الاثنين، 29 يناير 2018

149-مشكلات التواصل اللفظي بين الجنسين


مشكلات التواصل اللفظي بين الجنسين
د/منى زيتون
الجمعة 27 أبريل 2018

الأربعاء 30 يناير 2019
http://www.almothaqaf.com/a/b1d/934189


خلاصة الحكمة النبوية في مجال التواصل الاجتماعي تكمن في عبارة "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"؛ فالكل يريد أن يُعامَل بشكل جيد، لكن هل هو يُعامِل الآخرين بشكل جيد؟! سؤال يستحق أن يقف كل منا أمامه ويجيب بصراحة؛ لأنه كثيرًا ما تكون سلوكيات الآخرين نحونا ردود أفعال لسلوكياتنا نحن غير اللائقة!
ومن المهم أيضًا أن ندرك أن طريقة تعامل الآخرين معنا يتوقف جزء منها عليهم، وجزء يتوقف علينا فلا أحد بإمكانه أن يسيء معاملتك ما لم تسمح له بذلك. ولأنه لا يمكن أن تكون سعيدًا ومن حولك تعساء -فهذه قاعدة أساسية في العلاقات الاجتماعية- فمن المهم للغاية عندما يحدث خلاف بيننا وبين الآخرين أن نحاول فهم الموقف من جهة الآخر. كيف رآه؟ لا أن نُصِّر على رؤيتنا الضيقة ولا نقرأ القصة من الجهة الأخرى. وهذا لا يعني أن نكون نحن المخطئين بالضرورة. قد يكون الطرفان مخطئين، وقد يكون طرف واحد هو المخطئ. المهم أنني عندما أقرر أن الآخر هو المخطئ لا أكون أتجنى عليه، بل أكون قد فهمت كيف رأى الأمر، وما هي دوافع سلوكه، ومع ذلك فهو بمنتهى الموضوعية المخطئ أو ربما أنا، وأقر بذلك إن لزمتني الحجة.
ومن المهم أيضًا أن نعي ما هي حدود إساءة التعامل؟ فشكوى بعض الناس من سوء المعاملة تأتي لعدم توافق توقعاتهم من الآخرين مع ما يقوم به هؤلاء؛ بمعنى أنه لا إساءة تحدث تجاههم، ولكن ليس هذا ما يتوقعونه! توقعاتنا من الآخرين كثيرًا ما تكون سبب افتقادنا السعادة معهم، وكلما قللنا التوقعات وانتظرنا تصرفاتهم نحونا كما لو أنها مفاجآت، كلما كانت فرصتنا في السعادة معهم أقوى. لنكن واقعيين.
إن أغلب مشاكل البشر اجتماعية وليست نفسية. وبالرغم من أهمية التواصل غير اللفظي إلا أن كثيرًا من مشاكل التواصل الشائعة بين الجنسين تلعب فيها مهارات التواصل اللفظي غير المتوازنة دورًا كبيرًا. وهو ما سنخصص الحديث عنه في هذا المقال.

مشكلات التواصل اللفظي بين الجنسين
تكاد تتفق الدراسات التي أُجريت عبر مختلف الثقافات لتحديد الفروق بين الجنسين في المهارات الاجتماعية أن النساء أعلى من الرجال بدلالة في مهارات التعبير اللفظي والتعبير الانفعالي والحساسية اللفظية والحساسية الانفعالية والضبط اللفظي. فإذا ما تعلق الأمر بالعلاقات الشخصية تكون الفروق أوضح.

مشكلات معدل الحديث (ندرة الحديث والثرثرة)
تعد مشكلات معدل الحديث (ندرة الحديث والثرثرة) أهم المشكلات التي تتصل بالتواصل اللفظي بين الجنسين، وأكثرها شيوعًا.
