منه ضرر أو تنال منه شرًا، والتحذير في التحقيق إنما هو من نفس الضرر لا من فاعل الضرر، وفي قوله: ‏﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ‏﴾‏ زيادة فائدة على قوله (ويحذركم عقابه)، كأنه تعالى أراد ما يتولاه هو من العقاب لا ما يوليه بعض العباد، فحصلت في هذا اللفظ مزيّة الاختصاص"أهـ.

كما نسبوا له تعالى روحًا على عكس قول السلف والخلف. قال الألوسي: "‏‏﴿وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي﴾ [الحجر: 29] تمثيل لإفاضة ما به الحياة بالفعل على المادة القابلة لها، فليس ثمة نفخ ولا منفوخ، أي فإذا أكملت استعداده، وأفضت عليه ما يحيا به من الروح الظاهرة التي هي أمري"أهـ. بينما قال القرطبي في تفسيره (ج12، ص208) "النفخ هو إجراء الريح في الشيء، والروح جسم لطيف، أجرى الله العادة بأن يخلق الحياة في البدن مع ذلك الجسم. وحقيقته إضافة خلق إلى خالق؛ فالروح خلق من خلقه، أضافه إلى نفسه تشريفًا وتكريمًا، كقوله: أرضي وسمائي وبيتي، وناقة الله، وشهر الله"أهـ. فتأويل القرطبي يرى فيه وجود خلق تُسمى الروح، ولكنها ليست صفة لله، بل مضافة له إضافة تشريف.

وقال الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تفسير قوله تعالى عن المسيح عليه السلام: ‏﴿وَرُوحٌ مِّنْهُ‏‏﴾ [النساء: 171] "المراد أن الناس ينتفعون بهداه، ويحيون من موت الضلالة برشده، كما تحيا الأجسام بأرواحها وتتصرف بحركاتها"ـ وفي تفسير قوله تعالى: ‏﴿‏وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا‏‏﴾ [الأنبياء:91] "المراد إجراء روح المسيح عليه السلام في مريم عليها السلام كما يجري الهواء بالنفخ، لأنه حصل معها من غير علوق من ذكر ولا انتقال من طبق إلى طبق، فأضاف تعالى الروح إلى نفسه لمزيّة الاختصاص بالتعظيم والاصطفاء والتكريم؛ إذ كان خلقه المسيح عليه السلام من غير توسط مناكحة ولا تقدم ملامسة". كما فسر قوله تعالى ‏﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ ٱللَّهِ‏‏﴾ [يوسف:87] "المراد لا تيأسوا من فرج الله، والروح هو نسيم الريح التي يلذ شميمها ويطيب نسيمها، فشبّه تعالى الفرج الذي يأتي بعد الكُربة، ويُطرق بعد اللزبة بنسيم الريح الذي ترتاح القلوب له وتثلج الصدور به. ومثل ذلك ما جاء به الخبر "الريح من نفس الله" أي من تنفيسه عن خلقه، يريد به أن القلوب تستروح إليها كما يستروح المكروب إلى نفسه"أهـ.

ولا يكتمل التجسيم إلا بادعاء أنه سبحانه وتعالى جسم، وحاشاه، مخالفة لسائر الأمة عدا أسلافهم من المجسمة. في "منهاج السنة" (ج2، ص ص530-531) يقول ابن تيميّة: "وأمّا لفظ الجسم، فإنّ الجسم عند أهل اللغة، كما ذكره الأصمعي وأبو زيد وغيرهما هو الجسد والبدن. وقال تعالى: ‏﴿‏وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ‏﴾‏‏ [المنافقون: 4]، وقال تعالى: ‏﴿‏وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ‏﴾ ‏‏[البقرة: 247]، فهو يدل في اللغة على معنى الكثافة والغلظ كلفظ الجسد، ثم قد يُراد به نفس الغليظ، وقد يراد به غِلظه فيقال: لهذا الثوب جسم، أي غلظ وكثافة، ويُقال: هذا أجسم من هذا أي أغلظ وأكثف. ثم صار لفظ "الجسم" في اصطلاح أهل الكلام أعم من ذلك، فيسمّون الهواء وغيره من الأمور اللّطيفة جسمًا، وإن كانت العرب لا تسمي هذا جسمًا‏".

ثم يقول (ص532): ‏"والنظّار كلهم متّفقون -فيما أعلم- على أنّ الجسم يُشار إليه، وإن اختلفوا في كونه مركبًا من الأجزاء المنفردة، أو من المادة والصورة، أو لا من هذا ولا من هذا".

ثم نجده (ص ص134-135) يقول: ‏"‏وقد يُراد بالجسم ما يُشار إليه، أو ما يُرى، أو ما تقوم به الصفات؛ والله تعالى يُرى في الآخرة، وتقوم به الصفات، ويُشير إليه الناس عند الدعاء بأيديهم قلوبهم ووجوههم وأعينهم، فإن أراد شخص بقوله: "ليس بجسم" هذا المعنى. قيل له: "هذا المعنى الذي قصدت نفيه بهذا اللفظ معنى ثابت بصحيح المنقول وصريح المعقول، وأنت لم تُقم دليلًا على نفيه‏. وأما اللفظ فبدعة نفيًا وإثباتًا، فليس في الكتاب ولا السُنة ولا قول أحد من سلف الأمة وأئمتها إطلاق لفظ "الجسم" في صفات الله تعالى، لا نفيًا ولا إثباتًا. وكذلك لفظ "الجوهر" و "المتحيِّز" ونحو ذلك من الألفاظ التي نازع أهل الكلام المحدث فيها نفيًا وإثباتًا"‏.

ويقول (ص562): ‏"‏وهؤلاء المعطلة ينفون نفيًا مفصلًا، ويثبتون شيئًا مجملًا يجمعون فيه بين النقيضين. وأما الرسل صلوات الله وسلامه عليهم فيثبتون إثباتًا مفصلًا، وينفون نفيًا مجملًا: يثبتون لله الصفات على وجه التفصيل، وينفون عنه التمثيل. وقد عُلِم أن التوراة مملوءة بإثبات الصفات التي يسميها النُفاة تجسيمًا –يعني الجوارح التي توهموها لله تعالى-، ومع هذا فلم ينكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على اليهود شيئًا من ذلك، ولا قالوا: أنتم مجسِّمون‏".‏ ثم استدل بحديث إمساك الرب للسموات والأرض بالأصابع الذي سبق أن شرحناه عند الرد على فِرية الأصابع.

وملخص كل ما لفّ ودار ابن تيمية ليقوله مواربة –في صفحات مطولة- خوفًا من التصريح به، أن اللغة –في رأيه- لا تمنع من تسمية الله جسمًا، وأن هناك من معاني الجسمية ما هي ثابتة في حق الله تعالى، وقال من ضمن ما قال: "النُفاة يعبدون عدمًا"، ويقصد من ينكرون الجوارح، ولكنه فقط يؤكد على أن إنكار الجسمية أو الإثبات لها كلاهما بدعة. وهو فوق ذلك يكذب بادعاء أن سلف الأمة لم ينفوا الجسمية عن الله. ويعترف بتشابه عقيدته مع عقيدة اليهود. وأنا أقول: أشد ما يزعجني فيهم هو إنكارهم المتبجح على من يصفهم بالتجسيم، وهم لا يستبعدون إمكانية أن يكون الله جسمًا بتحقق بعض المعاني! علمًا بأن نفيه التركيب لا يغني شيئًا وهو من تناقضه، لأن وجود الجوارح –كما ادعوها- يقتضي التركيب والتأليف، وكل مركب يفتقر إلى غيره، وهو ما يتنافى مع كونه الرب الغني الأحد.

وروى الزركشي الشافعي في "تشنيف المسامع" (ج4، ص 648) نقلًا عن صاحب "الخصال" عن الإمام أحمد بن حنبل، الذي يدعي هؤلاء أنه إمامهم، أنه قال: "من قال –الله- جسم لا كالأجسام كـَفَـرَ". وأقول: إن لم يكن هذا نفي صريح من الإمام للجسمية، فماذا عساه يكون؟ ومن تراه المبتدع؟

ويقول الإمام الفخر الرازي في "الإشارة في علم الكلام" (ص96): "اتفقت العقلاء على استحالة كون الباري تعالى جسمًا، إلا جماعة من الحشوية وضعفاء العقول"، وقد توسع الرازي في الرد على هؤلاء من الحنابلة والكرامية في "الإشارة" و "أساس التقديس" وغيرها من كتبه، وساق الحجج العقلية مستدلًا بآيات القرآن، وجمع بين نفي الجسمية، وبين نفي الحيّز والجهة. يقول في "أساس التقديس" (ص ص30: 32): ‏"﴿‏قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ ۝ اللهُ الصَّمَدُ ۝ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ۝ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏﴾‏ [الإخلاص]. اعلم أنه قد اشتُهر في التفسير أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن ماهية ربه، وعن نعته وصفته، فانتظر الجواب من الله تعالى، فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه السورة. إذا عرفت هذا فنقول: هذه السورة يجب أن تكون من المحكمات لا من المتشابهات؛ لأنه تعالى جعلها جوابًا عن سؤال السائل، وأنزلها عند الحاجة، وذلك يقتضي كونها من المحكمات لا من المتشابهات. وإذا ثبت هذا، وجب الجزم بأن كل مذهب يخالف هذه السورة يكون باطلًا. فنقول: إن قوله تعالى: ‏﴿أَحَدٌ‏﴾ يدل على نفي الجسمية، ونفي الحيِّز والجهة. أما دلالته على أنه تعالى ليس بجسم، فذلك لأن الجسم أقله أن يكون مركبًا من جوهرين، وذلك ينافي الوحدة، ولما كان قوله: ‏﴿أَحَدٌ‏﴾ مبالغة في الواحدية، كان قوله: ‏﴿أَحَدٌ‏﴾ منافيًا للجسمية. والأحد كما يُراد به نفي التركيب والتأليف في الذات، فقد يُراد به أيضًا نفي الضد والند. فلو كان تعالى جوهرًا فردًا لكان كل جوهر فرد مثلًا له، وذلك ينفي كونه أحدًا. ثم أكدوا هذا الوجه بقوله تعالى: ‏﴿‏وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ‏﴾‏ ولو كان جوهرًا، لكان كل جوهر فرد كفوًا له. فدلت هذه السورة من الوجه الذي قررناه على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر، وإذا ثبت أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر، وجب أن لا يكون في شيء من الأحياز والجهات، لأن كل ما كان مختصًا بحيّز وجهة، فإن كان منقسمًا كان جسمًا –وقد بينا إبطال ذلك-، وإن لم يكن منقسمًا كان جوهرًا فردًا –وقد بينا أنه باطل-، ولما بطل القسمان، ثبت أنه يمتنع أن يكون في جهة أصلًا، فثبت أن قوله تعالى: ‏﴿أَحَدٌ‏﴾ يدل دلالة قطعية على أنه تعالى ليس بجسم ولا بجوهر ولا في حيز وجهة أصلًا"أهـ. وقد رد ابن تيمية على الرازي ردودًا تثبت تجسيمه وتجسيم من هم على نهجه.

