الاثنين، 29 يناير 2018

132-المذهب الفقهي الحنبلي.. من كتبه؟!


المذهب الفقهي الحنبلي.. من كتبه؟!
د/منى زيتون
الخميس 21 فبراير 2019

قال تعالى: ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ﴾ [هود: 91]. قال الطبري في تفسير الآية: "يقول تعالى ذكره: قال قوم شعيب لشعيب: ﴿يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ﴾، أي: ما نعلم حقيقة كثير مما تقول وتخبرنا به"أهـ.
فالفقه لغةً أوسع كثيرًا من إدراك ظاهر القول، وقد مرّ مصطلح الفقه في الإسلام بمراحل؛ فكان أول الأمر يُقصد به جميع الأحكام الشرعية (الاعتقادية- الخُلقية- العملية)؛ لذا نجد الإمام أبا حنيفة يُعبِّر عن أصول العقيدة بـ "الفقه الأكبر"، ثم انحصر المقصود بمصطلح الفقه بعد ذلك في الأحكام العملية بنوعيها (أحكام العبادات- أحكام المعاملات).
وإن كان الإمام أحمد بن حنبل قد أخذ علم الفقه عن الشافعي وغيره من أتباع أبي ‏حنيفة إلا أنه كان مشغولًا بعلم الحديث وليس الفقه، ومسنده هو أحد كتب الحديث المشهورة، ولم ‏يكن من المبرّزين والمنشغلين بالفتيا، بل كان رضي الله عنه يتهيب الفتيا ورفض أن يتولى قضاء ‏اليمن عندما عرضه عليه الإمام الشافعي.
ويجب أن نعي جيدًا أن ما يُعرف عند المسلمين بالمذهب الفقهي للإمام أحمد بن حنبل لم يُدوِّن الإمام أحمد منه حرفًا، وذلك باعتراف الحنابلة السلفية أنفسهم، فقام هؤلاء ممن نسبوا أنفسهم إليه بتدوين المذهب، بدءًا بأبنائه وتلامذته الذين دوّنوا مسائله، من أقواله وأجوبته، ثم حدد من نسبوا أنفسهم إليه في طبقة تالية، أصولًا للمذهب مضاهاة لباقي المذاهب، ولم تكن تلك الأصول مطابقة لأصول الإمام. وعبر العصور أضاف الحنابلة لذلك المذهب، الكثير من الأحكام الفقهية، وكان أول هؤلاء: أبو بكر الخلّال، وهو تلميذ المروذي تلميذ الإمام أحمد، وله كتاب شهير، والمسمى "السُنة". ومنهم الخرقي، وهو صاحب كتاب "مختصر الخرقي"، أول كتاب في الفقه الحنبلي، وسنأتي على ذكره بعد قليل. ثم تتابعوا بتتابع طبقاتهم، وصارت لهم اجتهاداتهم التي تُخالف الإمام، وأشهرهم في هذا ابن تيمية الحرّاني. ثم ظهر من يتسمون بالسلفية المعاصرين، ويختلفون عن الحنابلة القدماء، وحتى عن ابن تيمية في كثير من أحكام العبادات والمعاملات.
وهنا توجد إشارات قوية تجعلنا نتشكك في صحة نسبة ذلك الفقه كله إلى الإمام أحمد، منها:
1-عدم تأليف الإمام أحمد كتبًا في الفقه:
لم يُصنّف الإمام أحمد بن حنبل كتبًا في الفقه، وهذا لا ينفي فقهه الذي شهد له به أستاذه الإمام الشافعي، حين قال، فيما رواه ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة (ج1، ص40): "خرجتُ من بغداد وما خلَّفتُ بها أحدًا أتقى ولا أورع ولا أفقه -أظنه قال ولا أعلم- من أحمد بن حنبل". بل وكان الإمام يكره تصنيف الكتب بوجه عام، لكنه وضع "المُسند" وهو من أشهر كتب الأحاديث. روى السبكي في "طبقات الشافعية" (ج2، ص31) "قال عبد الله –بن أحمد بن حنبل- قلت لأبى: لِمَ كرهت وضع الكتب وقد عملت المسند؟ فقال: عملت هذا الكتاب إمامًا إذا اختلف الناس فى سُنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رُجع إليه"أهـ.
ويعترف ابن القيّم الحنبلي تلميذ ابن تيمية بهذا، ويعزوه إلى أن رفض الإمام أحمد للتقليد كان سببًا في عدم تدوين أي كتاب في الفقه، ولكن تعليل ابن القيّم لا يتفق مع ما أثبته عبد الله بن الإمام عن أبيه. روى عبد الله بن أحمد بن حنبل في "مسائله" (ص437) (1582) "سمعتُ أبي، وذكر وضع الكتب، فقال: أكرهها، هذا أبو حنيفة وضع كتابًا، فجاء أبو يوسف ووضع كتابًا، وجاء محمد بن الحسن فوضع كتابًا، فهذا لا انقضاء له، كلّما جاء رجل وضع كتابًا. وهذا مالك وضع كتابًا، وجاء الشافعي أيضًا، وجاء هذا –يعني أبا ثور-، وهذه الكتب وضعها بدعة، كلّما جاء رجل وضع كتابًا، ويترك حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. أو كما قال أبي هذا ونحوه. وعاب وضع الكتب وكرهه كراهية شديدة"أهـ.
وروى عبد الله في "مسائله" أيضًا (ص438) (1585) أنه سأل الإمام أحمد عن "الرجل يريد أن يسأل عن الشيء من أمر دينه مما يُبتلى به من الأيمان في الطلاق وغيره، وفي مصره من أصحاب الرأي، ومن أصحاب الحديث لا يحفظون ولا يعرفون الحديث الضعيف، ولا الإسناد القوي، فلِمن يسأل؟ ... قال: يسأل أصحاب الحديث. لا يسأل أصحاب الرأي. ضعيف الحديث خير من رأي أبي حنيفة"أهـ.
وروى الذهبي في "السير" (ج11، ص231) عن عبد الله بن أحمد ".... أن موسى بن حِزام الترمذي يقول: كنتُ أختلف إلى أبي سليمان الجَوزجاني في كتب محمد –أي لأجل أن أتعلم فقه محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ أبي حنيفة-، فاستقبلني أحمد بن حنبل، فقال: إلى أين؟ قلتُ: إلى أبي سليمان. فقال: العجبُ منكم! تركتم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، يزيد عن حُميد، عن أنس، وأقبلتم على ثلاثة إلى أبي حنيفة رحمه الله. أبو سليمان، عن محمد، عن أبي يوسف، عنه –أي عن أبي حنيفة-. قال –موسى بن حزام-: فانحدرت إلى يزيد بن هارون –وهو من أكابر المُحدِّثين-"أهـ.
بالرغم من ذلك تُنسب بعض الرسائل اليسيرة في الفقه إليه، ككتاب الأشربة، وكتاب الفرائض، والمناسك الكبير، والمناسك الصغير، فهل هي منحولة عليه؟!، لكن الثابت أن الإمام أحمد كان يكره وضع كتب الفقه وطريقة الفقهاء، التي تُقرر الأحكام وتُعلِّل وتُدلِّل عليها، وكان يراها بدعة، وكان يرى فقط أن يُروى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ينهى عن تعلم الفقه، ويعتبره صدًّا عن تعلم الحديث، وانحرافًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكون أكثر كلامه ينهى عن فقه أبي حنيفة تحديدًا؛ فذلك لأنه كان بالعراق، وطلبة العلم هناك يطلبونه أكثر، وهو أقل الأئمة الأربعة اعتناءً بالآثار. والأمر لا يختصّ بكراهية منهج أبي حنيفة الفقهي، بل حتى تأصيل الشافعي للفقه الذي على أساسه يستقي الأحكام، ويستند أولًا للقرآن والسُنة، فإن لم يوجدا فالقياس، والتي اعتمدها في كتبه، لم تعجب الإمام أحمد وعابها ضمن ما عاب. والعجيب أن يُصرّ أحد أن ينسب لرجل ما ثبت عنه أنه رآه بدعة!!