يمكن توصيف الجناح الأول للمشكلة بحالة الخرس التي تعتري كثير من الرجال في علاقاتهم الشخصية بالنساء، وعدم قدرتهم على المبادرة بالحديث، أو الحديث في أشياء ليست هي التي تتوقعها المرأة من الرجل في موقف اجتماعي محدد، وهي حالة معروفة وشائعة، ويكاد لا يُستثنى منها رجل لكن مع اختلاف التوقيت، فبعض الرجال يعاني منها قبل الزواج، وبعضهم الآخر يصيبه الخرس الزوجي بعد الزواج؛ فهناك صنف من الرجال لا يجيد التعبير عن مشاعره لفظيًا، والدوران حول محور الكرة الأرضية أسهل لديه من مصارحة المرأة التي يحبها برغبته في الزواج منها، أما الخرس الزوجي فقد تلعب الفروق الثقافية واختلاف الميول بين الزوجين دورهما فيه، لعدم وجود موضوعات تصلح كمادة لحوار مشترك بينهما، لكن لضغوط الحياة على الرجال أثرها أيضًا في هذه الظاهرة؛ فالرجل المصري المعاصر يدخل "غرفة اللا شيء" في مخه وينعزل فيها بمجرد دخوله المنزل، وكأنه اكتفى من الضغوط خارج المنزل. كما لا يكاد يُستثنى رجل على ظهر الأرض من الشكوى من ثرثرة زوجته وحديثها فيما لا يفيد على حد وصف الرجال. وهذا هو جناح المشكلة الثاني.
فالمشكلة تبدو مزدوجة لدى كل من النساء والرجال، كما أنها مزدوجة من حيث علاقتها بكلتا نوعيتيّ المهارة (التعبير- الحساسية)؛ حيث أن مشكلات معدل الحديث (ندرة الحديث – الثرثرة) لا تعكس مشكلة في مهارة التعبير فقط، بل غالبًا تتزامن الثرثرة مع ضعف مهارتي الحساسية اللفظية والانفعالية عند الفرد، فهي تعكس انعدام الحساسية لردود أفعال الآخرين وللقواعد المعيارية للسلوك الخاص بالمواقف الاجتماعية؛ فالثرثار لا يدرك التأثيرات السلبية لمعدلات حديثه المرتفعة على من يتواصلون معه. لكن، هل معدل حديث أغلب النساء بالفعل يستحق توصيفه بالثرثرة؟!
أما ندرة الحديث فقد تكون أيضًا بسبب ضعف مهارتي حساسية الفرد لردود أفعال الآخرين اللفظية وغير اللفظية، وما يتوقعونه منه، لكن السبب الرئيسي لظهورها هو ضعف مهارة التعبير اللفظي لدى الفرد، واستخدامه أشكالًا مختلفة من قنوات التواصل غير اللفظي الانفعالية كتعبيرات الوجه والعينين وغيرها لإيصال مشاعره واتجاهاته؛ ظانًا أن القنوات غير اللفظية كافية لإيصال المشاعر والاتجاهات، رافضًا الإذعان لحقيقة أن اللغة كانت وستبقى وسيلة التواصل الأساسية بين البشر. فإن كان كلا طرفي التواصل يعاني ندرة الحديث ويصر على استخدام التلميحات غير اللفظية فلا شك أننا أمام مشكلة اجتماعية عويصة.
ولعل أحد جوانب مشكلة تفاوت معدلات الحديث بين الرجال والنساء ومسبباتها أيضًا أن التنشئة الاجتماعية في مجتمعنا التي تُفضل الذكور على الإناث، وتحرص على تدليل الأبناء الذكور، تسهم في تربية نسبة لا بأس بها من الرجال، يكاد يكون التواصل الاجتماعي عندهم مع الزوجة أحادي الاتجاه، وطبعًا ليسوا هم الطرف النشط فيه أبدًا؛ ليس فقط لأنهم لا يعرفون كيف يعبرون عن مشاعرهم، بل لأن لديهم رفضًا للتعبير قولًا أو فعلًا؛ أنانيون وحبهم لأي شخص بمثابة ابتزاز عاطفي بكل معنى الكلمة، ويفتقدون القدرة على العطاء المتبادل، مهما كان العطاء المتطلب بسيطًا.
لكن غالبًا يكون توصيف المشكلة على النحو الذي ذكرناه أولًا؛ فالرجال كأنهم أصنام لا ينطقون، رافضين الإقرار بوجود مشكلة كبرى لدى أغلبهم في التعبير عما يحبون وعما يبغضون بسبب الفروق البيولوجية، والنساء تتحدث أكثر من اللازم وفقًا لهم، وهم فوق ذلك لا يستمعون لهن؛ فغالبًا ما يدخلون كهفهم العقلي يتقوقعون فيه عند مواجهتهم ضغوطًا قوية. أي إن لديهم مشاكل كبيرة فيما يخص الإفصاح عن الذات وكذا في الاستماع في علاقاتهم مع النساء!