ويُفرِّق الفخر الرازي بين الحنابلة والكرامية من حيث انسجام ما يدعون عقليًا. يقول في "أساس التقديس" (ص64): "اعلم أن الحنابلة القائلين بالتركيب والتأليف أسعد حالًا من هؤلاء الكرامية، وذلك لأنهم اعترفوا بكونه مركبًا من الأجزاء والأبعاض، أما هؤلاء الكرامية فإنهم زعموا أنه مشار إليه بحسب الحس، وزعموا أنه غير متناه، ثم زعموا مع ذلك أنه واحد لا يقبل القسمة، فلا جرم صار قولهم قولًا على خلاف بديهة العقل".

وقد جعل السلفية لله تعالى صورة وهو (البارئ المصور!!). أورد ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص31) "وقال القاضي أبو يعلى –الحنبلي المجسم-: "يُطلق على الحق تعالى تسمية الصورة لا كالصور كما أطلقنا اسم ذاته". قال ابن الجوزي: وهذا تخليط لأن الذات بمعنى شيء، وأما الصورة فهي هيئة وتخاليط وتأليف، ويفتقر إلى مصور ومؤلف، وقول القائل (لا كالصور) نقض لما قاله، وصار بمثابة من يقول (جسم لا كالأجسام) فإن الجسم ما كان مؤلفًا فإذا قال (لا كالأجسام) نقض ما قال"أهـ.

ويقر الإمام البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص276) برأي ابن الجوزي من استحالة الصورة على الله. يقول: "الصورة هي التركيب، والمُصوِّر هو المركِّب. قال الله عز وجل: ‏﴿‏يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۝‏ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ۝‏ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ﴾ [الانفطار: 6-7-8]، ولا يجوز أن يكون الباري تعالى مصوَرًا ولا أن يكون له صورة؛ لأن الصورة مختلفة، والهيئات متضادة، ولا يجوز اتصافه بجميعها لتضادها، ولا يجوز اختصاصه ببعضها إلا بمخصص، لجواز جميعها على من جاز عليه بعضها، فإذا اختص ببعضها اقتضى مخصصًا خصصه به، وذلك يوجب أن يكون مخلوقًا وهو محال، فاستحال أن يكون مصورًا، وهو الخالق البارئ المصور".

ويقول ابن حزم في "الفِصل" (ج2/باب الكلام في الوجه واليد والعين والقدم والتنزل والعزة ‏والرحمة ‏والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع، ص ص350-351) ردًا على المجسمة: ‏"وأخبر عليه السلام: أن الله تعالى يبدو للمؤمنين يوم القيامة في غير الصورة التي عرفوه عليها، وهذا ظاهر بيّن، وهو أنهم يرون صورة الحال من الهول، والمخافة غير الذي كانوا يظنون في الدنيا. وبرهان صحة هذا القول: قوله عليه السلام في الحديث المذكور غير الذي عرفتموه بها. وبالضرورة نعلم أننا لا نعلم لله عز وجل في الدنيا صورة أصلًا فصح ما ذكرنا يقينًا. وكذلك القول في الحديث الثابت: (خلق الله آدم على صورته)، فهذه إضافة ملك، يريد الصورة التي تخيرها الله عز وجل ليكون آدم مصورًا عليها، وكل فاضل في طبقته، فإنه ينسب إلى الله عز وجل، ويُضاف إليه. كما نقول بيت الله عز وجل عن الكعبة، والبيوت كلها بيوت الله، ولكن لا يطلق على شيء منها هذا الاسم كما يطلق على المسجد الحرام، وكما نقول في جبريل وعيسى عليهما السلام (روح الله) والأرواح كلها لله تعالى، ملك له، وكما نقول في ناقة صالح عليه السلام: (ناقة الله)، والنوق كلها لله تعالى. فعلى هذا المعنى قيل: على صورة الرحمن. والصور كلها لله، وهي ملك له، وخلق له".

يقول البيجوري في "حاشيته على جوهرة التوحيد" (ص158) في تفسير حديث (إن الله تعالى خلق آدم على صورته): "السلف يقولون: صورة لا نعلمها، والخلف يقولون: المراد بالصورة الصفة من سمع وبصر وعلم وحياة، فهو على صفته في الجملة، وإن كانت صفته تعالى قديمة وصفة الإنسان حادثة".

وذكر الإمام تقي الدين الحصني في "دفع شبه من شبه وتمرد" (ص21-22) في حديث (إن ربي أتاني الليلة في أحسن صورة) "رُوي من وجوه كثيرة، فهي أحاديث مختلفة، وليس فيها ما يثبت، مع أن عبد الرحمن لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى وجه التنزل فالمعنى راجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فالمعنى رأيته على أحسن صفاته، أي من الإقبال والرضا ونحو ذلك"، ثم قال الحصني في حديث (خلق الله آدم على صورته) بعد أن ذكر مآخذًا على رواية الحديث: "الصورة يُعبر بها ويُراد الصفة. تقول هذه صورة هذا الأمر أي صفته، فيكون المعنى خلق الله آدم على صفته من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة، ومع ذلك فالضمير يصح عوده إلى آدم عليه السلام، فالمعنى أن الله عز وجل خلق آدم على صورته التي خلقه عليها تامًا لم ينقله من نطفة إلى علقة كبنيه. قال الإمام أبو سليمان الخطابي، وذكره تغلب في أماليه، وقيل إن الضمير يعود إلى بعض بني آدم، وخلق من العلماء سكتوا عن تفسير هذا الحديث، فالمشبِّه لا متمسك له بهذه الأحاديث لما ذكرناه، وتمسكه بها يدل على جهله وزندقته عافانا الله عز وجل من ذلك".

ومما أصروا على إثباته في حق الله تعالى من صفات أفعال على ظاهرها، الضحك، في مخالفة لكل الأمة التي رأت في النصوص التي روت ضحكه سبحانه وتعالى معنى الرضا والقبول. يروي الإمام البيهقي في "الأسماء والصفات" (ص ص432-433) عن أبي سليمان الخطابي، في تفسير حديث "يضحك الله إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة"، قوله: "الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفّهم الفرح، أو يستنفرهم الطرب، غير جائز على الله عز وجل، وهو منفي عن صفاته، وإنما هو مثل ضربه لهذا الصنيع الذي يحل محل العجب عند البشر، فإذا رأوه أضحكهم، ومعناه في صفة الله عز وجل الإخبار عن الرضى بفعل أحدهما، والقبول للآخر، ومجازاتهما على صنيعهما الجنة، مع اختلاف أحوالهما، وتباين مقاصدهما"، ثم روى البيهقي حديثًا مما أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما يُذكر فيه الضحك، ثم نقل عن الخطابي أيضًا قوله: "قال البخاري: معنى الضحك الرحمة، قال أبو سليمان: قول أبي عبد الله –يعني البخاري- قريب، وتأويله على معنى الرضى أقرب وأشبه، ومعلوم أن الضحك من ذوي التميز يدل على الرضى والبشر،......"، ثم أتبع بأشعار، وقال أبو سليمان بنفس التأويل في الرواية التي تذكر "عجب الله". قال: "إطلاق العجب لا يجوز على الله سبحانه ولا يليق بصفاته، وإنما معناه الرضى......"أهـ.

أما عن تحييزهم الله تعالى في مكان، وهو خالق المكان. يقول الإمام الفخر الرازي في "أساس التقديس" (ص16) ردًا على المجسمة من الكرامية والحنابلة: "إن جمهور العقلاء المعتبرين اتفقوا على أنه تعالى ليس بمتحيز ولا مختص بشيء من الجهات، وأنه تعالى غير حال في العالم، ولا مباين عنه في شيء من الجهات". ويضيف (ص35) بالاستدلال بجواب موسى عليه السلام على فرعون عن قوله: ‏﴿وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ‏﴾ [الشعراء: 23] على كونه تعالى غير متحيز. يقول الفخر الرازي: "فلفظة ‏﴿‏مَا‏﴾ سؤال عن الماهية، وطلب للحقيقة، فلو كان تعالى متحيزًا لكان الجواب بذكر كونه متحيزًا أولى من الجواب عنه بذكر كونه خالقًا"أهـ. وروى السبكي في "طبقات الشافعية" (ج9، ص42) " قيل ليحيى بن معاذ الرازي: أخبرنا عن الله عز وجل، قال: إله واحد، فقيل له: كيف هو؟ فقال: مالك قادر، فقيل له: أين هو؟ فقال: بالمرصاد. فقال السائل: لم أسألك عن هذا، فقال: ما كان غير هذا كان صفة المخلوق، فأما صفته فما أخبرت عنه"أهـ. وأقول: يحيى الرازي هنا يتبع نهج موسى عليه السلام في الإجابة على أسئلة فرعون عن الله تعالى، فأجابه بما يليق بجلاله تعالى لا وفقًا لأسئلة السائل التي لا تليق للسؤال عن رب.

ويقول ابن حزم في "الفِصل" (ج2/باب الكلام في المكان والاستواء، ص ص287-288): " قول الله عز وجل يجب حمله على ظاهره ما لم يمنع من حمله على ظاهره نص آخر أو إجماع أو ضرورة حس. وقد علمنا أن كل ما كان في مكان فإنه شاغل لذلك المكان، ومالئ له ومتشكل بشكل المكان، أو المكان متشكل بشكله، ولا بد من أحد الأمرين ضرورة، وقد علمنا أن ما كان في مكان فإنه شاغل لذلك المكان، ومتناه بتناهي مكانه، وهو ذو جهات ست أو خمس متناهية في مكانه، وهذه كلها صفات الجسم، فلما صح ما ذكرنا علمنا أن قوله تعالى: ‏﴿‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ‏‏﴾‏‏ ‏[ق: 16] ، ﴿‏وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ‏‏﴾‏‏ ‏[الواقعة: 85] ، ﴿مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ﴾‏‏ [المجادلة: 7] إنما هو التدبير لذلك والإحاطة به فقط ضرورة لانتفاء ما عدا ذلك"أهـ.

وعلّق الشريف الرضى في "مجازات القرآن" (ص309) على آية النجوى، قائلًا: "ظاهر هذا الكلام محمول على المجاز والاتساع، لأن المراد به إحاطته تعالى بعلم نجوى المتناجين، ومعاريض المتخافتين، فكأنه سبحانه يعلم جميع ذلك، سامع للحوار، وشاهد للسرار، ولو حُمل هذا الكلام على ظاهره لتناقض، ألا ترى أنه تعالى لو كان رابعًا لثلاثة في مكان على معنى قول المخالفين –يعني المجسمة- استحال أن يكون سادسًا لخمسة في غير ذلك المكان إلا بعد أن يفارق المكان الأول، ويصير إلى المكان الثاني، فينتقل كما تنتقل الأجسام، ويجوز عليه الزوال والمقام"أهـ.

ورُوي عن الإمام مالك أنه قال عن الحق سبحانه وتعالى: "كان ولا مكان، وهو على ما كان قبل خلق المكان، لم يتغير عما كان". وأقول: طالما أسقطنا المعنى الظاهر الموهم بالمكان، فلا مناص من التفويض أو التأويل، وهو اتفاق الأمة، لكن السلفية لا ينزهونه تعالى عن شغل المكان!