وقد يحتجّ الحنابلة بأن أبا حنيفة رأس الفقه لم يكتب بنفسه أغلب مسائل الفقه الحنفي، وأن تلاميذه قد جمعوا أماليه وأقواله، ولكن قولهم مردود؛ فأبو حنيفة من الثابت عنه أنه طلب الحديث وعلم الكلام، ثم انقطع للفقه، حتى قال كثيرون أنه ضعيف الحديث، ولم يعبأ إلا بحفظ الأحاديث التي يُستنبط منها أحكام الفقه، وكان له تلاميذ مجتهدون، كل منهم من الفقه بحيث خالف أستاذه واستدلّ، وكانوا رءوس الفقه في زمانهم، ونعرف يقينًا رأي أبي حنيفة في كل مسألة، ورأي أي منهم إن خالفه، فلم يخلطوا آراءهم برأيه حتى يمتنع التمييز، وعلى العكس من ذلك كان الإمام أحمد وتلامذته، فأحمد انقطع لطلب الحديث وترك الفقه، ولم يكن تلاميذه على قدر تلاميذ أبي حنيفة ومالك والشافعي، ولا نكاد نعرف رأيه في أغلب المسائل لتناقض ما رواه كل منهم في مسائله.
وكذا يُقال عن مذهب الشافعي. يذكر الدهلوي في "الإنصاف" (ص85) "أما مذهب الشافعي فأكثر المذاهب مجتهدًا مطلقًا، ومجتهدًا في المذهب، وأكثر المذاهب أصوليًا ومتكلمًا، وأوفرها مفسَّرًا للقرآن وشارحًا للحديث، وأشدُّها إسنادًا ورواية، وأقواها ضبطًا لنصوص الإمام، وأشدّها تميُّزًا بين أقوال الإمام ووجوه الأصحاب، وأكثرها اعتناءً بترجيح بعض الأقوال والوجوه على بعض"أهـ. وليس الأمر لدى الحنابلة على هذا النحو.

2-رحلات الإمام أحمد في طلب الحديث:
ثبت عن الإمام أحمد بن حنبل أن رحلاته العلمية إلى البصرة والكوفة والحجاز واليمن، كلها كانت في طلب الحديث، مثل سفره إلى الإمام عبد الرزاق في اليمن. وحتى في بغداد كان منشغلًا أكثر بطلب الحديث. يذكر ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج14، ص381) عن الإمام أحمد "وقد كان في حداثته يختلف إلى مجلس القاضي أبي يوسف –صاحب أبي حنيفة-، ثم ترك ذلك وأقبل على سماع الحديث". ولا ينفي هذا أنه قد سمع الشافعي أيضًا مدة ببغداد، ولكن كان همّه طلب الحديث.

3- الإمام أحمد وموقفه من القياس:
يُعرِّف أبو عمر ابن عبد البر في "جامع بيان العلم" (ج2، ص888) القياس بأنه: "القياس الذي لا يُختلف أنه قياس هو: تشبيه الشيء بغيره إذا أشبهه، والحكم للنظير بحكم نظيره إذا كان في معناه، والحكم للفرع بحكم أصله إذا قامت فيه العِلَّة التي من أجلها وقع الحكم".
وقد استقر الحنابلة على أن لمذهبهم الفقهي أصولًا خمسة أساسية؛ على أساسها تُشتق الأحكام، إضافة إلى بعض الأصول الفرعية (الاستحسان- المصالح- سد الذرائع- الاستصحاب)، كما ذكر ابن القيم أصول الإمام أحمد في "إعلام الموقعين" (ج2، ص49: 62)، وتكاد تكون متطابقة نظريًا مع الأصول الخمسة الأساسية التي يذكرها الحنابلة:
فأولها: (نصوص الكتاب والسُنة)، وهذا هو الأصل الأساسي الذي التزم به الإمام أحمد، وغيره من الأئمة، لكن أحمد بن حنبل كان قد تشدد فيه حتى أنه لا يؤول ولا يُخصص ما ثبت بالسُنة إن نُقِل في المسألة أقوالًا للصحابة تُخالف الأثر.
والأصل الثاني عند الحنابلة: الإجماع العام منه والخاص، رغم ما ثبت عن الإمام أحمد إنكاره لدعوى الإجماع، وابن القيّم يبرر بأن إنكار الإمام أحمد إنما هو إنكار لتقدم أي شيء على النصوص، لا ما يظنه بعض الناس أنه استبعاد لوجود الإجماع!
والأصل الثالث عندهم: هو فتاوى الصحابة وما صحّ عنهم (الأصل الثاني عند الإمام)، وهي مقدمة عند الإمام أحمد على القياس، وإن كان بين الصحابة خلافًا (الأصل الثالث عند الإمام)، تخيّر من أقوالهم ما كان أقربها إلى الكتاب والسُنة، فإن لم يتبين له موافقة أحد الأقوال حكى الخلاف، ولم يجزم بقول –وكانت هذه طريقته عند الخلاف عمومًا، حتى خلاف الفقهاء-.
والأصل الرابع هو الأخذ بالقول المُرسل والحديث الضعيف، غير أن الضعف فيه ليس شديدًا.
أما الأصل الخامس فهو القياس، والذي اصطلحه الشافعي وأبو حنيفة، وسقنا تعريف ابن عبد البر له، والمفترض ألّا يدخل فيه الاستحسان أو المصالح أو سد الذرائع أو الاستصحاب، وهي أصول فرعية يكثر الحنابلة من استخدامها، ولكن الحنابلة يخلطونها بالقياس على اصطلاحه. يذكر ابن القيم (ص59) "إذا لم يكن عند الإمام أحمد في المسألة نص، ولا قول الصحابة، أو أحد منهم، ولا أثر مرسل أو ضعيف، عدل إلى الأصل الخامس –وهو القياس- فاستعمله للضرورة، وقد قال في "كتاب الخلّال": سألتُ الشافعي عن القياس، فقال: إنما يُصار إليه عند الضرورة، أو ما هذا معناه"أهـ. ولكن يمكن القول أنه أصل نظري، لم يستخدمه الإمام أحمد فعليًا، فلا يظهر من مسائله أنه كان يقيس، فأجوبته كلها "حدّثنا" و "أخبرنا". روى ابن القيم عن الإمام أيضًا (ص60) "وقال في رواية أبي الحارث: ما تصنع بالرأي والقياس، وفي الحديث ما يُغنيك عنه؟"، وقال في رواية عبد الملك الميموني: يجتنب المتكلم في الفقه هذين الأصلين: المجمل والقياس"أهـ.
فهل حقًا في الحديث فقط ما يُغني عن القياس كما ذكر الإمام أحمد؟!
كان أبو حنيفة أول أئمة الفقه من أصحاب المذاهب المتبوعة (80-150هـ)، وأول من اجتهد برأيه منهم؛ ذلك أن الأحاديث لم تكن قد جُمعت في عصره بشكلها التام، لتأخر تدوين الحديث، وقد أكثر من استخدام القياس، وكان الحنابلة ولا زالوا يُعرِّضون بأبي حنيفة، وبفقهه، ويقولون عنه "فقه الرأي". ثم كان أن وضع الشافعي أصول الفقه، وأثبت القياس، رغم أن الأحاديث كانت قد دُوِّنت في زمنه، وقال الشافعي: أنه ضرورة لأنه والاجتهاد بمعنى واحد.
ولم يكن قبول القياس كأصل لاشتقاق الأحكام بدعة ابتدعها أبو حنيفة أو الشافعي. يذكر الإمام ابن عبد البر المالكي في "جامع بيان العلم" (ج2، ص869: 874) جملة من الأحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، والأقوال عن الصحابة والتابعين تثبت اجتهادهم بالقياس، ونقل قولًا للمزني (1648) فيه: "الفقهاء من عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا، وهلُّم جرَّا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام من أمر دينهم. قال: وأجمعوا أن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، فلا يجوز لأحد إنكار القياس؛ لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها"أهـ. لكن الحنابلة كما يوردون مثل تلك الأقوال في كتبهم، فإنهم يوردون في المقابل ما يُذم به القياس، وأن أول من قاس إبليس، ليجعلوه أساسًا لتمييزهم بالقبول أو الرفض للأقيسة.