وسبق أن ذكرنا –في مقال آخر- أن التراث ‏الحضاري والثقافي للمجتمعات يؤثر أيضًا في اختلاف الأدوار الجنسية للذكور والإناث بها، وما يترتب عليه من سلوكيات، لكن العجيب أن التاريخ لا يذكر لنا أن الرجال العرب في مراحل سالفة من تاريخنا كانوا يعانون من عدم القدرة على المبادأة في التقرب للأنثى ولعب الدور الجنسي الذكري وما يترتب عليه. في علاقته بالنساء كان العربي ينظم الأشعار لتعبر عن مكنون قلبه، بينما كثير من الحالات المعاصرة التي درستها كانت لرجال يفتقدون الثقة بالنفس في ‏مواجهتهم هذه النوعية من المواقف الاجتماعية، وسلوكياتهم تعتبر غير لائقة وغير مناسبة فيها باعترافهم!
والحقيقة أنها ظاهرة محيرة بالفعل لأنه يستحيل عزو هذا التغير السلوكي عبر الأجيال إلى الانفتاح على الثقافة الغربية، كما أن انتشار هذه الظاهرة في المجتمع المصري خاصة يبدو محيرًا لتزامنها مع انتشار ظاهرة اجتماعية أخرى شديدة الانحلال، وهي التحرش الجسدي واللفظي من بعض أشباه الرجال!
أخيرًا فإن ما لا يعلمه كثير من الرجال أن الثرثرة -أو الفضفضة كما تسميها النساء- قد تكون من أكبر المنبئات والدلائل على تعاسة المرأة وافتقادها الإحساس باهتمام الرجل؛ فالمرأة توهم نفسها عندما تتحدث معه أن لها قيمة عنده وأنه يستمع لما يشغلها، والرجل برفضه الإنصات لها يعظم المشكلة ويفاقم الهوة بينهما. كما أنها قد تكون أحيانًا دليلًا على وجود مشكلة لدى المرأة لا علاقة للرجل بها، فالمرأة عندما تُوضع تحت ضغط تتكلم كثيرًا على العكس من الرجل. وسنتناول هذه النقطة بالشرح في مبحث "أسلوبا التواصل الذكري والأنثوي".

مشكلات معالجة المعلومات في مخي الرجل والمرأة
ذكرنا في مقال سابق وجود اختلاف بيولوجي في المعالجة المخية للمعلومات بين الذكور والإناث، وأن مخ المرأة ذو معالجة متعددة للمعلومات، ويعمل كشبكة مترابطة تستطيع تأدية العديد من المهام في وقت واحد، بينما مخ الرجل أكثر تدقيقًا وتركيزًا على مهمة واحدة يؤديها، وتكون معالجته للمعلومات انعزالية كما لو كان يعالج المهمة التي يعمل عليها في غرفة مغلقة لا اتصال بينها وبين باقي الغرف في مخه، وبسبب نقص الترابط العقلي هذا فهو يحتاج إلى وقت كي ينتقل تركيزه من معالجة نوعية من المهام إلى معالجة نوعية أخرى.
كما أن الرجل بإمكانه أن يطفئ مصباح تفكيره، ولا يفكر في أي شيء، وهي طريقته المستخدمة للتخلص من الضغوط، على العكس تمامًا من المرأة.
وهاتان النقطتان الخاصتان بنظام معالجة المعلومات يسببان إشكالية في التواصل اللفظي بين الجنسين بسبب سوء اختيار المرأة لزمن التواصل اللفظي، وظنها أن بإمكانها أن تفاتح الرجل في أمر هام في أي وقت يكون هو مشغول فيه في أمر آخر، أو غير مهيأ للاهتمام بالمهمة التي تطلب منه الانتباه لها، والرجل من جانبه لا يُقصر فإن اتصلت الزوجة وهو في العمل لا يرد أو يرد لكن لا يكاد يسمع شيئًا مما قالت، وإذا ما تمت المفاتحة في الموضوع المتطلب فور عودته من العمل فهو يظهر الاستماع بينما لا يسمع فعليًا أو قد يصل الأمر إلى الشجار الذي يبدأه هو. لكن اللافت أنه حتى لو لم يتشاجر الرجل، فإن الزوجة هي التي قد تتشاجر بعد فترة عندما تكتشف أنه لم يكن ينصت لها لأنه لم يفعل ما كان يتطلب عليه فعله لو كان قد أنصت لما أخبرته!
