الاثنين، 29 يناير 2018

148-التواصل الاجتماعي ومطالب النمو


التواصل الاجتماعي ومطالب النمو
د/منى زيتون


الأحد 27 يناير 2019

عام 1953، نحت هافيجهرست Havighurst مفهوم مطالب النمو، محاولًا تحديد الخطوات الضرورية التي ينبغي أن يمر بها نمو الإنسان منذ لحظة ميلاده وحتى نهاية عمره لأجل تحقيق حاجاته وإشباع رغباته الإنسانية العامة، ومنذ ذلك الحين أصبح هذا المفهوم من المفاهيم الأساسية في علم نفس النمو، كما أن له تعلقه الواضح بكثير من المشاكل الاجتماعية والتربوية.
وتتفاوت مطالب النمو لكل مرحلة عمرية ما بين مطالب أساسية ومطالب عامة ومطالب فرعية، وهي أشبه بدرجات السُلم، نخطوها تباعًا. ولا يعنينا تصنيف مطالب كل مرحلة. ما يهمنا فقط أن نفهم أن هناك ما يحتاجه كل فرد إنساني في كل مرحلة عمرية ليعيش سعيدًا في تلك المرحلة وما بعدها من مراحل عمرية؛ ذلك أن تحقيق مطلب من مطالب نمو المرحلة يؤدي إلى تسهيل تحقيق المطالب الأخرى في المرحلة العمرية نفسها وما يليها من مراحل.
كما تتفاوت مطالب النمو في الدوافع الكامنة خلفها؛ فمنها ما يأتي كاستجابة لمظاهر النمو العضوي السليم مثل تعلم الطفل الصغير للمشي، ومنها ما يتأثر بالتنشئة الاجتماعية وثقافة المجتمع كتعلم القراءة والكتابة في المجتمعات غير البدائية، ومنها ما يتأثر بمستوى طموح الفرد فمطلب نمو مثل مزاولة مهنة كالطب أو التدريس الجامعي لا يساوي مزاولة مهنة بسيطة لا تحتاج جهدًا سابقًا في تعلمها كالبيع والشراء.
وجميع مطالب النمو لو دققنا فيها لها صلة بتواصل الفرد الاجتماعي، حتى المطالب ذات الصبغة البيولوجية كتعلم المشي بشكل سليم أو تعلم الكلام أو ضبط الإخراج؛ لأنها ستؤثر حتمًا على تفاعله الاجتماعي مع الآخرين.
في مرحلة الطفولة تتركز مطالب النمو على المطالب البيولوجية كبداية؛ فيلزم الفرد تعلم المشي وتعلم استخدام عضلاته الصغيرة للقبض على الأشياء وغيرها، وتعلم الأكل، وتعلم الكلام، وتعلم ضبط الإخراج، وتعلم المهارات الحركية اللازمة للألعاب والأنشطة البسيطة التي يقوم بها، لكن لا يخلو الأمر من تعلم اجتماعي، فالطفل ومنذ طفولته يتعلم أن يرتبط انفعاليًا بوالديه وعائلته.
لكن في مرحلة لاحقة تظهر أهمية تعلم أشياء أخرى غير بيولوجية، كتعلم القراءة والكتابة، وتعلم معايير السلوك الاجتماعي السليمة، والتمييز بين الصواب والخطأ، وتكوين مفاهيم بسيطة عن الحقائق الاجتماعية وعناصر الطبيعة من حوله.
ويشتد التوجه نحو التعلم الاجتماعي كلما ارتفع سن الطفل فيتعلم الفروق بين الجنسين، ويبدأ إدراك مفهوم الدور الجنسي في الحياة، ويتعلم مصاحبة الأقران وليس فقط أن يكون في جماعة يلعب معهم، والأهم أن يُكوِّن اتجاهًا إيجابيًا نحو نفسه في هذه المرحلة، ويبدأ تكوين الضمير وتعلم القيم الخلقية والمعايير السلوكية المقبولة في المجتمع.
بدخول الإنسان مرحلة المراهقة يكون قد أتم نضجه الفسيولوجي، لكنه لا زال قاصرًا اجتماعيًا، لذا فإن مطالب النمو في مرحلة المراهقة تركز على كل ما يؤدي بالفرد إلى تحقيق التوافق النفسي والاجتماعي، ومن أهم تلك المطالب تقبل التغيرات التي تحدث له نتيجة نموه الفسيولوجي وأن يتوافق معها، وأن يتقبل مظهره الجسماني، ولهذه المطالب دورها الهام في تحقيق مطلب نمو هام من مطالب المرحلة وهو تحقيق الثقة في الذات، ولهذا أثره القوي على تفاعله الاجتماعي. وهناك مطالب اجتماعية أخرى في المراهقة لها أيضًا تأثيرها على تواصل الفرد الاجتماعي وهي: تكوين علاقات جيدة مع الرفاق، وتقبل الدور الجنسي في الحياة كذكر أو أنثى، والتصرف بما يلائمه. ومن مطالب النمو في المراهقة أيضًا استكمال التعليم واختيار مهنة والاستعداد لها على كل المستويات الجسمية والعقلية والاجتماعية، وتكوين المفاهيم العقلية الضرورية للإنسان الصالح في المجتمع.