ولا يعنينا الحنابلة أنفسهم، بقدر ما يعنينا تحديد موقف الإمام أحمد من القياس؛ فالقياس كضرورة عند أحمد بمعنى أنه يعتبره كالدواء الذي لا بد أن يكتب وصفته من رأسه، لا نقلًا عن طبيب سابق، وبالتالي فهو يُشفق من كتابة هذه الوصفة؛ فهو لا يردّ أي قياس ورده من الرسول أو الصحابة أو التابعين، ويقبله لأنه أثر لا قياس، ما لم يكن هناك أثر أقوى يدفعه، ولم يُناقض الإمام الشافعي في أنه يرى القياس ضرورة، ولكن في النهاية هو لا يستخدمه. يذكر ابن القيّم في "إعلام الموقعين" (ص60) عن أحمد "كان شديد الكراهية والمنع للإفتاء في المسألة التي ليس فيها أثر عن السلف، كما قال لبعض أصحابه: إياك أن تتكلم في مسألة ليس لك فيها إمام"أهـ.
ونرى الحنابلة القدماء متأثرين به في هذا النهج، فهم أقرب إلى عدم استخدام القياس، مثل البربهاري، والذي تزعّم الحنابلة (296-329هـ)، يقول في كتابه "شرح السُنة" (ص70) [11]: "واعلم رحمك الله: أنه ليس في السُنة قياس، ولا يُضرب لها الأمثال، ولا تُتّبع فيها الأهواء، وإنما هو التصديق بآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا كيف ولا شرح، لا يُقال: لِم؟ و كيف؟"أهـ. وربما كان البربهاري يقصد هنا التعريض بمدرسة أبي حنيفة؛ لأنهم يدخلون القياس على الأثر.
ولكن يتأكد لنا من استكمال مطالعة ما كتبه البربهاري أنه يطعن في القياس والرأي كليهما. يقول (ص99): [97] "واعلم رحمك الله، أن أهل العلم لم يزالوا يردّون قول الجُهمية، حتى كان في خلافة بني فلان –بني العباس- تكلّم الرويبضة في أمر العامة، وطعنوا على آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذوا بالقياس والرأي، فدخل في قولهم الجاهل والمغفل، والذي لا علم له"أهـ.
ويضيف البربهاري (ص105) [104] "واعلم رحمك الله أن من قال في دين الله برأيه وقياسه، وتأويله، من غير حجة من السُنة والجماعة؛ فقد قال على الله ما لا يعلم. ومن قال على الله ما لا يعلم؛ فهو من المتكلفين"أهـ.
ويقول: (ص127- 128)  [153] "ما كانت زندقة قط، ولا بدعة، ولا هوى، ولا ضلالة؛ إلا من الكلام والجدال والمراء والقياس، وهي أبواب البدعة والشكوك والزندقة". [154] "فالله الله في نفسك، وعليك بالأثر، وأصحاب الأثر والتقليد، فإن الدين إنما هو بالتقليد، ومن قبلنا لم يدعونا في لبس، فقلدهم واسترح، ولا تجاوز الأثر وأهل الأثر"أهـ.
فالبربهاري لا يترك فرصة للطعن على القياس كمنهج، ودائمًا يراه منهجًا مضادًا لمنهج الأخذ بالأثر، ولا يرى فيه ضرورة لا في عقيدة ولا في فقه. وبينما يثني على الإمام مالك من بين الأئمة أصحاب السُنة، لا يذكر أبا حنيفة والشافعي. فهل كان البربهاري بذلك مخالفًا لأحمد بن حنبل؟، أم أن الأصح أن يُقال: أنه كان موافقًا له؛ كونه أقرب إليه من المتأخرين المنتسبين إليه، ممن ادّعوا القياس من أصوله، وأن الأصحّ أن أحمد لم يكن يقيس كما يبدو من مسائله، ولكن من انتسبوا إليه قد أدخلوا القياس بعد ذلك ضمن أصول المذهب. فالحنابلة المنتسبون للإمام أحمد اضطروا لاستخدام قياس الشافعي فيما بعد، بعد أن وضعوا بصمتهم المتشددة بتصنيفه إلى قياس صحيح وقياس مردود. وأما السلفية المعاصرون فإن كانوا يجتهدون في شيء، فاجتهادهم في البحث عن تأصيل لأحكامهم بما يوافق القدماء، وهم بذلك أقرب لأصول الإمام أحمد من أجيال سبقتهم من الحنابلة، ولكن مشكلتهم أنهم وإن كانوا يدّعون الانتساب إلى السلف، فسلفهم الذين يؤصلون أحكامهم منه عادة هو ابن تيمية.
وكذا القاضي أبو يعلى في "طبقات الحنابلة" (ج1، ص14) يقول في ترجمة الإمام أحمد: "كان أصل الفقه كتاب الله وسُنة رسوله وأقوال صحابته، وبعد هذه الثلاثة القياس، ثم قد سُلِّم له الثلاث، فالقياس تابع؛ وإنما لم يكن للمتقدمين من أئمة السُنة والدين تصنيف في الفقه، ولا يرون وضع الكتب ولا الكلام، إنما كانوا يحفظون السُنن والآثار، ويجمعون الأخبار، ويُفتون بها، فمن نقل عنهم العلم والفقه كان رواية يتلقاها عنهم، ودراية يتفهمها منهم"أهـ. وأقول: ربما لم يسمع أبو يعلى بكتاب "الأم" للشافعي. وفي قوله إثبات لثلاثة أصول استخدمها الإمام أحمد، ونفي لاستخدامه سواها.
وقد أوضحت أن الإمام أحمد لا يردّ القياس إن جاءه في صورة أثر، ولكنه لا يُفتي ويستخرج الأحكام عن طريقه. ذكر أبو عمر ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" (ج2، ص891) (1673) عن الإمام أحمد بن حنبل قوله: "ما رُوي عن السلف في ذم القياس، فهو عندنا قياس على غير أصل، أو قياس يُردّ به أصل"أهـ.
وقال ابن عبد البر أيضًا (ج2، ص887): "لا خلاف بين فقهاء الأمصار وسائر أهل السُنة، وهم أهل الفقه والحديث، في نفي القياس في التوحيد، وإثباته في الأحكام، إلا داود بن علي بن خلف الأصفهاني، ثم البغدادي، ومن قال بقولهم، فإنهم نفوا القياس في التوحيد والأحكام جميعًا"أهـ.
وأقول: ربما كان عدم استخدام الإمام أحمد للقياس سببًا في عدم اعتبار خلافه عند كثير من الفقهاء –كما سنرى-، مثلما كان داود الظاهري مختلف في اعتبار خلافه، وفقًا لما رواه الذهبي في ترجمته لنفس السبب. ذكر الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج13، ص105) في ترجمة داود بن علي الظاهري. "قال الأستاذ أبو إسحق الإسفراييني: قال الجمهور: إنهم –يعني نُفاة القياس- لا يبلغون رتبة الاجتهاد، ولا يجوز تقليدهم القضاء. ونقل الأستاذ أبو منصور البغدادي عن أبي علي بن أبي هريرة، وطائفة من الشافعية، أنه لا اعتبار بخلاف داود، وسائر نُفاة القياس، في الفروع –أي الفقه والأحكام- دون الأصول –العقائد والتوحيد-. وقال إمام الحرمين أبو المعالي: الذي ذهب إليه أهل التحقيق أن منكري القياس لا يُعدّون من علماء الأمة، ولا من حملة الشريعة، لأنهم معاندون، مباهتون، فيما ثبت استفاضة وتواترًا، لأن معظم الشريعة صادر عن الاجتهاد، ولا تفي النصوص بعُشر معشارها، وهؤلاء ملتحقون بالعوام. قلتُ –أي الذهبي-: هذا القول من أبي المعالي أدّاه إليه اجتهاده، وهم قادهم اجتهادهم إلى نفي القول بالقياس، فكيف يُردّ الاجتهاد بمثله."أهـ.