ومن الآيات التي احتج بها الحنابلة لإثبات شغل الله تعالى للمكان، قوله تعالى: ‏‏﴿أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ‏‏﴾‏‏ [الملك: 16]. يرد ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص 25): "قد ثبت قطعًا أن الآية ليست على ظاهرها لأن لفظة (في) للظرفية، والحق سبحانه وتعالى غير مظروف. وإذا منع الحس أن ينصرف إلى مثل هذا بقي وصف العظيم بما هو عظيم عند الخلق"أهـ.

ومثلها قوله تعالى: ‏﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّىٰ إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ ۗ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏‏﴾ [النور: 39]. قال الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تفسير الآية: "المعنى وجد وعد الله سبحانه عند انتهائه إلى منقطع عمله السيء، فكاله بصواعه، وجازاه بجزائه، وذلك يكون يوم المعاد، وعند انقطاع تكليف العباد. وقد قيل أيضًا إن الضمير في قوله تعالى: ‏﴿‏عِندَهُ﴾ يعود إلى الكافر لا إلى عمله، فكأنه تعالى قال: فوجد الله قريبًا منه، أي وجد عقابه مرصدًا له، فأخذه من كثب، وجازاه بما اكتسب، وذلك كقول القائل: الله عند لسان كل قائل، أي يجازيه على قول الحق بالثواب، وعلى قول الباطل بالعقاب، والقولان جميعًا يؤولان إلى معنى واحد"أهـ.

ونسبوا لله تعالى وحاشاه الجهة بالعلو الحسي، وليس علو الجلال والعظمة على خلاف اتفاق المسلمين. قال الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تفسير الآية: ‏﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏‏﴾‏‏ [فاطر:10] "ليس المراد أن هناك على الحقيقة شيئًا يوصف بالصعود، ويرتقي من سِفال إلى علو، وإنما المراد أن القول الطيب والعمل الصالح متقبلان عند الله عز وجل، واصلان إليه سبحانه، بمعنى أنهما يبلغان رضاه، وينالان زلفاه، وأنه تعالى لا يضيعهما، ولا يهمل الجزاء عليهما، وهذا كقول القائل لغيره: قد ترّقى إلى الأمير ما فعلته، أي بلغه ذلك على وجهه وعرفه على حقيقته، وليس يريد به الارتقاء الذي هو الارتفاع وضده الانخفاض. ووجه آخر، قيل إن معنى ذلك صعود الأقوال والأعمال إلى حيث لا يملك الحكم فيه إلا الله تعالى، كما يُقال: ارتفع أمر القوم إلى القاضي، إذا انتهوا إلى أن يحكم بينهم ويفصل خصامهم. ووجه آخر، قيل إن الله سبحانه لمّا كان موصوفًا بالعلو على طريق الجلال والعظمة، لا عن طريق المدى والمسافة، فكل ما يُتقرب به من قول زكي وعمل مرضي، فالإخبار عنه يقع بلفظ الصعود والارتفاع، عن طريق المجاز والاتساع". وقال في تفسير قوله تعالى: ‏﴿رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ‏‏﴾‏‏ [غافر:15] "المعنى أن منازل العز ومراتب الفضل التي يخص بها عباده الصالحين وأولياءه المخلصين رفيعة الأقدار، مشرفة المنار، فالدرجات المذكورة هي التي يرتفع عباده إليها لا التي يرتفع هو بها تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا"أهـ.

ورغم علوه الحسي سبحانه وتعالى عند السلفية، لم يمنع ذلك من أن يفسروا نزوله تعالى بالنزول الحسي أيضًا مخالفة لسائر الأمة في تفسير حديث النزول. في "المنهاج شرح صحيح مسلم" (ج6، ص36) قال الإمام النووي في شرح حديث النزول: "قوله صلى الله عليه وسلم (ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا فيقول من يدعوني فأستجيب له)، هذا الحديث من أحاديث الصفات، وفيه مذهبان مشهوران للعلماء، سبق إيضاحهما في كتاب الإيمان، ومختصرهما أن أحدهما، وهو مذهب جمهور السلف وبعض المتكلمين، أنه يؤمن بأنها حق على ما يليق بالله تعالى، وأن ظاهرها المتعارف في حقنا غير مراد، ولا يُتكلم في تأويلها، مع اعتقاد تنزيه الله تعالى عن صفات المخلوق وعن الانتقال والحركات وسائر سمات الخلق. والثاني، مذهب أكثر المتكلمين وجماعات من السلف، وهو محكى هنا عن مالك والأوزاعي، أنها تتأول على ما يليق بها، بحسب مواطنها، فعلى هذا تأولوا هذا الحديث تأويلين: أحدهما، تأويل مالك بن أنس وغيره، معناه تنزل رحمته وأمره وملائكته، كما يُقال فعل السلطان كذا إذا فعله أتباعه بأمره، والثاني أنه على الاستعارة، ومعناه الإقبال على الداعين بالإجابة واللطف، والله أعلم"أهـ. وقد روى ابن عبد البر أيضًا عن الإمام مالك في "التمهيد" تأويله لحديث النزول بأنه "يتنزل أمره".

ويقول ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص49): "روى حديث النزول عشرون صحابيًا، وقد سبق القول إنه يستحيل على الله عز وجل الحركة والنقلة والتغير، فيبقى الناس رجلين: أحدهما، المتأول بمعنى أنه يقرب برحمته، وقد ذكر أشياء بالنزول كالحديد والأنعام. والثاني، الساكت عن الكلام في ذلك مع اعتقاد التنزيه، والواجب على الخلق اعتقاد التنزيه وامتناع تجويز النقلة، وأن النزول الذي هو انتقال من مكان إلى مكان يفتقر إلى ثلاثة أجسام: جسم عال هو مكان لساكنه، وجسم سافل، وجسم منتقل من علو إلى سفل، وهذا لا يجوز على الله عز وجل. بينما قال ابن حامد –وهو حنبلي مجسم-: "هو على العرش بذاته مماس له وينزل من مكانه الذي هو فيه وينتقل". وهذا رجل لا يعرف ما يجوز على الله تعالى. وقال القاضي أبو يعلى –المجسم الحنبلي- "النزول صفة ذاتية ولا نقول نزول انتقال". وهذا مغالط. ومنهم من قال يتحرك إذا نزل، وما يدري أن الحركة لا تجوز على الله تعالى، وقد حكوا عن الإمام أحمد ذلك وهو كذب عليه. ولو كان النزول صفة ذاتية لذاته كانت صفة كل ليلة تتجدد. وصفاته قديمة كذاته"أهـ.

بينما يرى ابن حزم أن النزول من صفات الفعل، ويستحيل أن يكون من صفات الذات. يقول في "الفِصل" (ج2/باب الكلام في الوجه واليد والعين والقدم والتنزل والعزة ‏والرحمة ‏والأمر والنفس والذات والقوة والقدرة والأصابع، ص ص357-358): "وصحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن (الله تعالى يتنزل في كل ليلة إذا بقي ثلث الليل إلى السماء الدنيا). قال أبو محمد: وهذا إنما هو فعل يفعله الله عز وجل في سماء الدنيا من الفتح لقبول الدعاء، وأن تلك الساعة من مظان القبول والإجابة، والمغفرة للمستغفرين والتائبين، وهذا معهود في اللغة. تقول: نزل فلان عن حقه بمعنى وهبه لي وتطول به علي. ومن البرهان على أنه صفة فعل لا صفة ذات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علّق التنزل المذكور بوقت محدود فصح أنه فعل محدث في ذلك الوقت، مفعول حينئذ. وقد علمنا أن ما لم ينزل فليس متعلقًا بزمان البتة. وقد بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض ألفاظ الحديث المذكور -ما ذلك الفعل المذكور-، وهو أنه ذكر عليه السلام: أن الله عز وجل يأمر ملكًا ينادي في ذلك الوقت بذلك، وأيضًا فإن ثلث الليل مختلف في البلاد باختلاف المطالع والمغارب، يعلم ذلك ضرورة من بحث عنه، فصحّ ضرورة أنه فعل يفعله ربنا تعالى في ذلك لأهل كل أفق. وأما من جعل ذلك نُقلة فقد قدمنا بطلان قوله في إبطال القول بالجسم بعون الله وتأييده. ولو انتقل تعالي لكان محدودًا مخلوقًا مؤلفًا شاغلًا لمكان، وهذه صفة المخلوقين، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا. وقد حمد الله عز وجل لإبراهيم خليله ورسوله وعبده صلى الله عليه وسلم إذ بيّن لقومه بنقلة القمر أنه ليس ربًا. قال تعالى: ‏﴿‏فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ‏‏﴾‏‏ [الأنعام: 76]. وكل منتقل عن مكان فهو آفل عنه. تعالى الله عن هذا. وكذلك القول في قوله تعالى: ‏﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا‏‏﴾‏‏ [الفجر: 22]. وقوله تعالى: ‏﴿هَلْ يَنظُرُوْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللهُ فِيْ ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ‏‏﴾‏‏ [البقرة: 210]. فهذا كله على ما بينا من أن المجيء والإتيان يوم القيامة فعل يفعله الله عز وجل في ذلك اليوم، يسمى ذلك الفعل مجيئًا وإتيانًا، وقد روينا عن أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى أنه قال: ‏﴿‏وَجَاءَ رَبّكَ‏‏﴾‏‏ إنما معناه: وجاء أمر ربك"أهـ.

وأورد الحافظ ابن كثير هذا عن الإمام أحمد بن حنبل في "البداية والنهاية" (ج14، ص386)، في ترجمة الإمام قال: "وكلامه –أي الإمام أحمد– في نفي التَّشبيه ‏وتَرْك الخوضِ في الكلام والتّمسّك بما ورد في الكتاب والسنَّة من الآثار عن النَّبي صلى الله عليه ‏وسلَّم وأصحابه. وروى البيهقي عن الحاكم عن أبي عمرو بن السمّاك عن حنبل أنَّ ‏أحمد بن حنبل تأوّلَ قول الله تعالى: ‏﴿‏وَجَاءَ رَبّكَ‏‏﴾‏‏ أنَّه جاء ثوابه. ثمَّ قال البيهقي: ‏وهذا إسنادٌ لا غبار عليه"أهـ.‏ والنص في كتاب البيهقي يوضح أن ذلك التأويل كان من الإمام أحمد عندما احتج عليه المعتزلة في المناظرة في مجلس الخليفة أثناء محنة خلق القرآن بأحاديث (تجيء سورة البقرة يوم القيامة، وتجيء سورة تبارك)، فقال الإمام: "إنما هو الثواب. قال الله تعالى: ‏﴿‏وَجَاءَ رَبّكَ‏‏﴾ إنما تأتي قدرته، وإنما القرآن أمثال ومواعظ"أهـ.