ثم يبلغ الإنسان الرشد الاجتماعي، فتتزايد مطالب النمو الاجتماعية، وأهمها اختيار الزوجة أو الزوج، ثم الحياة مع شريك الحياة بنجاح وتحقيق التوافق الأسري، ثم تربية الأطفال والمراهقين والإشراف على عملية تنشئتهم وتطبيعهم اجتماعيًا.
في سن الرشد ثم الشيخوخة تبرز مطالب نمو اجتماعية أخرى تتناسب مع التقدم في العمر، فالأمر لا يقتصر على التوافق للضعف الجسمي أو المتاعب الصحية التي تزيد مع زيادة العمر، بل تتضمن مطالب النمو القيام بنشاطات ملائمة لفترة منتصف العمر وكبر السن، والتوافق مع فكرة ترك الأبناء للمنزل، والاستعداد نفسيًا لتقبل المساعدة من الآخرين، ثم التوافق النفسي بسبب الإحالة للتقاعد.
ويعتبر عدم تحقيق نسبة كبيرة من البشر لمطالب النمو الخاصة بالمرحلة العمرية أو عدم تقبلهم لمرحلتهم العمرية من أسباب حدوث مشاكل تواصل اجتماعي لهم وللمحيطين بهم؛ فأصدقاء عمرك ينتظرون صحبتك بينما أنت تصادق من هم أقل منك عمرًا وتتركهم! وزوجتك وأطفالك يفتقدونك بينما أنت تعيش كالمراهقين وتقضي وقت فراغك بالكامل مع أصدقائك على المقهى! أما عن تصابي بعض النساء في المظهر والسلوك فيترتب عليه الكثير من مشاكل التفاعل الاجتماعي كالغيرة ممن هن أصغر سنًا، وكثير من المشاكل التي تفتعلها الحموات تأتي من عدم تحقيق مطلب النمو بتقبل استقلال وانفصال الأبناء.
بالرغم من ذلك ينبغي ألا يُفهم كلامي أن قطار العمر يفوت، ويُفوِّت على الإنسان نجاحات لا يمكنه تحقيقها سوى في مرحلة معينة، فإن مضت المرحلة العمرية فلنقتل الأمل! وهذا ما لم أقصده. أغلب الأشياء في الحياة لا يُفترض أن ترتبط بالعمر، بل العمر أكثر منبئ سيء بنجاحها أو فشلها. على سبيل المثال فقد كثُر الحديث وبسبب الأحوال المتردية في الكثير من بلادنا عن عمر القادة، وفائدة الاستعانة بالشباب، بينما نجد في التاريخ من حكم بلدًا بأكملها في سن الكهولة كعبد الناصر، الذي حكم مصر وعمره 32 سنة، وتدهورت أوضاع مصر الاقتصادية في عهده، ولكن هذا لا يصلح للتعميم؛ فقبله الملك فاروق حكم وهو لم يكمل 18 سنة ميلادية وكان أفضل عهد حكم في مصر طيلة القرن العشرين، والإسكندر قبله ملك الدنيا وهو شاب صغير. قد ينجح الشاب في الحكم وقد يفشل، مثلما قد ينجح الشيخ كبير السن وقد يفشل. والشيء نفسه يُقال في الإيمان؛ أهل الكهف كانوا (فتية آمنوا بربهم) وسيدنا إبراهيم كان (فتى) لمّا كسّر الأصنام، وسيدنا يوسف أُعطي النبوة في البئر وهو فتى، بينما أهل زمانهم ممن هم أكبر سنًا كانوا لاهين غافلين، لكن سيدنا نوح كان شيخًا كبيرًا، وأكبر أهل زمانه عمرًا وأرشدهم! والإيمان وطلب الهداية لا هو حكر على الشباب ولا الشيوخ. وحتى في الزواج لا يكون العمر منبئًا إطلاقًا بنجاحه أو فشله؛ يمكن أن يكون فارق السن بسيطًا بين الزوجين ويكون الزواج ناجحًا، ويمكن أن يكون أفشل زواج في العالم، والعكس. وقد يتزوج إنسان في سن مناسب وفقًا لمعايير المجتمع وينجح، وقد يفشل، والعكس.
العمر ليس المعيار الأمثل لكل شيء في الدنيا، كثيرًا ما يكون آخر معيار ينظر إليه العقلاء، وأكثر معيار يركز عليه الفاشلون اجتماعيًا، وربما كان من أهم أسباب فشلهم، لكن الإنسان الناجح أيضًا يحب كل مرحلة من مراحله العمرية ويتوافق معها. أنت رائع وأنت طفل، ثم وأنت مراهق، ثم وأنت شاب فكهل، رائع أيضًا في شيخوختك، ويمكنك أن تجعلها أجمل سنين عمرك. تنقل بين مراحل عمرك واستمتع بالتغييرات المصاحبة لها كما تتنقل النحلة من زهرة إلى أخرى، وتذوق كل زهرة واستمتع بها، فلكل عمر جماله.