وأقول: رأي الذهبي مفهوم، لأنه وإن كان شافعيًا في الفروع إلّا أنه كان مائلًا للحنابلة؛ كونه على عقيدتهم، ولكن إخراج نُفاة القياس ومن لا يستخدمونه من عِداد الأئمة المجتهدين في الفقه لم يكن رأي الإسفراييني والجويني وفئة منذورة من العلماء، بل هو رأي غالبية العلماء، لأن الفقه أكبر من مجرد حفظ الآثار وترديدها، ولو كان حفظ القرآن والحديث وحدهما كافيين لتقرير الأحكام، لما احتاج الناس في كل زمان إلى الفقهاء لاستخلاص الأحكام من النصوص على قواعد الأصول. وكيف يكون اجتهاد دون قياس، وهما بمعنى واحد؟، يقول الإمام الشافعي في "الأم" (ج1، باب إثبات القياس والاجتهاد) (ص222) "القياس والاجتهاد هما اسمان لمعنى واحد"أهـ.
وروى الدهلوي في "الإنصاف" (ص80) بسند طويل متصل إلى الإمام الشافعي قواعد استنباط الأحكام الفقهية، قال: "قال محمد بن إدريس الشافعي: الأصل قرآن وسُنة، فإن لم يكن فقياس عليهما،.......، ولا يُقاس أصل على أصل، ولا يُقال للأصل: لِمَ وكيف، وإنما يُقال للفرع لِمَ؟، فإذا صحّ قياسه على الأصل صحّ وقامت به الحُجة"أهـ. فالشافعي لا يأخذ بالحديث الضعيف ويترك القياس، فكان القياس أمر لا مفرّ منه قرّره أئمة الفقه المجتهدون، ولم يُعرَف عن الإمام أحمد، لأنه كي يتم القياس، فلا بد من استخراج العلة للأحكام المستخرجة من النصوص، والتي يُدار عليها الحكم، كي يتم القياس عليها بعد ذلك، وفي مسائل الإمام أحمد نجده لا يهتم باستخراج علة الحكم إن كان الأمر ليس فيه اختلاف، فإن كان فيه اختلاف ربما توقف عن إصدار الحكم من أساسه.

4-تهيب الإمام أحمد للفُتيا:
يوضح الإمام أبو زُهرة في "تاريخ المذاهب الإسلامية" (ص324) الفرق بين الإفتاء والاجتهاد (القياس)، يقول: "الإفتاء أخص من الاجتهاد، لأن الاجتهاد هو استخراج الأحكام الفقهية من مصادرها، سواء أكان فيها سؤال أم لم يكن، كما كان يفعل أبو حنيفة في دروسه عندما كان يُفرِّع التفريعات المختلفة، ويفرض الفروض الكثيرة، أما الإفتاء، فإنه لا يكون إلا عند السؤال عن حكم واقعة وقعت، أو بصدد الوقوع، ومعرفة حكمها"أهـ.
ثبت عن الإمام أحمد تهيبه للفُتيا، بسبب موقفه من القياس، وعدم رغبته في اشتقاق أحكام لا أثر وارد فيها، فكان يرد على كثير من المسائل بـ (لا أدري). ذكر ابن القيم –وهو حنبلي- في "إعلام الموقعين" عن الإمام أحمد (ج6، ص133) أنه قال: "من عرّض نفسه للفُتيا، فقد عرّضها لأمر عظيم". وقال أبو داود في "مسائله" (ص367) (1782): "وما أُحصي ما سمعت أحمد يُسأل عن كثير مما فيه اختلاف من العلم، فيقول: لا أدري"أهـ. وقال عبد الله بن أحمد بن حنبل في "مسائله" (ص438) (1583) "كنت أسمع أبي كثيرًا يُسأل عن المسائل، فيقول: لا أدري، وذلك إذا كانت مسألة فيها اختلاف، وكثير مما كان يقول: سلْ غيري، فإن قيل له: من نسأل؟ يقول: سلوا العلماء، ولا يكاد يُسمي رجلًا بعينه"أهـ.
والمتتبع لإجابات الإمام أحمد بن حنبل في المسائل التي رواها عنه ابناه وتلاميذه، يمكنه تلمح بوضوح أنه كان يُجيب عن المسائل التي لا يكاد يوجد فيها خلاف بكلمات يسيرة، وهي طريقة تُغني العوام ولا تُغني طلبة العلم، فإن كان يردّ في أحيان قليلة بعض ما رجّحه غيره، فذلك لعدم وجود أثر يعرفه في المسألة، مثل رأيه في عدم إعادة الوضوء من الضحك، قال فيما رواه عنه أبو داود في "مسائله" (ص21) (90): "لا أدري بأي شيء أعادوا الوضوء من الضحك؛ أرأيت لو سبَّ رجلًا؟!" وكذا نقل أبو داود عنه (91) "أما أنا فلا أُوجِب فيه وضوءًا؛ ليس تصح الرواية فيه"أهـ.
ولم يكن الإمام أحمد بدعًا في هذا بين العلماء. يذكر الدهلوي في "الإنصاف" (ص46) "اعلم أنه كان من العلماء في عصر سعيد بن المسيب، وإبراهيم، والزُهري، وفي عصر مالك، وسُفيان، وبعد ذلك، قومٌ يكرهون الخوض بالرأي، ويهابون الفُتيا والاستنباط إلّا لضرورة لا يجدون منها بُدّ، وكان أكبر همهم رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم"أهـ. يضيف الدهلوي (ص57) "وكان بإزاء هؤلاء في عصر مالك وسُفيان وبعدهم، قوم لا يكرهون المسائل، ولا يهابون الفُتيا، ويقولون: على الفقه بناء الدين، فلا بدّ من إشاعته، ويهابون رواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والرفع إليه"أهـ. ويؤكد الدهلوي على تصنيفه ذاك بقول للإمام الخطابي. يذكر (ص64) "ومن شواهد ما نحن فيه ما صدّر به الإمام أبو سليمان الخطابي كتابه "معالم السُنن"، حيث قال: رأيت أهل العلم في زماننا قد حَصَلُوا حزبين، وانقسموا إلى فرقتين: أصحاب حديث وأثر، وأهل فقه ونظر. وكل واحدة منهما لا تتميز عن أختها في الحاجة، ولا تستغني عنها في درك ما تنحوه من البُغْيَة والإرادة، لأنّ الحديث بمنزلة الأساس الذي هو الأصل، والفقه بمنزلة البناء الذي هو له كالفرع، وكل بناء لم يُوضع على قاعدة وأساس فهو منهار، وكل أساس خلا عن بناء وعمار فهو قفر وخراب"أهـ. وأقول: والإمام أحمد اختصّ نفسه بالأساس دون البناء، وترك العمارة لغيره، ولكن أتى من بعده من عمّر ونسب ما عمّره إليه.
ويصف الدهلوي (ص69) حال الإمام أحمد تحديدًا بأنه كان من فئة العلماء الذين أمعنوا في تتبع الكتاب والسُنة والآثار حتى حصل له بالقوة القريبة من الفِعل ملكة أن يتصف بفُتيا في الناس، وأن هذا الاستعداد حصل للإمام أحمد وأشباهه كالإمام إسحق بن راهويه، "باستفراغ الجهد في جمع الروايات؛ فإنه ورد كثير من الأحكام في الأحاديث، وكثير منها في آثار الصحابة والتابعين وتبع التابعين، مع ما لا ينفكّ عنه العاقل العارف باللغة من معرفة مواقع الكلام، وصاحب العلم بالآثار من معرفة طرق الجمع بين المختلفات وترتيب الدلائل ونحو ذلك". فلم يكن حاله كحال أبي يوسف ومحمد بن الحسن، الذين حصل لهما هذا الاستعداد "بإحكام طرق التخريج وضبط الأصول المروية في كل باب عن مشايخ الفقه من الضوابط والقواعد، مع جملة صالحة من السُنن والآثار"أهـ.