وينقل الإمام الكوثري في مقدمة كتاب "الأسماء والصفات" للبيهقي (ص10) تعقيب البيهقي كاملًا على تأويل الإمام أحمد لقوله تعالى: ‏﴿‏وَجَاءَ رَبّكَ‏‏﴾. يقول البيهقي: "وفيه دليل على أنه كان لا يعتقد في المجيء الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت به السُنة انتقالًا من مكان إلى مكان، كمجيء ذوات الأجسام ونزولها، وإنما هو عبارة عن ظهور آيات قدرته، فإنهم لمّا زعموا أن القرآن لو كان كلام الله وصفة من صفات ذاته لم يجز عليه المجيء والإتيان، فأجابهم أبو عبد الله –الإمام أحمد- بأنه يجيء ثواب قراءته التي يريد إظهارها يومئذ، فعبّر عن إظهاره إياها بمجيئه. وهذا الجواب الذي أجابهم به أبو عبد الله لا يهتدي إليه إلا الحُذاق من المنزهين عن التشبيه"أهـ.

وذكر الإمام تقي الدين الحصني في "دفع شُبه من شبّه وتمرد" (ص11) "قوله تعالى: ‏﴿‏وَجَاءَ رَبّكَ‏‏﴾. قال الإمام أحمد: معناه جاء أمر ربك. قال القاضي أبو يعلى: قال الإمام أحمد: المراد به قدرته وأمره، وقد بيّنه في قوله تعالى: ﴿‏‏ْيَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ‏﴾ [النحل: 33]‏‏. يشير إلى حمل المطلق على المقيد، وهو كثير في القرآن والسنة والإجماع وفي كلام علماء الأمة لا يجوز عليه الانتقال سبحانه وتعالى. ومثله حديث النزول، وممن صرح بذلك الإمام الأوزاعي والإمام مالك لأن الانتقال والحركة من صفات الحدث، والله عز وجل قد نزّه نفسه عن ذلك"أهـ.

ويقول الإمام الفخر الرازي في "أساس التقديس" (ص107): "نقل الشيخ الغزالي عن أحمد بن حنبل، أنه أقرّ بالتأويل في ثلاثة أحاديث: أحدهما، قوله عليه السلام: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض". وثانيها، قوله عليه السلام: "إني لأجد نفس الرحمن من قِبل اليمن". وثالثها، قوله عليه السلام حكاية عن الله عزّ وجلّ: "أنا جليس من ذكرني""أهـ.

وأقول: إذًا فالإمام أحمد كان ينفي التشبيه، ويؤثر التوقف وليس التفسير وفقًا لظاهر النص، ويؤول إن كان في التأويل تنزيه لله. ولعل قصة الخليل إبراهيم التي جزمت بأن الرب لا يجوز في حقه الوجود في مكان ومفارقته بالانتقال، كانت سببًا في ترك الإمام أحمد للتوقف المشهور عنه وتصريحه بالتأويل في هذه المواضع.

يقول الإمام القرطبي في تفسيره للآية (ج22، ص ص281-282): "قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ أي أمره وقضاؤه، قاله الحسن. وهو من باب حذف المضاف. وقيل: أي جاءهم الرب بالآيات العظيمة، وهو كقوله تعالى: ‏﴿‏إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ‏﴾‏‏ [البقرة: 210]: أي بظلل. وقيل: جُعِل مجيء الآيات مجيئًا له، تفخيمًا لشأن تلك الآيات. ومنه قوله تعالى في الحديث: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني، واستسقيتك فلم تسقني، واستطعمتك فلم تطعمني. وقيل: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾ أي زالت الشُبه ذلك اليوم، وصارت المعارف ضرورية، كما تزول الشُبه والشك عند مجيء الشيء الذي كان يُشك فيه. وقال أهل الإشارة: ظهرت قدرته واستولت، والله جل ثناؤه لا يوصف بالتحول من مكان إلى مكان، وأنَّى له التحول والانتقال، ولا مكان له ولا أوان، ولا يجري عليه وقت ولا زمان؛ لأن في جريان الوقت على الشيء فوت الأوقات، ومن فاته شيء فهو عاجز"أهـ.

ويقول الإمام الطاهر بن عاشور في "التحرير والتنوير": "إسناد المجيء إلى الله إما مجاز عقلي، أي: جاء قضاؤه، وإما استعارة بتشبيه ابتداء حسابه بالمجيء"أهـ.

وفي اللغة أيضًا، جَاءَ الأَمْرَ: فَعَلَهُ، وقَامَ بِهِ، وحدَث، وتحقَّق، فالفعل جاء لا يعني الانتقال والتحول المكاني فقط كما حاولت الإسرائيليات أن تدس علينا في ديننا صورًا حسية مغلوطة تخالف ما نص عليه القرآن لحقيقة ما سيجري يوم القيامة، فالجنة محضرة يوم القيامة والنار محضرة يومئذ، والأقرب أن ذلك بمعنى الإبراز وليس بمعنى الانتقال، واستعمال ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾‏ [الفجر: 23] كاستعمال مجيء الملك الحق سبحانه، والمعنى: أُظهرت لهم جهنم، فعندما قال الحق سبحانه: ﴿وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾‏، ‏فليس يعني هذا أن جهنم قد تحركت من مكانها، وكذا قوله تعالى: ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ﴾، وإن كان انتقال الجنة والنار غير ممتنع على حقيقته مثلما هو ممتنع تمام الامتناع في حق الله سبحانه وتعالى، ولكن المجاز قد يكون أقرب خاصة في حالة الجحيم توفيقًا مع آيتي ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ﴾. قال تعالى: ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى﴾‏ [النازعات:36]، وقال تعالى: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ﴾‏ [الشعراء: 90-91] وعدًا لمن استحق الثواب بإبراز الجنة لهم (مجاز) أو تقريبها منهم (حقيقة)، ووعيدًا للكافرين بإبراز النار لهم.

وقال الزمخشري –وهو معتزلي- في تأويل قوله تعالى: ‏﴿‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ‏﴾‏‏ [البقرة: 210]: "إتيان اللَّه إتيان أمره وبأسه، كقوله: ‏﴿َ‏‏ْيَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ‏﴾ [النحل: 33]‏‏، ‏﴿‏جاءَهُمْ بَأْسُنا‏﴾‏‏ [الأنعام: 43]. ويجوز أن يكون المأتي به محذوفًا، بمعنى أن يأتيهم اللَّه ببأسه أو بنقمته للدلالة عليه بقوله: ‏﴿‏فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ‏﴾‏‏. فإن قلت: لِمَ يأتيهم العذاب في الغمام؟ قلت: لأنّ الغمام مظنة الرحمة، فإذا نزل منه العذاب كان الأمر أفظع وأهول، لأن الشر إذا جاء من حيث لا يُحتسب كان أغمّ، كما أن الخير إذا جاء من حيث لا يُحتسب كان أسرّ، فكيف إذا جاء الشر من حيث يُحتسب الخير، ولذلك كانت الصاعقة من العذاب المستفظع لمجيئها من حيث يتوقع الغيث"أهـ.

ومن أشهر أمثلة تفويض وتوقف السلف تفسيرهم آيات الاستواء، فقد ثبت عن أغلب أئمة الصحابة والتابعين أنهم قد توقفوا في أمر الاستواء، قال ابن كثير في تفسيره لآية الاستواء عن العرش بسورة الأعراف (ج3، ص ص426-427): "وأما قوله تعالى: ‏﴿‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏‏﴾‏‏ [الأعراف: 54] و [يونس:3] و [الرعد: 2] و [الفرقان:59]  و [السجدة: 4] و [الحديد: 4]، فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدًا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما يُسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح: مالك، والأوزاعي، والثوري، والليث بن سعد، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وإسحق بن راهويه وغيرهم، من أئمة المسلمين قديمًا وحديثًا، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل. والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه، و ‏﴿‏لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ‏‏﴾‏‏ [الشورى:11]"أهـ.

وأورد الألوسي في تفسيره "روح المعاني" (ج6، ص ص193-194) "أن العرش مما لا يعلمه البشر (على الحقيقة) إلا بالاسم، وليس هو كما تذهب إليه أوهام العامة فإنه لو كان كذلك لكان حاملًا له تعالى عن ذلك لا محمولًا، وليس كما قال قوم: إنه الفلك الأعلى، والكرسي فلك الكواكب" وفيه نظر، والناس في الكلام على هذه الآية ونحوها مختلفون، فمنهم من فسر العرش بالمعنى المشهور، وفسر الاستواء بالاستقرار، ورُوي ذلك عن الكلبي ومقاتل، ورواه البيهقي في كتابه "الأسماء والصفات" بروايات كثيرة عن جماعة من السلف وضعّفها كلها. وما رُوي عن مالك رضي الله تعالى عنه "أنه سُئل كيف استوى؟ فأطرق رأسه مليًا حتى علته الرحضاء ثم رفع رأسه فقال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ثم قال للسائل: وما أظنك إلا ضالًا، ثم أمر به فأخرج" ليس نصًا في هذا المذهب لاحتمال أن يكون المراد من قوله: غير مجهول أنه ثابت معلوم الثبوت، لا أن معناه وهو الاستقرار غير مجهول"أهـ.

وأورد الحصني في "دفع شبه من شبّه وتمرد" (ص ص29-30) قول الأئمة الأربعة في الاستواء، قال: "سُئل الإمام أحمد قدس الله روحه عن الاستواء فقال: "هو كما أخبر لا كما يخطر بالبشر"، يقول الحصني: "فانظر وفقك الله وأرشدك إلى الحق إلى هذه العبارة ما أرشقها، وعلى أتباعه ما أشقها". ثم يتبع الحصني (ص ص31-32) فيقول: "وسُئل الإمام الشافعي قدس الله روحه عن الاستواء فقال: "آمنت بلا تشبيه، وصدّقت بلا تمثيل، واتهمت نفسي في الإدراك، وأمسكت عن الخوض فيه كل الإمساك". يقول الحصني: "وهذا شأن الأئمة، يمسكون أعنة الخوض في هذا الشأن مع أنهم أعلم الناس به، ولا يخوض فيه إلا أجهل الناس به". ويعني الحصني أنهم أقدر الناس على استخلاص المعاني، ولكنهم يتوقفون، بينما يصرّ الجهلة ويبادرون لإثبات معنى غير مراد ويستحيل في حق الله، ثم يتبع الحصني، "وسُئل الإمام أبو حنيفة قدس الله روحه عن ذلك، فقال: "من قال لا أعرف الله أفي السماء أم في الأرض فقد كفر، لأن هذا القول يؤذن أن لله سبحانه وتعالى مكانًا، ومن توهم أن لله مكانًا فهو مشبه"، ثم أردف، وسُئل الإمام مالك عن الاستواء فقال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، فنفى العلم بالكيف، فمن استدل بكلامه على أنه سبحانه وتعالى فوق عرشه فهو لجهله وسوء فهمه، و(الاستواء معلوم) يعني عند أهل اللغة، و(الكيف مجهول) أي بالنسبة إلى الله عز وجل، لأن الكيف من صفات الحدث، وكل ما كان من صفات الحدث فالله عز وجل منزه عنه، فإثباته له سبحانه كفر محقق عند جميع أهل السنة والجماعة، وقوله (والإيمان به واجب) أي على الوجه اللائق بعظمته وكبريائه، وقوله (والسؤال عنه بدعة) لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا عالمين به وبمعناه اللائق بحسب اللغة فلم يحتاجوا إلى السؤال عنه، فلما ذهب العالمون به وحدث ما لم يعلم أوضاع لغتهم، ولا له نور كنورهم، شرع يسأل الجهلة بما يجوز على الله عز وجل، وفرح بذلك أهل الزيغ فشرعوا يدخلون الشبه على الناس، ولذلك تعين على أهل العلم أن يبينوا للناس وأن لا يهملوا البيان، لقوله تعالى: ‏﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ‏‏﴾‏‏ [آل عمران: 187]‏‏. فهذه الأئمة التي مدار الأمة عليهم في دينهم متفقون في العقيدة، فمن زعم أن بينهم اختلافًا في ذلك فقد افترى على أئمة الإسلام والمسلمين، والله حسبه، وسيجزي الله المفترين"أهـ.

