الاثنين، 29 يناير 2018

147-التواء المنحنى الجرسي وهلاك الأمم

التواء المنحنى الجرسي وهلاك الأمم
د/منى زيتون
الخميس 19 أبريل 2018
مزيد الأحد أول يوليو 2018
الجمعة 5 يوليو 2019
http://www.almothaqaf.com/a/qadaya2019/938129

فور انتهاء انتخابات الرئاسة المصرية التي أُجريت في مارس 2018، والإعلان عن نتيجتها المحسومة سلفًا في الثاني من أبريل من العام نفسه، بدأ الإعلان عن ثم تنفيذ حزمة من الإجراءات المتناقضة التي كان من شأنها توسيع الهوة الاقتصادية بين المصريين.
طالعتنا الصحف المصرية في أبريل الماضي بخبر مؤكد عن صدور قانون من مجلس النواب المصري يقرر زيادة كبيرة في رواتب ومعاشات رئيس الحكومة ونوابه والوزراء، وكذا رئيس مجلس النواب ونوابه والأعضاء، مع تقرير عن زيادات قريبة لأعضاء السلك الدبلوماسي. ثم توالت علينا في شهري مايو ويونيو أنباء مؤكدة هي الأخرى عن زيادات في أسعار الكهرباء والمياه والوقود في الوقت ذاته الذي زيدت فيه ميزانية البرلمان وتمت الموافقة على سفر عدد كبير من نوابه لحضور مبارايات مصر في كأس العالم على نفقة الدولة!
استفز قانون زيادات معاشات المسئولين والتصريحات المتعلقة به من المسئولين والإعلاميين عموم المواطنين، خاصة وأن الحكومة قد طعنت في  الشهر ذاته –أبريل- على حكم القضاء بأحقية أصحاب المعاشات في علاوات اقتطعت منهم دون وجه حق! وكان الأكثر استفزازًا أن تقرر تطبيق القانون الجديد الخاص بالوزراء بأثر رجعي من عام 2015! ثم تنفيذ الزيادات التي كانت متوقعة في أسعار الطاقة والوقود دون حتى انتظار زيادة الرواتب المرتقبة لعموم الموظفين في يوليو القادم.
لم يكن الأمر بالنسبة لي ولا لغيري من المعارضين مفاجئًا؛ فسياسة نظام السيسي واضحة إلا للعميان المُصرِّين على التغافل. النظام يضغط على الفقراء بغباء، لا يهمه أن يزدادوا فقرًا، ويزيد غيرهم غنى. ولا زال أمام الفقراء حزمة جديدة من الغلاء عليهم أن يواجهونها في القريب، لم يبال النظام بالإعلان عنها متبجحًا قبل موعدها، ومتوعدًا إياهم بأنها ليست إلا مرحلة جديدة من مراحل رفع الدعم نهائيا عنهم.