فالدهلوي هنا لا يُنكر أنه يمكن أن يكون المرء فقيهًا عن طريق تتبع الآثار فقط، ودون معرفة بأصول الفقه، رغم كونها لا تتشابه فيما اصطلح عليه علماء المسلمين بأن يُسمى فقهًا، وهل الفقيه من يعرف ماذا عليه أن يفعل في أمور دينه فقط، أم أن المعرفة بالأحكام وعللها –ولا أقول استخلاصها من الآثار- أكبر من ذلك بكثير؟
وهنا يتبادر سؤال هام: هذه الطريقة الأولى في الفُتيا وتقرير الأحكام بناءً على الآثار فقط، كما قرّرها الإمام أحمد، هل تصلح للجميع؟ وما محدداتها ومشروطياتها؟
يروي الإمام الذهبي في "السير" (ج11، ص232) عن الإمام الحاكم "حدثنا أبو علي الحافظ، سمعتُ زكريا بن يحيى الضرير، يقول: قلتُ لأحمد بن حنبل: كم يكفي الرجل من الحديث حتى يكون مُفتيًا؟ يكفيه مئة ألف؟ فقال: لا. إلى أن قال –زكريا-: فيكفيه خمس مئة ألف حديث؟ قال –الإمام أحمد-: أرجو"أهـ.
ونقل القاضي أبو يعلى في "طبقات الحنابلة" (ج1، ص13) عن عبد الوهاب الوراق أحد تلاميذ الإمام أحمد ما حزره لحفظ الإمام. "قال عبد الوهاب الوراق: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل. قالوا له: وأيش الذي بان لك من علمه وفضله على سائر من رأيت؟، قال: رجل سُئل عن ستين ألف مسألة، فأجاب فيها بأن قال: "أخبرنا" و"حدّثنا"". ثم ينقل عن أبي زُرعة الرازي (ص14) قوله: "حزرنا حفظ أحمد بن حنبل بالمذاكرة على سبعمائة ألف حديث. وفي لفظ آخر، قال أبو زُرعة الرازي: كان أحمد يحفظ ألف ألف، فقيل له: وما يُدريك؟ قال: ذاكرته، فأخذت عليه الأبواب"أهـ.
وينقل ابن القيّم في "أعلام الموقعين" (ج2، ص84-85) "قال محمد بن عبيد الله بن المنادي: سمعتُ رجلًا يسأل أحمد: إذا حفظ الرجل مئة ألف حديث يكون  فقيهًا؟ قال: لا، قال: فمئتي ألف؟ قال: لا، قال: فثلاث مئة ألف؟ قال: لا، قال: فأربع مئة ألف، قال بيده هكذا، وحرّك يده. قال أبو الحسن –ابن المنادي-: وسألتُ جدي محمد بن عبيد الله، قلتُ: فكم كان يحفظ أحمد بن حنبل؟ قال: أخذ عن ست مئة ألف. قال القاضي أبو يعلى: "وظاهر هذا الكلام من أحمد أنه لا يكون من أهل الاجتهاد إذا لم يحفظ من الحديث هذا القدر الكثير الذي ذكره"، ثم أوّل أبو يعلى كلام أحمد –ومن عجب أن يؤول الحنابلة!- فقال: "وهذا محمول على الاحتياط والتغليظ في الفتوى"أهـ. ثم ضرب مثالًا يوضح أن الحنابلة المتقدمين، بل من أعلاهم رتبة ممن كانوا يجلسون للفُتيا في جامع المنصور ببغداد من كانوا يُصرِّحون بأنه لا يلزمهم هذا الشرط الذي شرطه أحمد للإفتاء.
وبالتالي؛ فإن من انتسبوا للإمام أحمد، لم يلتزموا بهذا الشرط في أصله الأول، كما أضافوا القياس إلى أصوله، وبرّروا ذلك بأن الإمام الشافعي قال له أنه ضرورة، وأنه قبل هذا، رغم عدم استخدام الإمام له، وبالتالي نتساءل إن كان يصحّ أن يُعدّ فقههم على أصوله، ففقه أبو يوسف ومحمد الشيباني قد عدّ في مذهب أبي حنيفة، رغم كونهما مجتهدين مطلقين، ورغم مخالفتهما له في كثير من المسائل، لأنهما وافقاه في الأصل، ونفس الشيء يُقال عن الأئمة المجتهدين من أصحاب الشافعي، فتخريجاتهم التي تُضاف إلى المذهب على أنها منه كثيرة، ولكنها تكون مبنية على أصول الشافعي، ولهم تخريجات لا تُعد من المذهب، وتعد خارجة عنه، عندما يخالف المُخرج نصًا للشافعي أو يخالف قاعدة من القواعد الأصولية، ولكن بأي صفة ينسب من تسموا بالحنابلة فقههم إلى ابن حنبل، وقد خالفوه في أصوله؟! ولم يُشهد لأي فقيه حنبلي بالاجتهاد –بل ادّعوه لأنفسهم- حتى يُضيفوا كل هذه الإضافات للأحكام (الأوجه) فيما لم يرد عن الإمام من مسائل.

5-ما صحّ عن تلاميذ الإمام أحمد:
يحكي الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج12، ص625) في ترجمة الأثرم تلميذ الإمام أحمد، وهو أذكى تلاميذ الإمام، نقلًا عن أبي بكر الخلال عن أبي بكر المروذي "قال الأثرم: كنت أحفظ –يقول الذهبي: يعني: الفقه والاختلاف- فلمّا صحبت أحمد بن حنبل تركت ذلك كله"أهـ؛ فالذهبي يُقرر أن الفقه المعروف لدى باقي أئمة الفقه، والذي كان يُعرف بـ (الاختلاف)، لا يُشبه فقه أصحاب الإمام أحمد؛ حيث كان فقههم –إن صحت تسميته فقهًا-، لا يعدو رواية الآيات والأحاديث في باب المسألة، وتحديد رأي عام، فلا تحليل ولا تعليل ولا قياس؛ وكانت الناس تعرف الحنابلة بـ (فقهاء الحديث)؛ إذ كانوا يرفضون إدخال القياس، ويُسفِّهون مدرسة أبي حنيفة الفقهية؛ كونها توازن بين الآثار وتختار أرجحها، مما يعني رفض الأخذ بأحاديث صحيحة الإسناد في نفس المسألة لتعارضها مع ما رجّحه، وصدق الشافعي إذ قال: "كان الفقه قفلًا حتى فتحه أبو حنيفة".

6-عدم تدوين تلاميذ الإمام أحمد مسائله في حياته:
لم يسمح الإمام أحمد لتلاميذه بتدوين مسائله في حياته، ورغم عناية تلاميذه وتلاميذ تلاميذه بجمعها، إلا أن الحنابلة قديمًا وحديثًا يبررون عدم تكامل الرأي الفقهي للإمام في الكثير من المسائل بأنه قد فاتهم منها الكثير، ولم تبلغهم سائر نصوصه. كما يبررون تناقض ما رواه تلاميذه من إجابات على كثير من المسائل –رغم أنهم يُعدِّلونهم كلهم- بضعف الحافظة وبعد الزمن، وأشياء من هذا القبيل.
وأول من قام بتدوين الفقه المنسوب للإمام أحمد هو أبو القاسم عمر بن الحسين بن عبد الله الخرقي، ‏المتوفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائة بعد حوالي قرن من وفاة الإمام. والمؤكد أنه وضعه بعد عام 317هـ؛ ذلك أنه وكما ذكر عنه ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج15، ص 170): "في مصنفه هذا المختصر، في كتاب الحج منه: (ويأتي –أي الحاج- الحجر الأسود ويُقبله إن كان هناك). وإنما قال ذلك لأن تصنيفه لهذا الكتاب كان حال كون الحجر الأسود بأيدي القرامطة حين أخذوه من مكانه في سنة سبع عشرة وثلاثمائة، ولم يردّوه إلا سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة"أهـ. وبالتالي فقد تم تصنيف المختصر بعد وفاة الإمام أحمد بن حنبل المتوفى سنة مائتين وواحد وأربعين بما يقارب القرن، وبعد وفاة ابنه عبد الله وهو راوي مسنده، وآخر تلاميذه وفاة، سنة ‏تسعين ومائتين، أي بأكثر من ربع قرن؛ فقد توفي قبله كل تلاميذ أبيه، مثل: صالح بن أحمد بن حنبل سنة 266هـ، وأبو بكر الأثرم سنة 261هـ، وعبد الملك الميموني سنة 274هـ، وأبو بكر المروذي سنة 275هـ، وإبراهيم الحربي سنة 285هـ، وأبو داود السجستاني سنة 270هـ.