وذكر البيجوري في "حاشيته على جوهرة التوحيد" (ص ص157-158) "وسأل الزمخشري الغزالي –أي عن الاستواء-، فأجابه بقوله: إذا استحال أن تعرف نفسك بكيفية أو أينية، فكيف يليق بعبوديتك أن تصفه تعالى بأين أو كيف؟ وهو مقدس عن ذلك، ثم جعل يقول:

قل لمن يفهم عني ما أقول **** قصِّر القول فذا شرح يطول

ثم سر غامض من دونه **** قصرت والله أعناق الفحول

أنت لا تعرف إياك ولا **** تدر من أنت ولا كيف الوصول

لا ولا تدري صفات رُكِّبت **** فيك حارت في خفاياها العقول

أين منك الروح في جوهرها **** هل تراها فترى كيف تجول

وكذا الأنفاس هل تحصرها **** لا ولا تدري متى عنك تزول

أين منك العقل والفهم إذا **** غلب النوم فقل لي يا جهول

أنت أكل الخبز لا تعرفه **** كيف يجري منك أم كيف تبول

فإذا كانت طواياك التي **** بين جنبيك كذا فيها ضلول

كيف تدري من على العرش استوى **** لا تقل كيف استوى كيف النزول

كيف يحكي الرب أم كيف يُرى **** فلعمري ليس ذا إلا فضول

فهو لا أين ولا كيف له **** وهو رب الكيف والكيف يحول

وهو فوق الفوق لا فوق له **** وهو في كل النواحي لا يزول

جلّ ذاتًا وصفاتًا وسما **** وتعالى قدره عما تقول

وقال ابن الجوزي في "دفع شبهة التشبيه" (ص20): "روى إسماعيل بن أبي خالد الطائي: "جميع السلف على إيراد هذه الآية كما جاءت من غير تفسير ولا تأويل". وقد حمل قوم من المتأخرين –يقصد بهم الحنابلة- هذه الصفة على مقتضى الحس؛ فقالوا استوى على العرش بذاته. وهذه زيادة لم ينقلوها إنما فهموها من إحساسهم، وهو أن المستوي على الشيء إنما يستوي عليه ذاته. قال ابن حامد –الحنبلي المجسم- الاستواء مماسة وصفة لذاته والمراد به القعود"أهـ.

كما أورد الحصني في "دفع شبه من شبّه وتمرد" (ص28) بعض مما تفرّد به هؤلاء من مجسمة الحنابلة في الاستواء عن سائر سلف الأمة. قال: "هذا القاضي –يعني أبا يعلى- روى عن الشعبي أنه قال إن الله قد ملأ العرش حتى أن له أطيطًا كأطيط الرحل، وهو كذب على الشعبي، وقال بعضهم: ‏﴿‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏‏﴾‏‏ قعد عليه. وقال ابن الزاغوني: خرج عن الاستواء بأربع أصابع. ولهم ولأتباعهم مثل ذلك خبائث كلها صريحة في التشبيه والتجسيم لا سيما في مسألة الاستواء، وهو سبحانه وتعالى متنزه عما لا يليق به من صفات الحدث، ثم إن هؤلاء الجمادات وأعالي الجهلة يلزمهم أن يقولوا في الحديث الذي رواه مسلم وغيره ما لم يمكن القول به من أجهل الناس: "ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها" الخ، وبالضرورة لا يكون سبحانه جارحة لعبده، ومع هذا يلزم التعدد بحسب المتقربين والتجزئة والتفرقة وغير ذلك مما لا يقوله حمار، بل ولا جماد. تعالى الله وتقدس عن ذلك"أهـ.

بينما حاول بعض علماء الأمة من المتقدمين تأويل الاستواء تنزيهًا لله تعالى. يقول شيخ مفسري القرآن الإمام الطبري في تفسيره: "قال أبو جعفر: اختلفوا في تأويل قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏‏﴾ [البقرة: 29] فقال بعضهم: معنى استوى إلى السماء، أقبل عليها. وقال بعضهم: لم يكن ذلك من الله جل ذكره بتحوُّل، ولكنه بمعنى فعله، كما تقول: كان الخليفة في أهل العراق يواليهم، ثم تحوَّل إلى الشام. إنما يريد: تحوّل فِعله. وقال بعضهم: قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏‏﴾ يعني به: استوت، وقال بعضهم: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ‏‏﴾ عمدَ لها. وقال: بل كلُّ تارك عملًا كان فيه إلى آخر، فهو مستو لما عمد له، ومستوٍ إليه. وقال بعضهم: الاستواء هو العلو، والعلوّ هو الارتفاع. وممن قال ذلك الربيع بن أنس. ثم اختلف متأوّلو الاستواء بمعنى العلوّ والارتفاع، .... قال أبو جعفر: الاستواء في كلام العرب منصرف على وجوه: منها انتهاءُ شباب الرجل وقوّته، فيقال، إذا صار كذلك: قد استوى الرّجُل. ومنها استقامة ما كان فيه أوَدٌ من الأمور والأسباب، يقال منه: استوى لفلان أمرُه. إذا استقام بعد أوَدٍ، ومنها: الإقبال على الشيء يقال استوى فلانٌ على فلان بما يكرهه ويسوءه بَعد الإحسان إليه. ومنها. الاحتياز والاستيلاء، كقولهم: استوى فلان على المملكة. بمعنى احتوى عليها وحازَها. ومنها: العلوّ والارتفاع، كقول القائل، استوى فلان على سريره. يعني به علوَّه عليه"أهـ.

ويقول الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تفسير قوله تعالى: ‏﴿‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏‏﴾‏‏ [يونس:3]: "هذه استعارة، لأن حقيقة الاستواء إنما تُوصف بها الأجسام التي تعلو وتهبط وتميل وتعتدل، والمراد بالاستواء ههنا الاستيلاء بالقدرة والسلطان، لا بحلول القرار والمكان، كما يُقال: استوى فلان على سرير ملكه، بمعنى استولى على تدبير الملك، وملك معقد الأمر والنهي، ويحسن صفته بذلك، وإن لم يكن له في الحقيقة سرير يقعد عليه، ولا مكان عال يشار إليه، وإنما المراد نفاذ أمره في مملكته واستيلاء سلطانه على رعيته. فإن قيل: فالله سبحانه مسئول على كل شيء بقهره وغلبته ونفاذ أمره وقدرته، فما معنى اختصاص العرش بالذكر ههنا؟، قيل: كما ثبت أنه تعالى رب لكل شيء، وقد قال في صفة نفسه: ‏﴿‏رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ‏‏﴾ [التوبة: 129] و [ النمل: 26]، وقال: ‏﴿رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ‏‏﴾ [المؤمنون: 116]. فإن قيل: فما معنى قولنا: عرش الله إن لم يُرد بذلك كونه عليه؟، قيل: كما يُقال: بيت الله، وإن لم يُرد كونه فيه، والعرش في السماء تطوف به الملائكة تعبدًا، كما أن البيت في الأرض تطوف به الخلائق تعبدًا"أهـ.

ومن تأويلات المتأخرين، يقول الألوسي في تفسيره (ج11، ص ص64-65): "‏‏﴿‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏‏﴾‏‏ على المعنى الذي أراده سبحانه وكف الكيف مشلولة، وقيل: الاستواء على العرش مجاز عن الملك والسلطان، متفرع عن الكناية فيمن يجوز عليه القعود على السرير. يُقال: استوى فلان على سرير الملك، ويُراد منه ملك، وإن لم يقعد على السرير أصلًا؛ وقيل: إن الاستواء بمعنى الاستيلاء، وأرجعوه إلى صفة القدرة. وأنت تعلم أن هذا وأمثاله من المتشابه وللناس فيه مذاهب، وما أشرنا إليه هو الذي عليه أكثر سلفة الأمة رضي الله تعالى عنهم، وقد صرح بعض أن الاستواء صفة غير الثمانية لا يعلم ما هي إلا من هي له، والعجز عن درك الإدراك إدارك، واختار كثير من الخلف أن المراد بذلك المُلك والسلطان، وذكره لبيان جلالة ملكه وسلطانه سبحانه، بعد بيان عظمة شأنه وسعة قدرته، بما مر من خلق هاتيك الأجرام العظيمة. وذهب المعتزلة وجماعة من المتكلمين إلى أن العرش على معناه، واستوى بمعنى استولى واحتجوا عليه بقوله: قد استوى بشرى على العراق *** من غير سيف ودم مهراق، وخص العرش بالإخبار عنه بالاستيلاء عليه لأنه أعظم المخلوقات، ورد هذا المذهب بأن العرب لا تعرف استوى بمعنى استولى، وإنما يقال استولى فلان على كذا إذا لم يكن في ملكه ثم ملكه واستولى عليه، والله تعالى لم يزل مالكًا للأشياء كلها ومستوليًا عليها ونُسب ذلك للأشعرية"أهـ.

وأقول: لولا أن السلفية مجسمة، يقيسون الله على عباده ويجسموه، ما فسروا الاستواء بالقعود، لأن الاستواء بالنسبة للخلق قد يعني التمام على أحسن ما يُراد للمخلوقات، ولأنه لا شيء في الآية يشي بأن الاستواء هو القعود إلا إن توهموه سبحانه جسمًا. يقول الشريف الرضى في "مجازات القرآن" في تفسير قوله تعالى ‏﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ‏‏﴾ [البقرة: 29]: "أي قصد إلى خلقها كذلك، لأن حقيقة الاستواء الذي هو تمام بعد نقصان، أو استقامة بعد اعوجاج، من صفات الأجسام، وعلامات المحدثات"أهـ.

