الاثنين، 29 يناير 2018

133-هل أحمد بن حنبل أبو الإرهاب الإسلامي؟!


هل أحمد بن حنبل أبو الإرهاب الإسلامي؟!
د/ منى زيتون
الجمعة 7 يونيو 2019

نُسِب إلى الإمام أحمد بن حنبل أنه أبو العنف والإرهاب الإسلامي؛ لسببين: أحدهما ما نُسِب إليه من الإفراط في التكفير والتبديع، والثاني: انتساب تلك الفرقة من الغُلاة إليه، المسماة في عصرنا بالسلفية.
فيما يخص السبب الأول، أرى أن كل ما ورد عنه من أقوال بتبديع أو تكفير لأي فئة ممن خالفهم في الرأي، أو ذم لأي اعتقاد يراه مخالفًا للسُنة، كالقول بخلق القرآن أو التوقف فيه، أو ذم إنكار رؤية الله تعالى بالأبصار يوم القيامة، أو ذم الكلام، أو ذم فقه الرأي، كان من باب صدعه بما يراه الحق، وليس التحريض على معتقديه ولا على قتلهم. لو كان ابن حنبل مصدرًا للعنف، أو محرِّضًا على الإرهاب لأذاق المعتزلة الأمرّين في عهد المتوكل، وحرّض على امتحانهم وقتلهم، لكنه لم يفعل.
وكذا فإن بعضًا مما نُسِب إليه من أقوال متكلفة، من المنطقي أن نطعن في صحة تلك النسبة إليه؛ فكيف يصحّ عنه أنه كان يرى تجويد القرآن بدعة، بينما يروي في مسنده أحاديث باستحباب التغني بالقرآن وتزيين أصواتنا به؟! كما قد نسبوا إليه قوله بعقيدة الإقعاد على أنها هي المقام المحمود؛ حيث يدّعون أن المقام المحمود الذي وعد الله به نبيه صلى الله عليه وسلم هو إقعاده بجانبه على العرش يوم القيامة، بينما يروي الإمام أحمد في مسنده أحاديث تثبت أن المقام المحمود هو الشفاعة!!
وأما عن هؤلاء الغُلاة المتسمين بالحنابلة أو السلفية؛ فقد نسبت هذه الفرقة نفسها إلى الإمام أحمد بن حنبل، وجعلوه في عين من لم يعرفه شخصًا ذا عقيدة مشوهة، وفقه متشدد، وصار من كان يُشهِد الله بأنه سامح المعتصم مع كل سوط يُجلده في المحنة، مصدرًا للعنف والإرهاب! بل زعيمًا للإرهابيين!
وكان أئمتهم -من مبدئهم-، ولا زالوا أبعد ما يكونون عن شخصية الإمام أحمد المسالمة، التي لا تسعى للبطش، ولا للاتصال بالسلطان؛ فالثابت عن الإمام أحمد أنه كان يتعامل مع العُصاة باللين والرفق، فإما أنكر بقلبه وترك العاصي وشأنه، وإما نصحه بلسانه، وأقصى ما رُوي عن دعمه للإنكار باليد فيه هو استباحته إفساد الخمر دون الإناء، واستباحته كسر آلات الملاهي، فكان لا يرى في العموم أن يُطبَّق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باليد بشكل فردي أو مع جماعة بعيدًا عن السلطان، بل كان يرى ألا يُرفع إلى السلطان بشأن المسيء، وربما كان هذا تورعًا منه عن التسبب في أذى الناس، لأن السلطان قد يُعاقب المخطئ بعقوبة أشد مما يستحق، ولا شك أنه قد رأى أمثلة على ذلك أثناء فترة سجنه وتعذيبه في المحنة. ولم يكن يتصل بالخلفاء، ولا يقبل عطاياهم، حتى خاصم أهله لمّا قبلوا عطاء المتوكل، وطلب منه الإمام الشافعي عندما دخل بغداد المرة الثانية أن يلي قضاء اليمن، تخفيفًا عليه، لعلم الشافعي أنه يُكلف نفسه عناء السفر إلى اليمن لطلب الحديث من الإمام عبد الرزّاق، فلم يقبل الإمام أحمد تورعًا.
ولكن هؤلاء لم يخالفوه فقط في العقيدة، بل كانت سيرتهم مع العامة ومع الخلفاء على العكس منه تمامًا؛ فكانوا يجيّشون العوام للفتنة، وهو الذي لم يقبل أن يتأذى أحد بسببه في أثناء محنة خلق القرآن، ورفض أن يستتر خوفًا أن يُضار أحد من أهل بيته أو جيرانه إن طلبوه ولم يجدوه، والمقارنة بينه وبين شخص كالبربهاري تبدو غير لائقة، ولكنها ضرورية، فالأخير حوّل بغداد إلى ساحة حرب، وعندما طلبته الشرطة استتر، وجعل عوام الحنابلة يحرقون أسواق الشيعة لمّا همت الشرطة بالقبض على أحد أصحابه. وأما عن علاقتهم بالسُلطة، فقد تعفف الإمام أحمد عنها، ولم يقلدوه في ذلك، فولي ابن هُبيرة الوزارة للخليفة المقتفي لأمر الله ولابنه المستنجد، وولي الفراؤون القضاء، وكان آل البيت التميمي يُبتعثون برسائل الخليفة، وكان ابن الجوزي علّامة كبير مشتغل بالتدريس والتأليف حتى ألّف مئات الكتب، ولكنه كان يسعد بالتقارب مع الكبراء، وربما كان أقربهم لشخصية الإمام أحمد هو ابن عقيل، الذي خاصموه سنوات لأنه يحضر دروس أبي علي ابن الوليد المعتزلي، ولم يستطيعوا منعه من حضور دروس الغزالي بعدها بسنوات.
‏وقف هؤلاء السلفية موقف العداء من باقي أصحاب العقائد من المسلمين وكفّروهم وبدّعوهم بدعوى مخالفتهم ‏لعقيدة السلف، وحاولوا القضاء على كل المذاهب الأخرى، وما بُنيت علوم الإسلام إلا بجهود العلماء من كل تلك المذاهب التي أراد السلفية هدمها، وأطلقوا على أنفسهم عددًا من المصطلحات الأخيرة أهمها أهل السنة وأهل الحديث، ‏رغم أنهم هم الأقلية الذين جاءوا باعتقاد غريب لا يوافقهم فيه أحد من المسلمين.‏
وأدى التعصب المذهبي العقدي والفقهي لدى أتباع تلك الفرقة، مع غرابة معتقداتها وفقهها وتشددهما، إلى إثارة الفتن قديمًا مع الفرق الأخرى، خاصة مع تعارضها بشكل صارخ مع عقائد بعض الفرق تحديدًا كالشيعة. ولا زال هذا التعارض وذاك التعصب يشكلان رافدًا مستمرًا للفتن. والمشكلة الأكبر في تطرف السلفية أن تطرفهم كان ولا زال يخلق تطرفًا مضادًا.