§               أورد ابن كثير في "البداية والنهاية" (ج15، ص 171-172) في ترجمة الخرقي أنه ‏صاحب "المختصر في الفقه على مذهب الإمام أحمد". وقال: "خرج من بغداد لما ‏كثر بها السب للصحابة، وأودع كتبه ببغداد، فاحترقت الدار التي هي فيها، وعُدمت ‏مصنفاته"أهـ. وكذا أثبت الذهبي في "سير أعلام النبلاء" (ج15، ص363) نقلًا عن القاضي أبي يعلى الفراء الحنبلي. وكذا ذكر ابن الجوزي في "المنتظم" (ج14، ص49)، وحدّد أن الدار التي احترقت كانت بدرب سليمان. ولكن مختصر الخرقي بالرغم من ذلك توجد له شروح كثيرة للقاضي أبي يعلى وابن حامد وابن عقيل وابن الزاغوني والتميمي وغيرهم، فربما قصد من ترجموا للخرقي -وكلهم سلفية- كالذهبي وابن كثير وابن الجوزي أن باقي مصنفاته تلك الكثيرة المدّعاة قد احترقت وعُدمت عدا المختصر، وربما لم يكن أمر تلك المصنفات أكثر من إشاعة حنبلية تعلية لمرتبة الخرقي لزيادة قيمة المختصر؛ حيث أن سب الصحابة لم يشع ببغداد إلا بدءًا من سنة 329هـ. ينقل ابن كثير عن الصولي في "البداية والنهاية" (ج15، ص151) في حوادث سنة 329‏هـ "وكثر الرفض ببغداد، فنودي بها: من ذكر أحدًا من الصحابة بسوء فقد برئت منه الذمة"‏، وكان ذلك هو السبب في انتقال الخرقي إلى دمشق، وهو العام الذي مات فيه البربهاري رئيس الحنابلة ومتزعم حركة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ببغداد، فهدأت الأحوال ولم تتجدد الحرائق لسنوات. وكل ما هو ثابت لدينا أنه على كثرة الحرائق ببغداد، والتي ذكرها المؤرخون، لم يذكروا حدوث حريق ضخم في السنوات من سنة 329هـ وحتى وفاة الخرقي سنة 334هـ، سوى ذلك الحريق الذي ذكره الصولي ‏في "أخبار الراضي والمتقي" ‏(ص261) قال: "ووقع بالكرخ حريق عظيم من حد طاق التكك إلى السماكين، وعطف على أصحاب الكاغد وأصحاب النعال، وذهبت النيران بأمتعة البزازين وأموال خطيرة"، وكما هو واضح فإن الحريق كان بمحال الشيعة كعادة الحرائق ببغداد.
§               وبالعودة إلى مختصر الخرقي وشروحه، سنجد أن أهم تلك الشروح هو شرح الزركشي الحنبلي له، وله طبعة حديثة حققها عبد الله الجبرين، أطال في مقدمتها الشرح والتعليل والتبرير لكل ما يُثار حول ما يُنسب للإمام أحمد من فقه لم يدونه، ولا دوّنه ابنه عبد الله، ولا أي من تلاميذه. نجد من أهم ما ساقه الجبرين في مقدمته المطولة ادعاء كثرة أصحاب الإمام أحمد -رغم أن الإمام العلامة ابن جرير الطبري وهو معاصر للإمام أحمد لم يعترف بهؤلاء الأصحاب كما سيتضح لاحقًا-، وتعديله لهم جميعًا فيما نقلوه عن الإمام -وهو ما لم يحدث مع رواة حديث رسول الله! فمنهم مردود الرواية-.
§               ثم الجبرين مع ذلك يعترف بتعدد الروايات وكثرة الاختلافات في رواياتهم، وعزاه لأسباب منها كثرة توقف الإمام وقلة تصريحه بالإيجاب أو التحريم، يذكر الجبرين (ص19) "هذا الإمام –يعني أحمد- عُرف بتورعه وتحريه في الجواب، وتوقفه في الفتوى وعدم تسرّعه، تحرجًا وتخوفًا من القول على الله بغير علم، فإن أغلب ما يُنقل عنه من العبارات في الممنوع: لا ينبغي هذا، أو لا يصلح، أو أنا أستقبحه، أو هو قبيح، أو لا أراه، أو أكره ذلك، أو لا يعجبني، أو لا أحبه، أو لا أستحسنه، وهكذا يقول في المطلوب: هذا أحب إليّ أو أعجب، أو أنا أحب هذا، أو هذا أحسن، أو ما أحسنه، أو لا بأس به، أو أخشى أو أخاف أن يكون كذا، أو لا يكون، أو يجوز أو لا يجوز، ونحو ذلك، فأما التصريح بالإيجاب أو التحريم فقليل في الرواية عنه إلا مع قوة الدليل، ثم هو كثيرًا ما يجيب على الأسئلة بالنص الصريح في الحكم من آية أو حديث، اكتفاء بإيراده عليها عن البت فيها بحكم، وقد يقتصر على ذكر جواب من سبقه فيها من صحابي أو تابعي مما يكون رمزًا لاختياره"أهـ.
§               كما يرد الجبرين اختلافاتهم إلى أن كثيرًا من الرواة قد يخطيء في النقل أو يقع منه وهم أو سهو أو عدم فهم للجواب، للاعتماد على الذاكرة مع طول العهد بالكلام المسموع وكثرة الأسئلة أو عدم الفهم للسؤال أو فوات بعض الجواب، وكذا عزا الاختلافات لضرورات الاجتهاد وفقًا للحالة، وأن العالم قد يكون له قولان في المسألة، وكل ما ذكره الجبرين قد يكون صحيحًا، ولكنه فائق عن الحد في الفقه الحنبلي تحديدًا مقارنة بفقه سائر الأئمة، وليس بإمكاننا أن نستوثق ما يقول به الإمام أحمد ويختاره في المسائل، فالاختيارات غير مثبتة ولا محصورة.
§               ثم نجد الجبرين فوق ذلك يعترف (ص24) أنه "يظهر بالتتبع أن الكثير من المسائل المدونة في كتب الفقهاء، كمختصر الخرقي وغيره لا توجد أفرادها منصوصة عن الإمام نفسه، وإنما خرّجها أصحابه على قواعده، وألحقوها بما يشبهها من الوقائع التي نصّ عليها".
§               ثم يذكر (ص71) "لم يصرح المؤرخون باسم أحد من العلماء الذين تعلم الخرقي على أيديهم، وإنما ذكر أبو الحسين أنه قرأ على من أخذ عن تلامذة أحمد"أهـ. فالخرقي لم يأخذ عن الإمام أحمد ولا حتى تلامذته.

7-زهد الإمام أحمد و ورعه ليس قطعًا بالحُرمة:
الإمام أحمد كان زاهدًا ورعًا، وكان يتعفف عن كثير من الأمور التي يراها حلالًا، وبالتالي فإن فعله أو عدم فعله لشيء لا يقطع بحله أو حرمته من وجهة نظره. على سبيل المثال فقد ثبت عنه أنه سُئل عن مال السلطان فأجاب أنه لا يراه حرامًا ولكنه يتعفف عنه، فكم مسألة لم يفعلها أحمد وتورع عنها وهو يراها حلالًا، وأعتقد أن في هذا تفسير للصبغة المتشددة للمذهب الحنبلي لأن جزءًا كبيرًا منه أُخذ من أفعال الإمام أحمد التي اختص بها نفسه تورعًا، ولم يُلزم بها أحدًا غيره، لكن أصحابه ألزموا بها العالمين.

8-محنة الإمام ابن جرير الطبري مع الحنابلة:
كانت للإمام ابن جرير الطبري محنة بسبب من كانوا يُسمون بالحنابلة –سبق أن فصّلت فيها في مقال آخر-؛ بسبب موقف الإمام الطبري من الإمام أحمد بن حنبل في كتابه "اختلاف الفقهاء"، وموقفه من ‏مسألة الجلوس على العرش،‏ وذلك بعد رجوعه لبغداد من طبرستان للمرة الثانية، أي بعد سنة 290هـ، ‏حتى منع الحنابلة دفنه في مقابر المسلمين عندما مات سنة 310هـ.