وحتى الإمام ابن حزم الظاهري كان من المؤولين للاستواء لامتناع أن يكون المعنى على ظاهره في حق الله سبحانه وتعالى. يقول ابن حزم في "الفِصل" (ج2/باب الكلام في المكان والاستواء، ص ص290-292): ‏"والقول الرابع في معنى الاستواء هو أن معنى قوله تعالى ‏﴿‏عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى‏‏﴾ [طه: 5]‏‏: أنه فعل فعله في العرش وهو انتهاء خلقه إليه، فليس بعد العرش شيء، ويبين ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنات، وقال: فاسألوا الله الفردوس الأعلى فإنه وسط الجنة وأعلى الجنة، وفوق ذلك عرش الرحمن، فصح أنه ليس وراء العرش خلق، وأنه نهاية جرم المخلوقات الذي ليس خلفه خلاء ولا ملاء، ومن أنكر أن يكون للعالم نهاية من المساحة والزمان والمكان أو من جرمه فقد لحق بقول الدهرية وفارق الإسلام. والاستواء في اللغة يقع على الانتهاء، قال الله تعالى: ‏﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا‏‏﴾‏‏ [القصص: 14] أي: فلما انتهى إلى القوة والخير. وقال تعالى: ‏﴿‏ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ‏‏﴾‏‏ [فصلت: 11]. أي أن خلقه وفعله انتهى إلى السماء بعد أن رتب الأرض على ما هي عليه، وبالله تعالى التوفيق. وهذا هو الحق وبه نقول لصحة البرهان به وبطلان ما عداه. فأما القول الثالث في المكان فهو أن الله تعالى لا في مكان ولا في زمان أصلًا، وهو قول الجمهور من أهل السنة، وبه نقول، وهو الذي لا يجوز غيره لبطلان ما عداه، ولقوله تعالى: ‏﴿أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ‏‏﴾‏‏ [فصلت: 54]‏‏. فهذا يوجب ضرورة أنه تعالى لا في مكان إذ لو كان في المكان لكان المكان محيطًا به من جهة ما أو من جهات، وهذا منتفٍ عن الباري تعالى بنص الآية المذكورة، والمكان شيء بلا شك، فلا يجوز أن يكون شيء في مكان ويكون هو محيطًا بمكانه، وهذا محال في العقل يعلم امتناعه ضرورة. وبالله التوفيق. وأيضًا فإنه لا يكون في مكان إلا ما كان جسمًا أو عرضًا في جسم، هذا الذي لا يجوز سواه، ولا يتشكل في العقل والوهم غيره البتة، فإذا انتفى أن يكون الله عز وجل جسمًا أو عرضًا فقد انتفى أن يكون في مكان أصلًا، وبالله تعالى نتأيد. وأما قوله تعالى: ‏﴿وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ‏‏﴾‏‏ [الحاقة: 17]، فقوله الحق نؤمن به يقينًا، والله أعلم بمراده في هذا القول، ولعله عز وجل عنى السموات –السبع- والكرسي، فهذه ثمانية أجرام، هي يومئذ والآن بيننا وبين العرش، ولعلهم أيضا ثمانية ملائكة، والله أعلم. نقول ما قال ربنا تعالى ونقطع أنه حق يقين على ظاهره، وهو أعلم بمعناه ومراده. وأما الخرافات فلسنا منها في شيء، ولا يصح هذا في خبر عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنا نقول: هذه غيوب لا دليل لنا على المراد بها، لكنا نقول: ﴿آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا﴾ [آل عمران: 7]‏، وكل ما قاله الله تعالى حق ليس منه شيء منافيًا للمعقول، بل هو كله قبل أن يخبرنا الله به في حد الإمكان عندنا، ثم إذا أخبر به عز وجل صار واجبًا حقًا يقينًا، وقد قال تعالى: ‏﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ‏‏﴾‏‏ [غافر: 7]‏‏، فصحّ يقينًا أن للعرش حملة، وهم الملائكة المنقادون لأمره تعالى، كما نقول أنا أحمل هذا الأمر أي أقوم به وأتولاه، وقد قال تعالى: ‏﴿‏وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ‏‏﴾ [النحل:50] و [التحريم: 6]‏‏. وأنهم يتنزلون بالأمر، وأما الحامل للكل والممسك للكل فهو الله عز وجل، قال الله تعالى: ‏﴿‏إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ﴾ [فاطر: 41]‏‏"أهـ.

وابن حزم هنا يوافق ما نُسِب إلى الفضيل بن عياض والأشعري وغيرهم، من أن الاستواء صفة فعل، محله العرش، كما أن ابن حزم يقول الشيء نفسه في النزول، فهو فعل فعله الله في السماء سمّاه نزولًا، لأن ذات الله تعالى ليست محلًا للحوادث. ولا يسمى الاستواء والنزول صفتي معاني لأنه ليست لهما حقيقة وجودية تقوم بذات الله. فخلاصة قول أهل السُنة في الاستواء إما التفويض مع نفي الظاهر، أو التأويل، أو اعتباره صفة فعل، ولم يدَّع أحد أنه صفة ذات غير مجسمة السلفية، وحتى كبار علمائهم نفروا من ذلك الادعاء. وفي ترجمة الذهبي في ‏"سير أعلام النبلاء" (ج 19، ص ص606-607)‏ لأبي الحسن ابن الزاغوني الحنبلي المجسِّم، ذكر أمر قصيدته التي شرح فيها عقيدته، وفيها بيت من الشعر قال فيه:‏

عالٍ على العرش الرفيع بذاته***سبحانه عن قول غاوٍ وملحد

قال الذهبي –وهو من كبار منتحلي عقيدة الحنابلة-: "وقد ذكرنا أن لفظة "بذاته" لا حاجة إليها، وهي تشغب النفوس، ‏وتركها أولى".

وغير ذلك من نسبتهم الجوارح والأفعال إلى الله الكثير مما لا تليق به سبحانه؛ فأصرت الفرقة المسماة بالسلفية على مخالفة سائر الأمة قديمها وحديثها، والقطع وفقًا لظاهر النص بأن الاستواء يعني الجلوس والاستقرار على العرش، وأن ملائكة عظام يحملون العرش والله تعالى -وحاشاه- جالس عليه، وينسبون لله القدمين ويقولون والكرسي موضع قدميه والعياذ بالله، مع ما في ذلك من تجسيم وتقليل من شأن الله بجعله محمولًا على شيء من خلقه. والأهم أن من بين من خالفوا من يدعون أنه إمامهم.

ويرتبط باعتقادهم الشاذ في الاستواء عقيدة أخرى هي عقيدة الإقعاد؛ حيث يدّعون أن المقام المحمود الذي وعد الله به نبيه صلى الله عليه وسلم ليس إعطائه الشفاعة يوم القيامة، بل إقعاده بجانبه على العرش! وعقيدة الإقعاد هي فكرة إسرائيلية وتوجد أيضًا في عقائد النصارى. ورد في قاموس الكتاب المقدس- دائرة المعارف الكتابية المسيحية (ص 795) "وقد وصُف يسوع بأنه رئيس كهنة المؤمنين العظيم، الذي نضح قدس الأقداس بدمه، والذي جلس عن يمين الآب هناك، حيث هو الآن يشفع فيهم (عب 4: 14 و7: 25 و9: 12 الخ...)". وقد سبق أن قلنا إن أساس الحشوية هي اتصالهم باليهود والنصارى.

وبالنظر في الروايات التي أثبت بها السلفية -مدّعو التمسك بالنصوص- عقيدة الإقعاد، سنجد أن أيًا منها لا ينتهي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، بل هي مما رواه شخص اسمه سيف السدوسي عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه الحبر اليهودي الذي أسلم على زمن الرسول، وسيف السدوسي هذا من المجاهيل عند أهل الحديث، فلا يُعبأ بروايته خاصة إن كانت في أمر العقائد، أما النصف الثاني من الروايات فهي تفسير لآية المقام المحمود تفرّد به مجاهد بن جبر، ونقله عنه الليث بن سعد، وخالف به جموع المفسرين، بل وخالف متون الروايات التي صحّت عن الرسول صلى الله عليه وسلم، التي أثبتت أنه سُئل عن المقام المحمود فأجاب بأنه الشفاعة.

وقد عمد أبو بكر الخلال الحنبلي إلى جمع كل تلك الروايات الساقطة في كتابه "السُنة" (ج1)، وأفرد لها فصلًا كاملًا تحت عنوان (ذكر المقام المحمود)، ومن تلك الروايات‏: (307) "حدثنا أبو بكر، قال: ثنا عباس العنبري، قال: ثنا يحيى بن كثير، قال: ثنا سلم بن جعفر، وكان، ثقة عن الجريري، عن سيف السدوسي، عن عبد الله بن سلام: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة على كرسي الرب". قيل للجريري: إذا كان على كرسي الرب فهو معه، قال: نعم، وزادني إبراهيم الأصبهاني في هذا الحديث، عن عباس بإسناده، قال: قال الجريري: "ويحكم، ما في الدنيا حديث أقر لعيني من هذا الحديث". ويمكن الرجوع لكتاب الخلال للاستزادة من تلك الروايات، وكلها بالألفاظ ذاتها تقريبًا.

أما عن الروايات التي تعود كلها إلى مجاهد بن جبر، وتثبت تفسيره للمقام المحمود بالإقعاد، فقد زاد الحنابلة عن مجاهد بأن اتهموا رافضي هذا التفسير بالتبديع. ومنها: (303) "قال أبو بكر: سألت أبا قلابة عن حديث ابن فضيل هذا، فقال: حدثنا عمرو بن علي بن بحر بن كنيز، قال: ثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: ‏﴿‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏‏﴾‏‏ [الإسراء:79]، قال: "يقعده على العرش"، قال أبو قلابة: لا يرد هذا إلا أهل البدع والجهمية".

وفي رواية ثانية (314) ، "حدثنا أبو بكر، قال: "سألت الحسن بن الفضل عن حديث مجاهد: "يقعده على العرش"، فقال: حدثنا هارون بن معروف، وعثمان، عن ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد: ‏﴿‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏‏﴾‏‏ [الإسراء:79]، قال: "يقعده على العرش"، قال: وقال: من رد هذه الأحاديث فهو مبتدع ضال. قال: ما أدركنا أحدًا يرده إلا من في قلبه بلية، يُهجر ولا يُكلم".

وفي رواية ثالثة (310)، حدثنا أبو بكر، قال: ثنا محمد بن عمر المصيصي، قال: "ثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، في قول الله عز وجل: ‏﴿‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏‏﴾‏‏ [الإسراء:79]، قال: "يقعده معه على العرش"، قال: فمن رد حديث عبد الله بن سلام وحديث مجاهد في المقام المحمود، فقد أزرى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ورد فضله، وكان عندنا مبتدعًا".

وفي رواية رابعة (311)، حدثنا أبو بكر، قال: ثنا أبو الفضل عباس بن محمد الدوري، قال: "سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام، يقول: هذه الأحاديث حق لا يُشك فيها، نقلها الثقات بعضهم عن بعض حتى صارت إلينا، نُصدق بها، ونُؤمن بها على ما جاءت. قال أبو الفضل: ونحن نقول في هذه الأحاديث ما قال أحمد بن حنبل متبعين له ولآثاره في ذلك".

وأقول: فما بال الإمام أحمد لم يرو تلك الأحاديث في مسنده، بينما روى الحديث الذي يُثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فسر المقام المحمود بالشفاعة؟! والله لقد كذبتم على أحمد بن حنبل.