بئر معطلة وقصر مشيد!
يقول تعالى: ﴿فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾ [الحج: 5].
قال الإمام الطبري في تفسير الآية: "﴿وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ﴾ يقول تعالى: فكأين من قرية أهلكناها، ومن بئر عطلناها، بإفناء أهلها وهلاك وارديها، فاندفنت وتعطلت، فلا واردة لها ولا شاربة منها ومن ﴿وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾ رفيع بالصخور والجص، قد خلا من سكانه، بما أذقنا أهله من عذابنا بسوء فعالهم، فبادوا وبقي قصورهم المشيدة خالية منهم"أهـ.
ووفقًا لهذا التفسير لم يكن الإهلاك مصحوبًا بنازلة حدثت بالمباني بل خص البشر دون الحجر! ولا أفهم كيف يستقيم هذا مع قوله تعالى ﴿فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ بما يعني أن عروش المساكن –سقوفها- قد سقطت، ثم سقطت عليها الجدران؟! صحيح أن بقاء آثار الظالمين مع زوالهم عظة تُترك لمن بعدهم علَّهم يعتبرون، لكن لا يعني هذا أن يُدعى أن آثارهم لا زالت قائمة، خاصة وأن هذا لا يُفهم من الآية عند التدقيق.
وسبب الإهلاك؛ وهو ظلم أهل القرية حاضر في الآية، وإن كان اللافت أنه جل شأنه نسب الإهلاك والظلم كليهما للقرية، والقرية مكان لا يهلك ولا يظلم، وإنما يهلك ويظلم ساكنوه. وهي دلالة على أن الهلاك -إن حق عليهم- يصيب الجميع لا ينجو منه رءوس القوم أو بسطائهم.
و﴿فَكَأَيِّن﴾ للتكثير، فهي مبالغة في الكم؛ فكأن الحق سبحانه يقول: كم أهلكنا أهالي القرى الظالمة. لكن، تراه ما كان هذا الظلم الذي تسبب في الهلاك، وهل كان الكفر بالله؟!
لقد رأى مفسرونا في تعطيل البئر أنه رغم أنها مليئة بالماء إلا أنه لا يُستقى منها لهلاك من كانوا ينتفعون بها. ولكن فاتهم أن ذلك التفسير قاصر عن توضيح المقابلة في الآية بين تعطيل البئر المتخذ لمنافع عموم الناس والقصر المشيد الذي لا يكون إلا لخواصهم. فعلى رؤيتهم يكون هلاك سكان القرية السبب في تعطل البئر، ولم ينتبهوا إلى أنه قد يكون العكس هو الصحيح!
تعطيل الشيء في اللغة هو إبطال منافعه؛ فهناك بئر لا يمكن أن يستقي منها الناس رغم أنها ممكنة الاستفادة منها، ويظهر لنا في المشهد أيضًا ذلك القصر المشيد الذي لا يكون إلا سكنًا لعلية القوم. وما أفهمه من الآية أن ذلك الظلم الذي أوجب الهلاك كان فسق الحكام وترفهم وتخاذلهم في الوقت ذاته عما يتوجب عليهم من إصلاح أمور العامة؛ فهو السبب، والنتيجة هي هلاك سكان القرية برمتها وليس فقط المترفون.
ألا يذكرنا هذا بقوله تعالى: ‏‏﴿‏كَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا﴾ [الأنعام: 123] وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: 16].
في آية الإسراء كان ترتيب العلاقة السببية أوضح ففسق المترفين أدى إلى هلاك القرية، كما أنه من الواضح أن ذلك الهلاك للقرية كان بتدمير الحجر وليس فقط إفناء البشر مع بقاء آثارهم قابلة للانتفاع وفقًا لما فهمه مفسرونا من آية الحج، وأحسبه فهم خاطئ؛ كونهم عكسوا العلاقة السببية، وما حسبوه بقي من مباني إنما ذُكر لتوضيح تضاد الوضع قبل الإهلاك بين معيشة الفقراء الذين عُطلت أهم منافعهم وهي البئر، ومعيشة الأغنياء الذين تمادوا في الترف فسكنوا القصور، فكان هذا الوضع سببًا لهلاك الجميع؛ من فعل ومن رضخ وأذعن للاستبداد.

المنحنى الجرسي
من المعروف لأي دارس للفروق الفردية أن الصفات الإنسانية تتوزع توزيعًا اعتداليًا بين البشر. نجد هذا في الصفات الجسمية كالطول والوزن، كما نجده في الصفات العقلية وأهمها الذكاء، كما يُلاحظ حتى في السمات الانفعالية وحتى الخلقية. فهناك نزعة مركزية؛ أي تجعل عموم البشر تميل إلى المركز، وهو متوسط  الدرجات في أي صفة.
بمعنى أنه في حال سحب عينة عشوائية من المجتمع، كبيرة بما يكفي لتعبر عن أفراده، واستخدام مقياس مقنن، فسيتوزع أغلب أفراد هذه العينة في الصفة المقيسة عند المنتصف، حول المتوسط، وتبلغ نسبتهم حوالي 68%، وسيقل التطرف زيادة ونقصًا كلما ابتعدنا عن متوسط الدرجة.

ولأن هذا التوزيع هو الذي يعبر عن الاعتدال في الصفة وعدم الميل والإجحاف، يسمى التوزيع اعتداليًا، ولأنه يعبر عنه بيانيًا في شكل منحنى يشبه الجرس يسمى المنحنى الجرسي أو المنحنى الجرسي الاعتدالي.


وهذه الفروق الفردية لا تقتصر على البشر، بل يمكن ملاحظتها في جميع الكائنات الحية. كما ولا يقتصر التوزيع الاعتدالي على صفات البشر بل ينطبق حتى في أنصبة البشر من كل الموارد؛ فدرجات الحرارة تتوزع اعتداليًا على مدار العام، وكميات المطر التي تسقط في بلد ما على مدار أعوام تزيد وتنقص بحيث تشكل منحنى اعتداليًا أيضًا!
ومن المفترض أيضًا أن تتوزع الأجور–كنوع رئيسي من الموارد- بين البشر توزيعًا اعتداليًا جرسيًا كي تستقيم الحياة ويستمر المجتمع دون أن يحل غضب الله عليه ويهلك. لكن فئات من البشر بطمعهم تحدث التواءً في التوزيع، فتبعده عن التماثل.

والتوزيع الاعتدالي للأجور في المجتمع لا ينكر تفاوت الناس ووجود الطبقات الاجتماعية، لكنه فقط يُنكر أن تقل الطبقة المتوسطة التي يُفترض أن تكون السواد الأعظم، ويلتوي المنحنى التواءً سالبًا بحيث يكون ذيل المنحنى ممتدًا نحو اليسار، لتكون أكبر فئاته متركزة في الطبقات الفقيرة، والأشد فقرًا، بينما المجتمعات المتقدمة تجتهد في رفع متوسط الدخول، وفي ليّ التوزيع جهة اليمين لتزيد الفئات التي تحيا في رغد من العيش.