وهناك إشكالية أخرى يُسببها اختلاف نظامي معالجة المعلومات لدى كلا الجنسين تنشأ عن غرفة اللا شيء التي يتقوقع فيها الرجل عندما يمر بضغوط، ولا يكاد يتكلم مع المرأة أو يُفهمها سبب ضيقه، وهي من جانبها لا تستطيع أن تتقبل هذه الحالة التي يعزف فيها عن الكلام معها وتوضيح سبب ضيقه. حتى لو فهمت أن هذا طبيعي بالنسبة له كرجل لن تستطيع أن تتقبل! هذه هي طبيعة المرأة!

المقاطعة والتحكم أثناء المحادثة
تعتبر المقاطعة من أهم أنماط المشكلات التي تظهر أثناء الحوار اللفظي بين الجنسين. وتحدث المقاطعة سواء التقط الذكر خيط الحديث أثناء توقف الأنثى عن الحديث بين جزء وآخر وهو يدرك أنها لم تنهِ كلامها، أو عندما يجبرها على عدم إكمال جملتها من الأساس، وهنا تكون المقاطعة أوقع أثرًا.
كثير من الدراسات التي أُجريت لدراسة الحوارات بين الذكور والإناث في نطاق العمل وليس العلاقات الشخصية ذكرت أن المقاطعة تحدث غالبًا من قِبل الرجال، ورُؤيت كشكل من أشكال إظهار التحكم والسيادة. لكن، في العلاقات الشخصية يندر وجود هذه المشكلة، فالنساء تتشكى من قلة كلام الرجال وليس من مقاطعتهن أثناء الحديث.
هذا ويجب التأكيد على أن الفرد بامكانه إحداث تأثير أفضل في الآخرين أثناء التفاعل الاجتماعي بإحداث التوازن بين كونه متحدثًا وكونه مستمعًا.

الحساسية اللفظية تجاه المخالفة في الرأي
كما يقاطع الرجال النساء في المحادثات الثنائية في مجال العمل كأحد صور الهيمنة الذكرية فإن مشاكل التواصل قد تنشب في العلاقات الشخصية بين الجنسين عندما يتضح للرجل أن للمرأة رأيًا يخالفه في بعض الموضوعات والرؤى.
يمكن توصيف أشهر حالات رد الفعل الذكري في هذا المضمار في أنه إما أن يتوقف الأمر عند إعلان الرجل عدم تقبل الاختلاف، وغضبه من مخالفتها إياه الرأي، واعتباره شكلًا من أشكال عدم الولاء والخذلان له. ويكون هذا الإعلان لفظيًا أو غير لفظي بالخصام لإظهار تأثره من جراء فعلتها الطائشة! أو يتعدى رد الفعل إلى إبداء تقبل ظاهري للخلاف، ثم الدخول في نقاش حول الموضوع بهدف محاولة تقريب وجهة نظره لزوجته.
وترجع ردود الفعل تلك إلى ارتفاع شديد في الحساسية اللفظية لدى الرجال تجاه مخالفة شريكة الحياة في الرأي في الموضوعات الهامة، ولنتذكر أن الدنيا كلها لو ساندت الرجل لن تغنيه عن مساندة زوجته، وفقدان مؤازرتها يشق على الرجال. أم المؤمنين السيدة خديجة رضي الله عنها سُمي عام موتها عام الحزن، وذُكر أمر زوجتي سيدنا نوح وسيدنا لوط في القرآن تخصيصًا من بين قوميهما المشركين لأن وقوفهما ضد زوجيهما لا شك أحزنهما.