والأعظم كان فتوى بعضهم بقتل راديّ هذا التفسير، حيث ورد أيضًا في كتاب الخلَّال: (304) حدثنا أبو بكر، قال: جاءني كتاب علي بن سهل بخطه، وفيه حدثنا هارون بن معروف، وخلاد بن أسلم، قالا: ثنا محمد بن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: ‏﴿‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏‏﴾‏‏ [الإسراء:79]، قال: "يجلسه على العرش". وهذه فضيلة للنبي صلى الله عليه وسلم فمن ردّ فضيلة النبي صلى الله عليه وسلم فهو كافر، ولقد قال سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى: قلت لأبي: لو رأيت رجلًا يسب أبا بكر ما كنت صانعًا به؟ قال: أقتله، قلت: فعمر؟، قال: أقتله، فهي لأبي بكر وعمر، فكيف بمن رد فضائل النبي؟".

فهل من فضائل النبي ما يقتضي الإيمان بتجسيم الله كما يعتقد الحشوية؟! جاء في كتاب الخلّال أيضًا، (320) حدثنا أبو بكر، قال: ثنا أبو بكر بن خلاد الباهلي، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن عبيد بن عمير: ‏﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى‏‏﴾‏‏ [ص: 25]، قال: "ذكر الدنو حتى يمس بعضه"!، وفي رواية أخرى، (323) حدثنا أبو بكر، قال: حدثني محمد بن بشر، قال: ثنا عبد الرحمن بن شريك، قال: ثنا أبي قال: حدثني أبو يحيى القتات، وإسماعيل بن عبد الله السدي، قال أبو يحيى: عن مجاهد، وقال السدي: عن أبي مالك، عن ابن عباس، في قوله: ‏﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى‏‏﴾‏‏ [ص: 25]، قال: "يدنو منه حتى يقال له: خذ بقدمي"! وأقول: ثم يتعجبون أن يُقال لهم مجسمة!

وعلى ذكر الدنو والقرب من الذات، أورد الحصني في "دفع شُبه من شبّه وتمرد" (ص27) قول القاضي أبي يعلى الحنبلي المجسم في حديث (لما قضى الله الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش أن رحمتي غلبت غضبي) إن ظاهر قوله (عنده) القرب من الذات. قال الحصني: "وما قاله يستدعي القرب والمساحة، وذلك من صفات الأجسام، وقد عمي عن قوله تعالى: ‏﴿‏مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ‏‏﴾ [هود: 83]. ومن المعلوم أنك تقول عندي فوق الغرفة كتاب كذا، وهو في موضع شاسع نازل عن الغرفة بمسافة بعيدة"أهـ.

والغريب أن الإمام الطبري في تفسيره (ج15، ص ص114-115) قد أورد اسم ابن عباس -الذي يفترون عليه في رواية ‏﴿وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى‏‏﴾‏‏ [ص: 25]‏‏- من بين الصحابة والتابعين الذين ورد عنهم أن المقام المحمود هو الشفاعة، بل وأورد الطبري اسم مجاهد بن جبر فيهم!

وكما رأينا فقد تباروا في سرد الروايات لإثبات نسبة ذلك التفسير إلى مجاهد بن جبر كما لو كان حديثًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وكال الخلّال الاتهامات لكل من رد هذا التفسير واعتبره جهميًا لذلك. ولم يورد الخلال في المقابل أي رواية من صحاح الروايات التي أثبتت الشفاعة كتفسير للمقام المحمود، وليس هذا بغريب عليهم، والسؤال: ما قيمة ذلك التفسير الشاذ العجيب الذي تفرّد به مجاهد ليلزموا به أنفسهم خروجًا عن إجماع المفسرين، بل ويكفروا من لا يوافقهم فيه حتى ثارت الفتن مرات بسببه، وأشهرها فتنة حدثت سنة 317هـ وأُريقت فيها دماء المسلمين؟ خاصة مع وجود متون روايات أخرى لأحاديث المقام المحمود تثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه فسره بالشفاعة، مع كونه قول باقي المفسرين من الصحابة والتابعين وكبار الأئمة.

ومن تلك الروايات الصحيحة، روى البخاري في صحيحه كتاب التفسير باب قوله ‏﴿‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏‏﴾‏‏ [الإسراء:79]، حديث (4718): (حدثني إسماعيل بن أبان حدثنا أبو الأحوص عن آدم بن علي قال: سمعت ابن عمر رضي الله عنهما يقول: إن الناس يصيرون يوم القيامة جثًا، كل أمة تتبع نبيها، يقولون: يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود. وروى في باب (من سأل الناس تكثرًا)، حديث (1475): (حدثنا يحيى بن بُكير: حدثنا الليث، عن عبيد الله بن أبي جعفر قال: سمعت حمزة بن عبد الله بن عمر قال: ‏سمعت عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال:‏ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن ‏الشمس تدنو يوم القيامة، حتى يبلغ العرق نصف الأذن، فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم، ثم بموسى، ثم ‏بمحمد صلى الله عليه وسلم".‏ وزاد عبد الله بن صالح: حدثني الليث: حدثني ابن أبي جعفر: "فيشفع ليُقضى بين الخلق، فيمشي حتى يأخذ بحلقة ‏الباب، فيومئذ يبعثه الله مقامًا محمودًا، يحمده أهل الجمع كلهم".‏ وقال مُعلى: حدثنا وهيب، عن النعمان بن راشد، عن عبد الله بن مسلم، أخي الزهري، عن حمزة: سمع ‏ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة.‏ كما روى الإمام البخاري في صحيحه الحديث (7440) وهو حديث مطول يذكر سؤال الناس للأنبياء أن يشفعوا لهم حتى ينتهي الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم فيشفع لهم، ويثبت في نهاية الحديث "وهذا المقام المحمود الذي وُعده نبيكم صلى الله عليه وسلم".

كما أخرج الإمام أحمد في مسنده 3/456 (15821)- حدثنا عبد الله، حدثني أبي، ثنا يزيد بن عبد ربه، قال: حدثني محمد بن حرب، قال: حدثني الزبيدي، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك، عن كعب بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يُبعث الناس يوم القيامة، فأكون أنا وأمتي على تل، ويكسوني ربي تبارك وتعالى حلة خضراء، ثم يُؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول فذاك المقام المحمود". وبمسنده حديث آخر مطول 1/398 (3787) وحديث 2/441 (9682) وحديث 2/444 (9733) كلها في الباب ذاته.

‏وروى الترمذي حديث (3137) (5/303)‏، عن أبي هريرة قال: ‏قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ‏﴿‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏‏﴾‏‏ سُئل عنها ‏قال: "هي الشفاعة". 

وقال الفخر الرازي في تفسيره (ج21، ص32): "في تفسير المقام المحمود أقوال: الأول، أنه الشفاعة. قال الواحدي: أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية «هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي»، وأقول: اللفظ مشعر به، وذلك لأن الإنسان إنما يصير محمودًا إذا حمده حامد، والحمد إنما يكون على الإنعام؛ فهذا المقام المحمود يجب أن يكون مقامًا أنعم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه على قوم، فحمدوه على ذلك الإنعام، وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون هو تبليغ الدين وتعليم الشرع لأن ذلك كان حاصلًا في الحال، وقوله ‏﴿‏عَسَى‏‏﴾‏‏ تطميع"....، ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى –الشفاعة-. ثم عرض الرأي الثاني فذكر فيه حديث حُذيفة بأنه دعاء يقوله الرسول يوم الموقف، وضعفّه، ثم الرأي الثالث وهو تفسير مبهم بأنه مقام تُحمد عاقبته، وضعفّه أيضًا، ثم قال الواحدي: روى عن ابن مسعود أنه قال: يقعد الله محمدًا على العرش، وعن مجاهد أنه قال: يجلسه معه على العرش، ثم قال الواحدي: وهذا قول رذل موحش فظيع، ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ويدل عليه وجوه"أهـ.

‏وقد توسع الإمام الطبري في تفسيره "جامع البيان في تفسير آي القرآن" (ج17، ص ص526: 532) الذي انتهى من تأليفه سنة 270هـ –وكان عبد الله بن أحمد بن حنبل حيًا- في ‏تفسير قوله تعالى: ‏﴿‏عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا‏‏﴾‏‏ [الإسراء:79]، فسرد فيه صفحات، قال: "ثم اختلف أهل التأويل في معنى ذلك المقام المحمود، فقال أكثر أهل العلم: ذلك هو ‏المقام الذي هو يقومه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه ‏من شدّة ذلك اليوم". ثم ذكر روايات كثيرة –يمكن الرجوع إليها في تفسيره- عن صحابة وتابعين قالوا بذلك منهم حُذيفة وابن عباس والحسن وسلمان وقتادة، والأدهى أنه ذكر من بينها روايتين عن مجاهد بن جبر تثبت تفسيره المقام المحمود بالشفاعة، ثم أتبع الإمام الطبري: "وقال آخرون: بل ذلك المقام المحمود الذي وعد الله نبيّه أن يبعثه إياه، هو أن يقاعده ‏معه على عرشه". ‏وذكر رواية واحدة تثبت هذا الرأي عن ليث عن مجاهد، وختم الطبري بأن حكم: "وأولى القولين في ذلك بالصواب ما صحّ به الخبر عن رسول الله". ثم استفاض في سرد روايات صحيحة إلى رسول الله عن ابن مسعود وعليّ بن الحسين وابن عمر وكعب بن مالك تثبت قوله صلى الله عليه وسلم إن المقام المحمود هو الشفاعة –ويمكن أيضًا الرجوع إليها في تفسيره-، ومنها رواية ذُكر فيها الليث. ثم يعلق الطبري: "وهذا وإن كان هو الصحيح من القول في تأويل قوله: ‏﴿‏عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا‏‏﴾‏‏ ‏لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين، فإن ما قاله مجاهد من أن الله ‏يُقعد محمدًا صلى الله عليه وسلم على عرشه، قول غير مدفوع صحته، لا من جهة خبر ولا نظر، وذلك لأنه لا خبر عن ‏رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين بإحالة ذلك". كما كرر الطبري تفسيره للمقام المحمود بالشفاعة عند تفسيره لآية أصحاب الأعراف وفي تفسيره ‏لقوله تعالى: ‏﴿‏وَإِذَا الأرْضُ مُدَّتْ‏‏﴾ [الانشقاق:3]‏‏. وقد حدثت للإمام الطبري محنة مع حنابلة بغداد بسبب تفسيره للمقام المحمود بالشفاعة سنعرض تفاصيلها عند ذكر نماذج من الفتن التي أثاروها.