§               ذكر ابن الأثير في "الكامل في التاريخ" (ج7، ص8)‏ عن الطبري قال: "ودُفن ليلًا بداره لأن العامة اجتمعت عليه ومنعت من ‏دفنه نهارًا، وادّعوا عليه الرفض، ثم ادّعوا عليه الإلحاد،.......... ولذلك سبب؛ وهو أن الطبري جمع كتابًا ذكر ‏فيه اختلاف ‏الفقهاء لم يصنّف مثله، ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل، فقيل له في ذلك فقال: لم ‏يكن ‏فقيهًا، وإنما كان محدِّثًا، فاشتد ذلك على الحنابلة، وكانوا لا يحصون كثرة ببغداد، ‏فشغبوا ‏عليه وقالوا ما أرادوا"‏‏أهـ.
§               ووفقًا لما رواه ياقوت الحموي في "معجم الأدباء" (ج6، ص2450) عن محنة الطبري مع الحنابلة بعد أن صنّف كتاب "اختلاف الفقهاء" ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل. قال ياقوت: "وقصده الحنابلة فسألوه عن أحمد بن حنبل في الجامع يوم الجمعة، وعن حديث الجلوس على العرش، فقال أبو جعفر: أما أحمد بن حنبل فلا يُعدّ خلافه، فقالوا له: فقد ذكره العلماء في الاختلاف، فقال: ما رأيته رُوي عنه، ولا رأيتُ له أصحابًا يُعوَّل عليهم، وأما حديث الجلوس على العرش فمحال"أهـ.
§               ذكر ابن الأثير في "الكامل في التاريخ" (ج7، ص10)‏ في ترجمة الطبري، "وكان أبو جعفر ممن لا يأخذه في الله لومة لائم، ولا يعدل في علمه وتبيانه عن حق يلزمه لربه وللمسلمين إلى باطل، لرغبة ولا رهبة، مع عظيم ما كان يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد". وقال الفرغاني –تلميذ الطبري، وصاحب كتاب "صلة تاريخ الطبري"-، فيما روى عنه السبكي في "طبقات الشافعية" (ج3، ص125) "كان محمد بن جرير ممن لا تأخذه فى الله لومة لائم، مع عظيم ما يلحقه من الأذى والشناعات من جاهل وحاسد وملحد، فأما أهل العلم والدين فغير منكرين علمه وزهده فى الدنيا ورفضه لها وقناعته بما كان يرد عليه من حصة خلفها له أبوه بطبرستان يسيرة"أهـ، ونقله الذهبي عن الفرغاني في ترجمة الطبري في "سير أعلام النبلاء" (ج14، ص274).
§               والطبري فوق ذلك كان فقيهًا، بل من الأئمة المجتهدين في الفقه، وصاحب مذهب فقهي يُنسب إليه. يقول الذهبي في ترجمته في "سير أعلام النبلاء" (ج14، ص269-270) "كان من كبار أئمة الاجتهاد، وكان ثقة، حافظًا، رأسًا في التفسير، إمامًا في الفقه والإجماع والاختلاف، علّامة في التاريخ وأيام الناس، عارفًا بالقراءات واللغة، وغير ذلك"أهـ. ولكن مذهبه الفقهي المنسوب إليه "الجريري" درس لقلة الأتباع ولتقاربه مع مذهب إمامه الشافعي، لذا يعده الشافعية منهم.
وكان الطبري قد درس مذهب الشافعي، تلقَّاه عن أصحاب الإمام الشافعي في بغداد ومصر، وتمذهب به قبل أن تكون له اجتهادات خاصة في كثير من المسائل، ودرس المذهب المالكي في مصر على أبناء عبد الله بن عبد الحكم (محمد وأخويه) تلاميذ ابن وهب صاحب الإمام مالك، وتلقَّى مبادئ الفقه الحنفي على أبي مقاتل بالريّ، بل وتلقى فقه الظاهرية مدة على يد داود بن علي الأصبهاني رئيس أهل الظاهر ببغداد، ثم تخلف عن مجلسه. ولو كان الطبري قد وجد من أصحاب أحمد من يستحق أن يأخذ عنه الفقه لطلبه، ولكن كبار تلاميذ الإمام أحمد كانوا من مشاهير أهل الحديث ببغداد كأبي داود السجستاني صاحب السُنن، وإبراهيم الحربي.
كما أن تخلف الطبري عن مجلس داود الظاهري، في زيارته الأولى لبغداد، وتسميته إياه "ذي الأسفار"، تعريضًا به من خلال الآية الكريمة، بسبب حروفيته في استخلاص الأحكام الفقهية، توضح لنا نوعية الفقه التي كانت لدى الحنابلة، والتي جعلت الطبري لا يطأ مجالسهم ببغداد، رغم عدم احتياجه للارتحال إليهم، ولا يعتبر ما عندهم فقهًا، حيث كانوا يُعرفون باسم "فقهاء الحديث"؛ لأن بعض الناس كانوا يستفتون من له علم بالحديث، وحروفيتهم لا تقل عن حروفية الظاهريين، ومن الطبيعي ألا يراها الطبري فقهًا، وهو الفقيه الذي بلغ رتبة الاجتهاد المطلق بشهادة معاصريه ومن تلاهم، وقد ظهر مما قاله لهم أنه يُميز بين المُحدِّث والفقيه.

9-أذيّة الحافظ الخطيب البغدادي من الحنابلة:
ومثل ما حدث للطبري، ما ذكره الحافظ الخطيب البغدادي في ترجمة الإمام أحمد، وعدّه الحنابلة تعصبًا عليهم وذمًا لهم؛ لأنه فارقهم. ذكر ابن الجوزي في ترجمة الخطيب في "المنتظم" (ج16، ص132). قال: "وكان أبو بكر الخطيب قديمًا على مذهب أحمد بن حنبل، فمال عليه أصحابنا لمّا رأوا من ميله إلى المبتدعة –ويعني ابن الجوزي تغيير الخطيب عقيدته إلى الأشعرية-، وآذوه، فانتقل إلى مذهب الشافعي رضي الله عنه، وتعصب في تصانيفه عليهم، فرمز في ذمهم، وصرّح بقدر ما أمكنه، فقال في ترجمة أحمد بن حنبل: سيد المُحدِّثين، وفي ترجمة الشافعي: تاج الفقهاء، فلم يذكر أحمد بالفقه"أهـ.
ولم يكن عدّ الإمام أحمد في المُحدِّثين وليس الفقهاء قاصرًا على الطبري أو الخطيب، بل كان يورده كثيرون، وطالما ردّ عليه الحنابلة في عصور سابقة، سواء بإيذاء العلماء القائلين بذلك كما رأينا، وكان هذا دأب سفهائهم، أو بتدوينات علماء الحنابلة. من ذلك ما نقله الذهبي عن ابن عقيل الحنبلي في "السير" (ج11، ص321) "قال ابن عقيل: مِن عجيب ما سمعته عن هؤلاء الأحداث الجُهّال، أنهم يقولون: أحمد ليس بفقيه، لكنه مُحدِّث. قال: وهذا غاية الجهل، لأن له اختيارات بناها على الأحاديث بناءً لا يعرفه أكثرهم. وربّما زاد على كبارهم". قال الذهبي: "قلتُ: أحسبهم يظنونه كان مُحدِّثًا وبس –أي وحسب-، بل يتخيلونه من بابة محدثيّ زماننا. ووالله، لقد بلغ في الفقه خاصة رتبة الليث، ومالك، والشافعي، وأبي يوسف، وفي الزهد والورع رتبة الفُضيل، وإبراهيم بن أدهم. وفي الحفظ رتبة شُعبة، ويحيى القطّان، وابن المديني، ولكنّ الجاهل لا يعلم رتبة نفسه، فكيف يعرف رتبة غيره"أهـ.