الثورات والعدالة الاجتماعية
ومشكلة افتقاد العدالة الاجتماعية في مصر قديمة قدم التاريخ. وبالنظر في تاريخنا الحديث فقد كان من أهداف ثورة يوليو 1952 تحقيق تلك العدالة الاجتماعية المنشودة. يبدو ‏هذا منطقيًا لأن الطبقية الشديدة في المجتمعات دائمًا ما تكون السبب الأول في ثورة الشعوب، وإن كانت حقيقة الأمر أن الشعب ذاته لم يثر، وكانت صياغة أهداف الثورة محاولة لإكسابها شيء من الشرعية وإظهار حراك الجيش على أنه تلبية لمطالب الشعب.‏
ظاهريًا كانت الثورة مع تحقيق العدالة الاجتماعية، وكان طريقها إلى ذلك اجتزاز الطبقة ‏الحاكمة وعلية القوم في العهد الملكي وإفقارهم، ورفع مستوى الفقراء بالتعليم والتوظيف وتملك ‏الأراضي.‏
يمكن القول أن ثورة 1952 في بدايتها قد خلقت نوعًا آخر من الانحياز للفقراء على حساب ‏الأغنياء، أو بالأحرى الذين كانوا أغنياء في العهد الملكي، لكن في مرحلة لاحقة من عهد عبد ‏الناصر خلقت طبقة ثرية وضيعة من أصحاب النفوذ، ليعود التفاوت الطبقي من جديد. ثم في عهد السادات ساعدت سياساته الاقتصادية ‏في خلق طبقة رجال أعمال انتهازية أوجدت نمطًا استهلاكيًا سيئًا لدى عموم الشعب لأجل تسويق ‏سلعها وزيادة مكاسبها، وذلك على عكس رجال الأعمال في العهد الملكي الذين كانوا رجال ‏صناعة، استثمروا في بناء المصانع، ولم يكن كل همهم استيراد السلع التافهة.
وكان اتساع التفاوت الطبقي مرة أخرى في عهد مبارك ‏الباعث الرئيسي لقيام ثورة يناير 2011. وها هو الوضع يسوء في عهد السيسي إلى درجة مخيفة. يحدث الآن في المجتمع المصري أن أعداد الفقراء فقرًا مدقعًا تتزايد من جديد، بينما تقل أعداد الطبقة الوسطى.
إن أردنا التشبيه بإسقاط ما يحدث في التركيبة الاجتماعية المصرية على صفة جسمية كصفة الطول سنجد أن الأمر أشبه بمجتمع أفراده متفاوتو الطول إلى حد بعيد، يمشي أفراده العمالقة –على قلتهم- بمعزل عن أغلب أفراده من الأقزام، ولا تكاد تلحظ العين أفرادًا متوسطي الطول بينهم.
وهل يمكن أن نتخيل مجتمعًا يزيد فيه العباقرة عن الحد الطبيعي في مقابل ارتفاع مخيف في أعداد المتخلفين عقليًا، بينما لا يكاد يوجد متوسطو ذكاء؟!
إن أي محاولة جادة لإصلاح المجتمع المصري تقتضي أولًا وقبل كل شيء أن نضع نُصب أعيينا تلك المقابلة القرآنية بين حال المترفين ساكني القصور وحال المعدمين ممن تعطلت معايشهم، وكيف كانت سبب هلاك الجميع. مرة أخرى ﴿وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ﴾.
لكن المشكلة ليست في حدة التفاوت الطبقي وحسب، بل في انعدام الحراك الاجتماعي أيضًا؛ حيث يعتبر الحراك الاجتماعي وسيلة الفقراء للترقي في المجتمع، والمجتمع المصري مع انتشار الفساد فيه صار مقاومًا للحراك الاجتماعي، وذلك على العكس تمامًا من الوضع في العهد الملكي؛ حيث كان النابهون يصعدون في السلم الاجتماعي حتى أعلاه، ويُرحب بهم.
ثم إنه تُوجد كذلك مشكلة في النوعية المحدودة التي يُسمح لها بالترقي الاجتماعي، والذي يتم بناءً على معايير فاسدة، ونظرة إلى الإعلاميين المصريين ووضاعتهم تفهمنا من يترفع في مجتمعنا وكيف يتم له ذلك.
وخلاصة ما يمكن قوله إن مجتمعًا هذا حاله سيئول أمره إلى كارثة ما لم يبعث لنا الله من يكشف الغمة على يديه، ويصلح أحوال البلاد والعباد.