كما فسّر ابن كثير في تفسيره للقرآن المقام المحمود بالشفاعة، ونقل جملة أحاديث كثيرة صححّها كبار المحدثين إلى رسول الله تثبت ذلك. فأمر تفسير المقام المحمود بالشفاعة أمر متواتر والأدلة عليه كثيرة مترادفة، ولكنهم كعادتهم يشذّون ويكفّرون المسلمين. ولكن للأمانة العلمية فهذا ليس حالهم كلهم، فقد أنكر عطية الزهراني، محقق كتاب "السُنة" لأبي بكر الخلال إصراره على تفسير المقام بالمحمود بالإقعاد على العرش، وذكر تضعيف الإمام الذهبي لهذا التفسير، كما نقل المحقق عن الذهبي إنكار الإمام أحمد هذا التفسير، على العكس من الروايات -بل والمنامات- التي ضمنّها الخلال كتابه، والتي احتج بها الخلال على كفر منكر تلك العقيدة الشاذة.

أصرت غالبية الفرقة المسماة بالسلفية، ومن سار على درب مقاتل بن سليمان، على ‏مخالفة سائر الأمة قديمها وحديثها، والقطع وفقًا لظاهر النصوص أن لله تعالى –وحاشاه- صورة وجوارحًا، فجسّموه وصيّروه صنمًا أو كالمارد يجلس على العرش تعالى الله عما قالوا علوًا كبيرًا. وقد حمل أبو الفرج ابن الجوزي –وهو حنبلي- في كتابه "دفع شبهة التشبيه" على المشبِّهة، خاصة ابن خزيمة وابن حامد وأبي يعلى، ممن نسبوا إلى الله تعالى إضافة إلى ما سبق: اللهات والأضراس، والتنفس، والفرح والحياء والغيرة، والمشي والهرولة وسائر أشكال الحركة والانتقال والمماسة والقرب المكاني، وجعلوا له مكانًا في السماء وعلى العرش، وقالوا على من أنكره إنه منكر لعلوه سبحانه. وقد قال الإمام الغزالي: "فوقية الله لا تجعله قريبًا من السماء، كما لا تجعله بعيدًا عن الثرى"، ولكنهم مصرون على العلو الحسي. وجعلوا له دارًا هي جنة عدن، وقد توسع ابن الجوزي في الرد على كل ما يستدلون به من الآيات والأحاديث على صحة تجسيمهم وزيّفها. كما خصص الفخر الرازي بابًا كاملًا من كتابه "أساس التقديس" لعرض الأدلة العقلية والنقلية التي يستدل بها المشبهة من الحنابلة والكرامية على وجود الجوارح وإثبات الجسمية والتحيز ونحوه في حق الله تعالى عما يقولون علوًا كبيرًا، وتوسع في الرد عليها بالأدلة العقلية والنقلية المقابلة، وبيَّن زيف أدلتهم.

وأما بالنسبة للإمام أبي بكر بن خزيمة، وهو شافعي المذهب، لكنه من كبار المتحنبلين عقيدة، فقد بالغ في إثبات الصفات إلى حد التجسيم والتشبيه، ويظهر هذا جليًا في كتابه المسمى "التوحيد". ويدعي الأشاعرة المحدثون أن ابن خزيمة قد عاد من التجسيم إلى توحيد السلف الخالص القائم على التفويض. ولكن ما يستدلون به مما رواه الإمام البيهقي في "الأسماء والصفات" في ختام باب الفرق بين المتلو والتلاوة، أضعف من أن يُستدل به على ادعائهم. وهناك قصة مطولة رواها الذهبي في ترجمته في "السير" لوقيعة حدثت بينه وبين أصحابه، بسبب الاعتقاد في كلام الله تعالى، تظهر أسباب الخلاف بينه وبين أصحابه مفصّلة، وليس فيها ما يشي بتغير طرأ على عقيدته يتفق مع اعتقاد الأشاعرة. والسُبكي أيضًا يبرئ ابن خزيمة في "طبقات الشافعية" (ج3، ص119) من التشبيه، ويستدل بتأويله حديث الصورة، ولا أراه كافيًا، فكتابه محشو بإثبات كل ما عدا ذلك، وقد كان يكره المتكلمين فعلًا، لكنه كان مشبهًا لا مفوضًا. والغريب أنه قد ثبت عن ابن خُزيمة أنه قرأ تفسير الطبري، وكان عصريّه، وقال إنه لا يعلم أحدًا على ظهر الأرض أعلم منه، مع أن تفسير الطبري مليئ بالنقول التي تثبت التأويل وليس التجسيم!

بعض مما ثبت من كذب المُجسِّمة على الأئمة في عقائدهم

ترجع كراهية الحنابلة للتأويل إلى أن المعتزلة أوّلوا الآيات التي فهموا منها أن القرآن مخلوق، وذلك كما يظهر من نصوص المناظرات التي أوردها الإمام الطبري في تاريخه لمحنة الإمام أحمد بن حنبل، وربما لهذا السبب لم يقبل البربهاري ما عرضه عليه الإمام الأشعري عندما دخل بغداد رغم إعلانه تبرئه من عقائد المعتزلة وأهمها اعتقادهم في خلق القرآن، وقد كان سبب المحنة.

وزادت الفرقة المسماة بالسلفية، ومن سار على درب مقاتل بن سليمان، بأن كذبوا على الأشاعرة في تزييف كتاب "الإبانة" للإمام الأشعري ينسبون فيه إليه ما يلزم اعتقاده بالجسمية، وهو ما ليس من عقيدة الأشاعرة بتاتًا؛ فليس من اعتقاد الأشعري، ولا أورده عنه أي من علماء طبقات الأشاعرة بدءًا بالطبقة الأقرب إليه مثل أبي بكر الباقلاني وأبي إسحق الإسفراييني وأبي بكر بن فورك، ولا من تلاهم كالبيهقي أو الجويني أو الغزالي، أو ابن عساكر! وهذا ليس بجديد على السلفية؛ فهم أساطين التحريف والكذب على الأئمة.

ذكر السُبكي في "طبقات الشافعية" (ج2، ص16) " وفى المبتدعة، لا سيما المُجسِّمة، زيادة لا توجد فى غيرهم، وهو أنهم يرون الكذب لنصرة مذهبهم، والشهادة على من يخالفهم فى العقيدة بما يسوءه فى نفسه وماله بالكذب؛ تأييدًا لاعتقادهم، ويزداد حنقهم وتقربهم إلى الله بالكذب عليه بمقدار زيادته فى النيل منهم. فهؤلاء لا يحل لمسلم أن يعتبر كلامهم"أهـ.

ومن أمثلة ما افتُضِح من كذبهم لنصرة مذهبهم، ذكر السبكي في "طبقات الشافعية" (ج3، ص399) "وقد أورد الحافظ –يعني ابن عساكر- بعض هذه الرسالة –رسالة القشيري في شكاية أهل السُنة، ورسائل العلماء التي تبعتها- فى كتابه –تبيين كذب المفتري- ونحن نرى أن نوردها كلها، فإنه يُخشى على مثلها الضياع إذا تمادى الزمان؛ فإن هذا شأن المصنفات اللطاف لا سيما ما يغيظ أهل الباطل، فإنهم يبادرون إلى إعمال الحيلة فى إعدامه. لقد كان عند الشيخ الإمام –يعني والده السُبكي الكبير- نسخة من كتاب (تبيين كذب المفتري)، لا يُحسن الرائي أن يقرأ منها حرفًا لما هو مكتوب فى حواشيها وبين أسطرها من أمور لا تتعلق بالكتاب، بخط بعض فضلاء الحنابلة الذين يلمزون ببعض الأشاعرة، فسألت الشيخ الإمام، فقال: هذه النسخة شريتها من تركة الحافظ سعد الدين الحارثي، وكأنهم كانوا يريدون إعدامها"أهـ. وأقول: ربما كان الأصح أنهم كانوا يريدون إعدامها بعد أن يزيفوها بنقل ذلك المكتوب في حواشيها بدلًا من بعض ما كان في النسخة الأصلية، ولكن السبكيين كانا حسنيّ النية، فلم يفطنا لمعنى كل تلك الكتابة في الحواشي وبين الأسطر.

وذكر السُبكي في "الطبقات" أيضًا (ج2، ص19) "وقد وصل حال بعض المُجسِّمة فى زماننا –يعني القرن الثامن الهجري- إلى أن كتب شرح صحيح مسلم للشيخ محيى الدين ‏النووى، وحذف من كلام النووى ما تكلم به على أحاديث الصفات؛ فإن النووى أشعرى العقيدة، فلم ‏تحمل قوى هذا الكاتب أن يكتب الكتاب على الوضع الذى صنَّفه مُصنِّفه، وهذا عندى من كبائر الذنوب فإنه تحريف للشريعة وفتح باب لا يؤمن معه بكتب الناس وما فى ‏أيديهم من المصنفات، فقبّح الله فاعله وأخزاه، وقد كان فى غنية عن كتابة هذا الشرح، وكان الشرح ‏فى غنية عنه"أهـ.

فقد كذب الحنابلة من قديم على كثير من أئمة المسلمين، وحاولوا تحريف كتبهم، ودس عقائدهم فيها، وما ذكرناه لا يعدو كونه أمثلة، فادّعوا أئمة كالجويني والغزالي، وهما من كبار الأصوليين الأشاعرة، أنهما تراجعا عن عقيدتهما الأشعرية أواخر أيامهما، ومالا إلى عقيدة المجسمة التي يصفونها بعقيدة السلف! وادّعوا الإمام البخاري والحافظ أبا نُعيم الأصبهاني، الذين لقيا الأذى من حنابلة زمانهم، أنهما على عقيدتهم! ووصل الأمر إلى أن بعض السلفية المحدثين صاروا يدّعون الإمام الفخر الرازي، مجدد القرن السادس، الذي شنّع عليه ابن تيمية أشد التشنيع، وكتب كتابًا يناقض كتابه "أساس التقديس"، ووصفه فيه بأنه قرن الشيطان الذي تنبأ النبي بخروجه من المشرق، ووصل الأمر بابن تيمية، خاصة في كتابه "بيان تلبيس الجهمية"، إلى حد اتهام الإمام الرازي زورًا بالشرك وعبادة الأوثان والرِدّة عن دين الإسلام! ونقل عنه ابن عبد الوهاب تكفير الرازي في "مسائله"! وكل هذا لأجل أن يثبتوا زورًا أن أئمة المسلمين عبر العصور على عقيدتهم.

وهناك من عقائد الحنابلة الكثير الذي يمكن الحديث عنه، واجتهدوا للتلبيس على العامة أنه اعتقاد السلف، كاعتقادهم بحرمة التوسل، وحرمة شد الرحال لزيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، كما كان يزعم ابن تيمية، حتى حرّفوا كتب أئمة السلف التي حقّقوها وطبعوها، بإزالة كل ما يثبت قيامهم بذلك، كقصة العتبي والأعرابي عند قبر الرسول، والقصيدة الشهيرة (يا خير من دُفنت في القاع أعظُمه)؛ وذلك حتى يظهر للعوام أنهم متابعون للسلف على عكس مخالفيهم، والعكس صحيح. وسأتوقف عند هذا الحد في نقدي لعقيدتهم. إنما أردت إعطاء صورة عما يُزوِّرون وتطول ألسنتهم بأنه عقيدة السلف، وستضح الصورة أكثر عن هذه الفرقة عند عرض نماذج من الفتن التي افتعلوها.