لكن، هذه ليست فقط ردود الفعل الممكنة، فقد يكون النقاش عريضًا لا يكاد ينتهي من قِبل الزوج، مدعيًا أنه يعبر عن رأيه! ويحاول إفهامها وجهة نظره! بينما حقيقته فرض رأيه عليها والحجر ‏على حريتها في التعبير، والغرض منه إقناع المرأة أنها على خطأ وإلزامها بتغيير موقفها. وهو نوع من الخداع يظهر إلى أي حد يسيء بعض العرب إلى ثقافة الاختلاف والنقاشات الفكرية.
وكثير من الرجال عامة يتعاملون مع النساء على هذا النحو، وكأن صورة الزوجة المرآة لا زالت تحاصر ‏تفكيرهم رغم ادعاءات الحداثة.‏ ربما يظن زوجته طفلة –كما في زمن جدته- أخرجوها من المدرسة ليزوجوها إياه وتتطبع بطبعه وتتشرب أفكاره فليس ‏يُتوقع أن تخالفه!‏
وقد نجد أمثال هذه النقاشات الإلزامية في العالم الافتراضي على الشبكة العنكبوتية؛ حيث يكثر من لا يريدون أن يحاوروك بل أن يخضعوك لرأيهم! فإن كان صاحب أحد الرأيين امرأة فلن تعدم من يعطي نفسه حق النقاش معها ليخبرها ما الذي يجب عليها أن تعتقده، وإن كانت لا ترغب في محاورته من الأساس، وغالبًا لا تعرفه! والتصرف الأمثل هو تجنب هذه السفاهات التي تُلبس زورًا لباس الفكر بالحظر.

القمص!
قَمَصَ يَقْمُص ويَقْمِص، قَمْصًا وقِماصًا، فهو قامِص، ومنه قَمَصَ الْوَلَدُ: قَلِقَ فِي نُفُورٍ، وقَمَصَتِ الدَّابَّةُ: نَفَرَتْ وَضَرَبَتْ بِرِجْلَيْهَا.
والقمص مشكلة لفظية هامة، رغم أن من عوارضها نقص الكلام! هذه المشكلة تنتشر أكثر لدى الذكور، وتزيد في سن المراهقة لارتفاع الحساسية اللفظية في هذا العمر، وقد تختفي بعد ذلك، وقد تستمر بين الذكور البالغين، وتوجد بدرجة أقل لدى الإناث.
معروف أن مهارة الحساسية اللفظية لا تقتصر على امتلاك الفرد القدرة على تفسير الكلمات أثناء التفاعل الاجتماعي، وإنما تشتمل الوعي بآداب السلوك الاجتماعي وفهم القواعد والمعايير التي تحكم السلوك الاجتماعي الملائم، والالتزام بها. ولأنها مهارة استقبال وليس إرسال فإجادتها تستلزم الانتباه للآخرين والإنصات الجيد لهم وملاحظة سلوكهم لأجل استقبال أي تلميحات أو إشارات لفظية تصدر عنهم مهما كانت بسيطة.
عادة فإن الشخص مرتفع الحساسية اللفظية يلاحظ إشارات يغفل عنها من تنخفض عنده تلك المهارة، لكن المشكلة أن ارتفاع الحساسية اللفظية عندما يتلازم مع انخفاض التعبير اللفظي –وأحيانًا انخفاض الضبط اللفظي أيضًا- يكون عائقًا كبيرًا أمام الفرد للمشاركة في التفاعلات الاجتماعية.
هذا الصنف الحساس لفظيًا يغضب لأي إشارة –قد تكون خاطئة- تصدر عن الآخر في التفاعل الاجتماعي، وتزيد الحساسية كلما كان طرف التفاعل قريب من قلبه، ولأن التعبير اللفظي لديه منخفض فهذا يؤدي إلى تفاقم المشكلة لأنه لا يعبر عما أزعجه؛ فيحدث النفور السلوكي ممن يحب، المعروف بـ "القمص"، والذي قد يؤدي به لعلاقات سيئة مع من يتواصل معهم بشكل يكاد يكون مستديمًا، فما أن تنصلح حتى تتدهور!