وأقول: عاصر ابن عقيل بدء انتشار العقيدة الأشعرية والفقه الشافعي في بغداد، بعد تشييد نظامية بغداد، وغالبًا كان من يصفهم بالأحداث الجُهّال بعض مدرسيّ النظامية، وربّما كان ابن عقيل يفهم من أين اشتق الإمام أحمد حكمه في كل مسألة سُئل عنها، وأغلب الفقهاء أيضًا يفهمون ولا شك، لكن ربما لم يدرك ابن عقيل أن عدم تعليل الإمام أحمد لأحكامه في حد ذاته، حتى وإن كان لها سند، هو نقص كبير وقدح في طريقة ذلك الفقه، لأن الفقه ليس مجرد إرشاد العامي لِما يجب أن يسلك، بل لا بد من تحديد الحكم الشرعي التكليفي (حرام، حلال، واجب، مندوب، مكروه)، وتحديد حكم من خالف، وما ينبغي في حقه، ولا بد من استخراج العلة لذلك الحكم من النصوص، وليس عدم تحديد وصف التكليف، وإخفاء العلل والاكتفاء بكونه يفهم كيف اشتق ما أرشد به في جوابه.
أما الذهبي فقد قدح في محدثيّ زمانه، وفيهم حُفّاظ كبار مشهود لهم، كونهم لا يُفتون، وبالغ في رتبة الإمام أحمد في الفقه دون بيّنة، ومقارنة بسيطة بين كتاب "الأم" للشافعي، على سبيل المثال، وبين أي كتاب من "مسائل الإمام أحمد" برواية أي من أبنائه وتلاميذه كافية لتوضيح الفارق، وأيهما له الرتبة الأعلى، فهل كان الشافعي يكتفي بأن يقرر حكم مسألة بأن يقول: لا بأس أو لا يُعجبني؟

10-عدم اعتداد فقهاء المذاهب بالمذهب الفقهي الحنبلي حتى عصور متأخرة:
لم يكن المذهب الفقهي الحنبلي يُعتدّ به عند أهل الإسلام. من ذلك، ما كتبه الإمام أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي المتوفي سنة 456هـ، في كتابه "الإحكام في أصول الأحكام" عن تقليد المسلمين الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك والشافعي دون غيرهم، ولم يأت على سيرة الإمام أحمد أو غيره من الأئمة إلا مرات معدودة، مما يدل على أن تلك المذاهب الفقهية الثلاثة كانت الغالبة لدى عموم الناس في سائر بلاد المسلمين رغم كل ما فعله الحنابلة في بغداد طوال القرن الرابع الهجري -الذي ظهروا فيه بعد وفاة الإمام بأكثر من نصف قرن- من تشغيب على المسلمين لنشر مذهبهم الذي استغلوا تقدير الناس للإمام أحمد بعد موقفه من محنة (خلق القرآن) فعزوه إليه.
يذكر الإمام أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي في "دفع شبهة التشبيه" (ص4)، قال: "إنني لمّا تتبعت مذهب الإمام أحمد رحمه الله، رأيت الرجل كبير القدر في العلوم، قد بالغ في النظر في علوم الفقه ومذاهب القدماء، حتى لا تأتي مسألة إلا وله فيها نص أو تنبيه، لكنه على طريق السلف، فلم يُصنِّف إلا المنقول، فرأيت مذهبه خاليًا من التصانيف التي كثُر جنسها عند الخصوم، وما رأيت لهم تعليقة في الخلاف –يعني خلاف الفقهاء-، إلا أن القاضي أبا يعلى، قال: "كنت أقول ما لأهل المذاهب يذكرون الخلاف مع خصومهم، ولا يذكرون أحمد؟ ثم عذرتهم؛ إذ ليس لنا تعليقة في الفقه، فصنّفت لهم تعليقة". وعلّق الإمام الكوثري محقق كتاب "دفع شبهة التشبيه" بأن ذَكَرَ اختلاف الإمام أحمد على مجالس الفقه، حتى صار له من الفقه حظ وافر، ومع هذا كان الغالب عليه وعلى أصحابه رواية الحديث.
وكان قرار الظاهر بيبرس بتخصيص مذاهب الأئمة الثلاثة أبي حنيفة ومالك والشافعي ‏–إضافة للمذهب الحنبلي- ليكون القضاة من بين علمائها بدءًا من أواخر سنة 663هـ سببًا في شيوع الاعتراف به كرابع المذاهب الفقهية للسُنة. وهذا لا يرجع لشيوع المذهب الحنبلي بين المسلمين حتى أبقاه، بل لأن فتاوى الحنابلة وتشددهم ضد التتار كانت تعجب ولاة الأمر في زمن حروبهم مع التتار.
وإجمالًا فقد كانت طريقتهم الفقهية متأثرة بفقه داود بن علي الظاهري نزيل بغداد، والذي أخذ الفقه عن إسحق بن راهويه وأبي ثور، ولم يكن داود –المتوفي سنة 270هـ- يومًا من تلاميذ أحمد رغم معاصرته له لما ثبت عن داود لدى الإمام أحمد أنه قال بخلق القرآن. وكان لاختلاط تلاميذ أحمد بتلاميذ داود ببغداد أواخر القرن الثالث الهجري أثره البادي في إرساء قواعد المذهب الفقهي المنسوب للإمام أحمد رغم عدم تطابق المذهبين.

وأقول: وتزوير الحنابلة على الإمام أحمد يتعدى نسبة ما أقاموه من مذهب فقهي إليه، فرغم ما ثبت عنه من كراهية وضع الكتب، إلا أنهم ادّعوا أنه عنى بذلك كتب الفقه فقط، ونسبوا إليه كتبًا، بعضها غير موجود، كنسبتهم إليه كتابًا في "التفسير"، ادّعوا أنه مئة وعشرون ألفًا! يقول الذهبي عن هذا الكتاب في ترجمة الإمام في "سير أعلام النبلاء" (ج11، ص328) "فتفسيره المذكور شيء لا وجود له، ولو وُجِد لاجتهد الفضلاء في تحصيله، ولاشتُهِر، ثم لو ألّف تفسيرًا، لما كان يكون أزيد من عشرة آلاف أثر، ولاقتضى أن يكون في خمس مجلدات. فهذا تفسير ابن جرير الذي جمع فيه فأوعى، لا يبلغ عشرين ألفًا. وما ذكر تفسير أحمد أحد سوى أبي الحسن بن المنادي. فقال في "تاريخه": لم يكن أحد أروى في الدنيا عن أبيه من عبد الله بن أحمد، لأنه سمع منه "المسند" وهو ثلاثون ألفًا، و"التفسير" وهو مئة وعشرون ألفًا، سمع ثلثيه، والباقي وِجادة""أهـ. والوِجادة أن يجد الشخص أحاديث بخط راويها، فأين هذه الوِجادة أم أين ما سمعه عبد الله من تفسير؟ وهل الإمام أحمد بحاجة إلى من ينسب إليه مؤلفات؟، وهل وصفه بأنه مُحدِّث كما وصفه الطبري أو الخطيب فيه انتقاص؟!

وكنا حتى قريب نظن أن الفقه لا يعنينا كثيرًا في مبحثنا عن التطرف، لأن العقيدة ترتبط بالتطرف ‏أكثر بكثير مما يرتبط الفقه، وتأثير الفقه لا يعدو بعض الأحكام المتطرفة كتحريمهم الاحتفال ‏بمولد النبي وتحريم التوسل، وإجبارهم النساء على تغطية وجوههن، وإجبار التجار على غلق ‏محالهم وقت الصلاة، وغيرها، وكذا أحكام تجاه غير المسلمين التي يُنسب أغلبها لابن تيمية وليس ‏للإمام أحمد كقتل الأسرى، وبعضها يُنسب لغير ابن تيمية، فيما يخص الكنائس والتعامل مع أهل ‏الذمة. وإنما كفّر الحنابلة المسلمين بسبب اعتقادهم في الصفات، ولو تملكوا لقتلوا المخالفين، أما ‏خلافاتهم الفقهية معهم فبدّعوهم وضيّقوا عليهم بها.‏ لكننا اكتشفنا في السنوات الأخيرة أن التبديع أيضًا يمكن أن يكون سببًا في القتل، وما حادث مذبحة مسجد الصوفية بالعريش منا ببعيد.