أحد جوانب المشكلة الأساسية يتمثل في أن هذا الشخص ولضعف قدرته على التعبير تزيد توقعاته من الآخر وتقل توقعاته من نفسه، فهو لا يرى أنه يجب عليه لعب دور موازٍ لما يقوم به الآخر؛ فدائمًا على الآخر أن يقوم بعدة خطوات في مقابل خطوة واحدة منه، ويجد لنفسه من المبررات ما يكفي لتحصينها من الاتهام بالتقصير.
والأهم، أن الشخص القامص يعتبر أن سلوكياته النافرة هي رد فعل لما أزعجه من الآخر، لكن ولأن الآخر لا يفهم بالأساس لماذا هو غاضب منه، فتلك السلوكيات النافرة الصادرة من القامص تمثل بالنسبة لذاك الآخر فعلًا وليس رد فعل، ويتحير تمامًا في رد الفعل الملائم الذي يجب أن يصدره نحوها، خاصة لو كانت العلاقة بين الطرفين لا تسمح بالتقارب والسؤال المباشر الصريح عن سبب هذا الغضب والنفور غير المبرر!
مع تكرار تلك المواقف قد يحدث تدمير العلاقة تمامًا، خاصة في العلاقات الشخصية التي لا تحمل رباط الدم، فأي صديقين أو زوجين أو حتى شريكي عمل يكون أحدهما قمّاصًا سيشعر الآخر أن الاحتفاظ بالعلاقة يستهلكه ذهنيًا ونفسيًا، وفجأة تأتي عليه اللحظة الفارقة التي يقرر فيها إنهاء علاقته بذلك الشخص الذي يلوي بوزه بلا سبب واضح! رغم أنه يعلم جيدًا أن هذا الشخص الحساس هو شخص طيب للغاية وحنون جدًا رغم تصرفاته التي تبدو قاسية.

النصائح البسيطة التي تُقال لأي شخص قمّاص:
*خفِّف من حساسيتك تجاه الإشارات الاجتماعية، ولا تجعل من إساءة الظن سببًا لتخريب علاقاتك بمن تحب.
*عبّر عن نفسك، ولا تتصور أن من تتعامل معه سيفهم سبب غضبك من تلقاء نفسه.
*حاول أن تستمتع بعلاقاتك الاجتماعية التي تعيقك حساسيتك عن الاستمتاع بها، فأنت تحول حياتك وحياة من تتعامل معهم إلى دراما دائمة ذات فصول، ومعرفتهم بطيبتك ليست ضمانًا لاستمرار علاقتهم بك.

التوحد مع الدور المهني ومحاولة نقله إلى العلاقات الشخصية
هناك مشاكل تواصل لفظي شائعة أخرى تنشأ بسبب عدم ضبط محتوى الحديث وليس بسبب معدله؛ وهي مشكلات تتعلق بمهارة الضبط اللفظي، أي عدم القدرة على لعب الدور الاجتماعي المناسب؛ فكثيرون يفتقدون المهارة في ضبط الاتجاه والمحتوى في حواراتهم؛ بمعنى معرفة كيفية الخطاب الصحيحة وما ينبغي أن يُقال، والتي تختلف باختلاف شريك الحوار. وكثيرًا ما نرى مشاكل تحدث من جرّاء إخبار أشخاص بموضوعات لم يكن يصح إخبارهم بها!
وتتسبب هذه الإشكالية في فشل الفرد في لعب الأدوار الاجتماعية المختلفة بجدارة في حياته بوجه عام، وليس فقط في فشله عاطفيًا. والدراسات التجريبية في هذا الميدان أثبتت وجود علاقة طردية موجبة بين مهارة الضبط اللفظي (إجادة لعب ‏الأدوار) وبين الثقة بالنفس.
ولعل أشهر مشاكل إساءة لعب الأدوار الاجتماعية هي مشكلة التوحد مع الدور المهني ومحاولة نقله إلى العلاقات الشخصية. والأسئلة الهامة التي تطرح نفسها هي: لماذا يتوحد بعض الأشخاص مع دورهم المهني ويمارسوه بلا وعي في علاقاتهم الشخصية ما يؤثر سلبًا على الصحة النفسية لهم ولمن يتعاملون معهم على المستوى الشخصي؟ ولماذا يستطيع آخرون فك الاشتباك بين الدور المهني والأدوار الاجتماعية الشخصية، ويستطيعون أن يقيموا علاقات اجتماعية ناجحة ويحافظوا على صحتهم النفسية هم وشركائهم في العلاقات الشخصية؟
الملاحظ أن هذه الإشكالية تحدث غالبًا لدى من يعملون في أعمال قيادية أو حققوا نجاحًا مهنيًا كبيرًا، خاصة لو صاحبه شهرة. كما تظهر هذه الإشكالية أكثر لدى كبار السن ممن حققوا نجاحًا مهنيًا عندما يحاولون الاندماج في مجتمعات جديدة أو مع أشخاص جُدد.
لكن لا يعني هذا أن كل من له تلك الظروف سيقع ضحية هذا التوحد في الدور المهني، وما يجره من مشاكل اجتماعية، كما وليس بالضرورة أن يكون للعمر أثر. ولعل أشهر حالة مثلت عكسًا للصورة النموذجية لهذا التوحد هي حالة الفنان عادل أدهم.
تزوج عادل أدهم في شبابه من زوجته الأولى، وكانت شابة مقاربة له في العمر، وتركته وعادت إلى بلدها اليونان لسوء معاملته لها بعد أن كان قد بدأ يشعر بالنجومية، في حين أن زوجته الثانية التي تزوجها بعد أن صار نجمًا بحق، لكن بعد أن كان قد تعلم ووعى الدرس متأخرًا، ورغم فارق العمر الكبير بينهما، قد أحسن معاملتها لدرجة انفطارها في الحزن عليه بعد موته.
ولعل العلاقة الارتباطية بين التوحد في الدور المهني والعمر الكبير يرجع إلى النموذجين الشهيرين اللذين قدمتهما السينما المصرية، وكانا إضافة لذلك غاية في التنفير من فكرة فارق العمر الكبير بين الزوجين. هذان النموذجان هما فيلم "أين عمري؟" الذي لعبت بطولته ماجدة، و "نهر الحب" لفاتن حمامة، وفي الحالتين كان البطل زكي رستم، والذي تفنن في إظهار قسوته الشديدة وعدم مراعاته لمشاعر زوجته، كما كان في الفيلمين شكل من أشكال التوجيه من كاتب الحوار لإظهار أن هذه القسوة ومعاملة الزوجة من علٍ، كان لفارق السن دور فيها، إضافة لمكانة الزوج الاجتماعية.
الحقيقة أن هذين النموذجين السلبيين يمكن أن يُوجدا، لكن ليس بالضرورة؛ بمعنى أن فارق العمر الكبير بين الزوجين منبيء سيء باحترام وحسن معاملة الزوجة أو عدم احترامها، وأغلب الشكاوى التي تأتي من زوجات لهذه الأسباب يكون فارق العمر لا يكاد يُذكر بينها وبين زوجها.
لكن بعيدًا عن مبالغات الدراما السينمائية فإنه قد تحدث بالفعل إشكاليات أحيانًا عند زواج الناس في عمر كبير، أو محاولتهم بناء صداقات جديدة، خاصة من حققوا منهم نجاحًا مهنيًا كبيرًا في حياتهم، يكون له تأثيره السلبي أحيانًا على نجاح علاقاتهم الاجتماعية؛ ذلك أن مشكلة التوحد في الدور المهني قد تظهر؛ فهو ببساطة لا يستطيع أن يقيم علاقات إنسانية بسهولة يتعامل فيها مع الناس بصفته الشخصية. هو يرى نفسه فلان بيه. لأجل ذلك فإن كثيرًا من كبار السن يحاولون استرجاع صداقاتهم القديمة عندما يكبرون لأن من يعرفونهم من قديم هم الوحيدون الذين يقدرون أن يتعاملوا معهم على سجيتهم وطبيعتهم كبشر من غير صفتهم المهنية.
لكن هذا لا يحدث مع الجميع، وقصة عادل أدهم مع زوجتيه الأولى والثانية تثبت أن الإنسان هو من بيده أن يقرر أن يعيش حياة شخصية يتمتع فيها بالصحة النفسية، أو يعيش حياة شخصية معوقة تفقده السعادة هو والمحيطين به، والعمر لا دخل له، كما أن فارق العمر بينه وبين زوجته لا دخل له.